منيت مدينة حلب اليوم الأربعاء ٢٠١٩/٦/١٩ بوفاة شيخنا وأستاذنا العلامة المحقق المحدث الفقيه الأصولي التقي المنور ذي الجبين الأزهر الشيخ محمد عدنان بن الشيخ العلامة الفقيه المحقق الشيخ محمد الغشيم عن ٧٥ عاما قضاها في التعلم والتعليم والثبات على المنهاج العلمي القويم والخلق الكريم بعد معاناة مع المرض في السنوات الاخيرة.
ولد شيخنا - روّح الله روحه - عام ١٩٤٤، واشتغل بالعلم من نعومة أظفاره فتلقاه بهمة قعساء وتعشق وتحرق، وانتسب إلى المدرسة الشعبانية وتلقى العلم عن أساتذتها الفضلاء، ولازم والده المحقق الفقيه الشيخ محمد الغشيم في الفقه الشافعي وتلقى عنه الإقناع للخطيب الشربيني وغيره، وأخذ عن شيخ والده مفتي الشافعية بحلب المحمية العلامة الشيخ محمدأسعد العبَجي، وأخذ العربية عن شيخنا العلامة احمد القلاش والشيخ محمد المعدل، والحديث عن شيخنا الإمام الشيخ عبدالفتاح أبو غدة وهو شيخه الأول في الحديث وعن شيخنا الإمام الشيخ عبدالله سراج الدين، وأكبّ شيخنا على حفظ متون الحديث والنظر في علم الاصطلاح والرجال وتمييز الصحيح من الضعيف وتحقيق حال الأحاديث الدائرة على الألسن، ووجّه لذلك عنايته صارفا لذلك همته ففاتته الرواية عن أكثر المسندين الكبار، وقد حدثني شيخنا أن الشيخ نعمان حبوش رحمه الله رفيقه في طلب الحديث كان يحثه وهما بمكة والمدينة على الرواية عن كبار المسندين فكان شيخنا يقول له: لأن أجلس فأحفظ حديثين وأقرأ جزئين خير لي من إضاعة الوقت وراء الإجازات من غير قراءة ولا سماع، ثم إن الشيخ التفت مؤخرا الى ذلك واكتفى بالرواية عن والده ومشايخه عبدالفتاح وسراج الدين والعبجي وأضاف إليهم الرواية عن عن مسند العصر الشيخ محمد ياسين الفاداني والشيخ المحدث الهندي عاشق إلهي البرني والشيخ المسند حسين عسيران، وكتب إجازة كان يناولها لطلابه ومحبيه.
لم يكتف الشيخ بما تلقاه عن أشياخه فقد كان عاشقا للعلم يسهر ليله ويدئب نهاره في التحصيل وكان مكبا على القراءة وحفظ متون الأحاديث مع مخرجيها، وكان كثير النظر في مسند الإمام أحمد قد فرغ نفسه للتحصيل والتعليم وتخفف من أعباء الإمامة ومخالطة الناس في مناسباتهم وافراحهم وأتراحهم، ولما ظهر الحاسوب وانتشرت البرامج العلمية والحديثية اقتنى الشيخ جهازا وتعلم كيفية استخدامه من بعض تلاميذه وصار يطيل النظر فيه والاستفادة من برامجه ويضع اللابتوب بين يديه حين الدرس ويمزح معنا إذا سئل عن حديث أو جرى البحث في مسألة وتنازعنا في أمر أو شككنا فيقول: دعونا نسأل الشيخ جوجل فهو حافظ العصر.
ولما تخرجت من المعهد الديني الاعدادي والثانوي دار نهضة العلوم الشرعية لزمت دروس شيخنا ملازمة تامة لما تتميز به من تحقيق وتعليق ومراجعة للمشكلات وسعة اطلاع ، فحضرت عليه شرح الجرهزي على نظم القواعد الفقهية للأهدل وأجزاء من فتح الباري للحافظ ابن حجر وأغلب كتاب توجيه النظر في مصطلح أهل الأثر للعلامة طاهر الجزائري وربع كتاب الإقناع في حل الفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني في الفقه الشافعي ومواضع من شرح المنار في أصول الحنفية للحصكفي مع مراجعة حاشية ابن عابدين نسمات الأسحار، وحضرت أكثر شرح الزرقاني على الموطأ الذي كان يقرأ على شيخنا العلامة احمد مهدي الخضر وكان يحضر معه ويعلق شيخنا عدنان وشيخنا القلاش عند إقامته بحلب، وصحبت شيخنا حضرا وسفرا، وزرته ببيته مرارا، وناولني نسخته من تدريب الراوي للسيوطي وقد ملأ حواشيها بالتعليقات وألحق بها أوراقا خارجية فنسختها وطرزت بها نسختي، كما ناولني نسخته من إسعاف المبطأ برجال الموطأ للحافظ السيوطي فنقلت تعليقاته الحافلة ونقداته السديدة على الطبعة التي حقفها الأستاذ موفق فوزي جبر، ومن أواخر زياراتي لشيخنا رحمه الله زيارة كانت بصحبة سيدي الوالد ببيته الجديد بالحمدانية جدد لي فيها الإجازة وناولنا إجازته المطبوعة، وكان يشيد لي بأبحاث شيخنا المحدث العلامة محمد عوامة وتحقيقاته ومقدماته للكتب التي يحققها، وقد رأيته ذات يوم زائرا شيخنا القلاش وهو يشرح لنا ابن عقيل فقبل يده وجلس بين يديه متأدبا فعلمنا حينئذ انه شيخه قرأ عليه العربية.
وحدثنا شيخنا مرارا: إن حلب كانت تحفل بالعلماء وتزهو بالمدرسين النجباء وكنت ترى طلاب العلم يغدون إلى حلقات العلم ويروحون، ثم خلت بقاعها المعمورة وأجدبت مدارسها المأنوسة من هذه الحلق بعد أحداث الثمانينات( هكذا كان الناس يسمونها) إذ هاجر منها كثير من العلماء فرارا بدينهم من بطش حافظ الأسد و أجهزته الأمنية ومضايقاتهم، وسكن ببيته من لم يهاجر، فعلا صوت الخطباء والوعاظ والمنافقين والمتملقين وخفت صوت العلماء المحققين الربانيين، وندر أن ترى طالب علم ممسكا كتابه يسرع الخطا إلى حلقة علم، ثم حصلت انفراجة في منتصف التسعينيات وازدهت حلب بعودة بعض العلماء وافتتاحهم دروس العلم.
وأخبرنا شيخنا رحمه الله -وكان مملقا قليل ذات اليد- أنه ثبت في حلب وفضل الإقامة بها على الرغم مما يعترضه من رقة الحال ومضايقات أمنية قياما بفرض الكفاية في نشر العلم وإسقاطا للإثم، وأن بعض طلاب العلم اللبنانيين عرفوا حال شيخنا وأدركوا سعة اطلاعه وغزارة علمه ومتانة تحقيقه فرغبوا إليه أن يقيم في لبنان ليتلقوا عنه العلم وينعم براتب مجز وبالراحة والأمان، فكان شيخنا يأبى قائلا: ومن سيقيم دروس العلم بحلب؟ ومن سيقرئ فتح الباري؟ ومن سينشر علم الحديث؟ ومن سيقرئ الإقناع والقواعد الفقهية وقطر الندى وتدريب الراوي وغيره من كتب العلم الأصيلة التي كان شيخنا يتفرد بتدريس كثير منها بحلب في المساجد؟
فجزى الله شيخنا عنا وعن طلاب العلم خير الجزاء فقد كانت دروسه في مسجد أسامة بن زيد بأقيول( أغير) موردا عذبا كثير الزحام، وكان يحتشد لها ويفيض علينا فيها من علمه وحافظته ويشنف آذاننا بالفوائد التي يمليها علينا ويدونها في قصاصات يملأ بها نسخته.
هذا وللشيخ رحمه الله مقالات جمعها في كتاب سماه "فتاوى حديثية" طبعه في ثلاثة أجزاء.
إن المصاب بفقد شيخنا كبير، والرزء جلل، فإنه من بقية العلماء الراسخين الصالحين الجامعين بين الفقه والحديث.
هذه شذرات من حياة شيخنا العلمية المباركة ولولا خشية الإطالة والإملال لزدنا عليها وأفضنا.
رحمك الله يا سيدي الشيخ عدنان ونور قبرك وأعلى مقامك وشفع فيك حبيبك محمدا صلى الله عليه وسلم الذي كنت تحفظ حديثه وتذب عن شريعته وتكثر الصلاة عليه وجزاك الله عنا أفضل ما جزى شيخا عن طلابه.
أتقدم بأحر التعازي لأبنائه وأحفاده وطلابه ومحبيه وأسأل الله أن يخلفنا في شيخنا خيرا.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول