العلامة المؤرخ الأديب الشاعر محمد أمين المحبي

 

 

حدث في الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1111هـ

 

في الثامن عشر من جمادى الأولى من سنة 1111 توفي في دمشق، عن 50 سنة، محمد أمين المحبي المؤرخ الباحث والأديب الشاعر وصاحب كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر.

 

ولد محمد أمين بن فضل الله بن محب الله بن محمد بن محب الدين المحبي سنة 1061 في دمشق لأسرة علمية مرموقة يعود أصلها إلى حماة، وكان جده محب الدين قاضي دمشق لفترات بلغت 16 سنة، وأخذ عنه العلم كثير من مشايخ دمشق وعلمائها، وكان والده المولود سنة 1031 من علماء دمشق المرموقين الفضلاء، متميزاً بالبلاغة وحضور البديهة، مليح النثر والنظم، ويعرف اللغتين الفارسية والتركية، فاهتم بتعليم ولده فحفظ القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره، على الشيخ إبراهيم بن رمضان الدمشقي المعروف بالسقاء، والمتوفى سنة 1097.

 

قال المحبي عن والده في نفحة الريحانة: وكان هو حريصاً على فائدة يلقيها علي، وعائدة يجر نفعها إليّ، حتى خصَّني بتعليم ما تفرد به من صنعة الإنشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

 وكانت والدته من أسرة الأسطواني المعروفة بالعلم والفضل فجده لوالدته هو أبو الصفاء بن محمود الأسطواني المتوفى سنة 1060.

 

وكان والده في بداية أمره غير معروف في أوساط الدولة العثمانية، وفي سنة 1064 تولى قضاء دمشق القاضي محمد بن لطف الله بن زكريا بن بيرام، واسم شهرته على عادة الأتراك شيخي وعزتي، ويقال له كذلك محمد العربي، وكان صهر شيخ الإسلام في استانبول، وصارت بينه وبين الوالد علاقة وثيقة وصلة حميمة، فسعى للوالد حتى حصل على وظيفة قضاء آمد، وهي اليوم ديار بكر، ولما صار عزتي قاضياً في استانبول سنة 1072 حفز هذا والد المحبي أن يسافر إليه ليساعده في أن يحظى بوظيفة تليق به، فسافر في سنة 1073 إلى الروم وأقام بها 4 سنوات دون أن يصحب معه أسرته، وأثار هذا الغياب حنين المحبي الشاب وحرك شاعريته فقال باكورة شعره، وأرسلها في صدر رسالة إلى والده:

 

أتراه يسرني بالتلاقي ... ونواه قد لج في إحراقي

 

كيف أسلو عهوده وغرامي ... فيه أضحى وقفاً على الأشواق

 

قد تصبرت بالضرورة حتماً ... وأرى الصبر عنه مر المذاق

 

فلعل الزمان يقضي بجمع ... ليَ من بعد طول هذا الفراق

 

ولكن لم يرق للوالد أن يلتفت ابنه الناشئ إلى الشعر، وخشي أن يشغله عن طلب العلم، فكتب إليه: وقد قرأت الأبيات التي هي باكورة شعرك، وعنوان نجابتك إن شاء الله تعالى وعلوّ قدرك، فإياك من الشعر، فإنه كاسد السعر، ويشغل الفكر، وعليك بالاشتغال لتبلغ درجة الفحول من الرجال، والله سبحانه يبقيك، ومن كل سوء يقيك، ويقرّ عين أبيك فيك وفي أخيك.

 

وفي غياب والد محمد أمين اهتم به عمه شقيق والده صنع الله، قال عن ذلك المحبي في ترجمته لعمه: وكان لي مكان والدي، فإن أبي سافر إلى بلاد الروم وعمري إحدى عشرة سنة، فتقيد بي ورباني، وأقدمني على الطلب، وجعل أهم أمره أمري، وكان، جزاه الله تعالى عني خيرا، برا بي، شفوقا عليّ، مريدا لي كل خير عاجل وآجل، وما عهدت منه لحظة ما إساءة أو مقتا، بل كان رحمه الله تعالى يألم لما آلم منه، وينشرح لما أنشرح له، بل يغضب لغضبي ويرضى لرضائي، وعلى كثير من مناهجه في التودد نهجت، وعلى آدابه وحسن طويته درجت، وكان، بلَّ الله ثراه بوابل الغفران، لطيف الطبع حمولا، فاضلا كاملا طارحا للتكلف، حسن العشرة متوددا. ثم يذكر المحبي أنه صحب عمه في عدة أسفار إلى الروم، كانت لطلب الوظيفة، وأن العم توفي في سرمين قاضياً عليها في رمضان سنة 1097.

 

ويبدو أن خاله محمد بن أبي الصفا الأسطواني اعتنى به كذلك، لأنه يقول في ترجمته: وله عليّ حقُ تربية وتعليم. وتوفي الخال في سنة 1077.

 

وأخذ المحبي اللغة العربية عن الشيخ إبراهيم بن منصور الفتال، المتوفى سنة 1098 وقد ناهز السبعين، وكان أفضل أهل زمانه علما وأدبا وفقها وعربية، مع الوقار والأدب والتواضع والاتصاف، قال عنه المحبي: ضربت بحضرته أطناب عمري، وأنفقت على فائدته أيام دهري، وتروَّيت من المعرفة بروائع كلامه، وملأتْ سمعي درُّ الأصداف من آثار أقلامه، وكان ينوِّه بي ويشيع أدبي.

 

وأخذ المحبي عن نجم الدين الفرضي، محمد بن يحيى، المولود سنة 1018 والمتوفى سنة 1090، وقال عنه: كان أعظم شيخ أدركناه واستفدنا منه، وكان في العلم والتقوى والزهد فرد الزمان وواحد الأقران، ولم أر مثله في تفهيم الطلبة، والحرص على تهذيب قرائحهم وجبر خواطرهم، مع أنه كان رحمه الله تعالى حاد المزاج سريع الانفعال لكنه إذا انفعل يرضى في الحال ويتلافى ما كان منه... وأدركته أنا أولاً وهو يدرس دروساً خاصة بجامع بني أمية فقرأت عليه الأجرومية... ثم شرع في قراءة شرح القواعد للشيخ خالد وشرح تصريف العزي للتفتازاني، ومن حين شروعه فيهما لزمته لزوماً لا انفكاك معه إلا مجالس قليلة إلى أن أتمهما.

 

وأخذ المحبي طريق التصوف على السيد محمد بن عمر العباسي الخلوتي الدمشقي، المتوفى سنة  1076 عن سن عالية، وقال عنه: وانتفع به الجم الغفير الذين لا يمكن حصرهم، وأعطاهم الله تعالى حسن السمت والقبول ونوَّر حالهم ببركته ودعائه،  وقد وفقني الله سبحانه وتعالى للأخذ عنه والتبرك بدعواته وكان يتحفني بإمداداته الباطنية.

 

ودرس المحبي الهندسة والمنطق على الشيخ محمود البصير الصالحي الدمشقي، وقال عنه: شيخنا الفاضل الذكي الفطن، نادرة الزمن وأعجوبة الوقت، وأطروفة الدوران، كان في الفضل سابقاً لا يُملك عنانه، وفي الذكاء فارساً لا يُشق ميدانه، وله جمعية نوادر وفنون لا تحوم حولها الأوهام والظنون... كان قوي الحافظة، جيد الفكرة، كثير التدبر للمشكلات، جوال الطبع في المباحث... وأخذت أنا عنه المنطق والهندسة والكلام، وكان هو لما أخذ الهندسة احتال على ضبط أشكالها بتماثيل من شمع عسلي كان يمثلها له أستاذه، فضبطها ضبطاً قوياً، فلما قرأتُ الهندسة عليه، كنت أعجب من تصويره الأشكال كما أخذها عن أستاذه، وكان يقول إذا برز الشكل الذي اصطنعه فليقابل الشكل الذي في الكتاب... ثم اعتنى بعلم الطب حتى تمهر فيه جداً، ثم مل الإقامة بدمشق لقلة ذات يده، ولعدم وظيفة يحصل منها على نفقته، فسافر إلى الروم فتعرف بأكابر الدولة، واشتهر فيما بينهم بالحذق والفهم، ولم يزل يتدرج حتى وصل إلى مصاحب السلطان مصطفى باشا، فقربه إليه وأحبه واعتمد عليه في أمر مزاجه وأمزجة حواشيه، فنال الحظوة التامة بسبب تقربه إليه، وساعده الحظ، فانحلت المدرسة الشامية البرانية بدمشق عن الشيخ علي بن سعودي الغزي، فطلبها فوجهت إليه، ولكنه أسرع إليه مرض السل واستحكم فيه... وأدركه الأجل لدى وصوله إلى قسطنطينية في سنة 1084.

 

وقرأ المحبي الحديث على محدث دمشق المعمَّر محمد بن بدر الدين بن بلبان البعلي الدمشقي الحنبلي، المتوفى سنة 1083، وقال عنه: كان بقية السلف وبركة الخلف.

 

وبعد طول انتظار نال والد المحبي وظيفة قضاء بيروت فعاد إلى دمشق في أول سنة 1077، ورحل بعد 3 أشهر إلى بيروت ليزاول مهام منصبه، واصطحب معه أسرته، ولكن مناصب القضاء في ذلك الزمان لم تكن في أحسن حالاتها لتدوم أكثر من سنوات قليلة، وهكذا عزل والد المحبي بعد قرابة سنتين، فعاد والده إلى الشام وتفرغ لكتابة تاريخ لها، كان فيما بعد أحد مواد تاريخ المحبي في كتابه خلاصة الأثر، وتوفي الوالد في 23 جمادى الآخرة سنة 1082.

 

واستفاد المحبي من والده ومن زواره وأقرانه، ومنهم الأمير الشاعر الأديب مَنْجك بن محمد بن منجك المنجكي الدمشقي، المولود سنة 1007 والمتوفى سنة 1080، والذي كان في عزلة خرج منها قبل نحو سنة من موته، ووافقت عودة والد المحبي معزولاً من بيروت، فصار الأمير يزور والده في يوم، قال المحبي: كان كل يوم غالباً يزور أبي، فيتفرغ عن جميع أشغاله لمحادثته، وكان يقع بينهما محاورات عجيبة ومحادثات غريبة، وكنت أنا أقف في خدمتهما، وكثيراً ما يخاطبني الأمير، ويطلب من والدي دواوين الشعراء المفلقين، ويجلسني ويأمرني بقراءة قصائد ينتقيها لي، ويسألني عن بعض ألفاظ مغلقة منها، فأجيبه عما أعرفه، وكان يدعو لي، ويحرص على فوائد يلقيها علي، وكتبت عنه في ذلك الأثناء أناشيد كثيرة من شعره وشعر غيره.

 

ويبدو أن والد المحبي كان يريد لابنه أن يلتحق بسلك المشيخة التابع لشيخ الإسلام في استانبول، وطريق ذلك يدعى بالملازمة، وهو أن يلازم طالب العلم عالماً من العلماء ملازمة عرفية اعتبارية، هي المدخل عند العثمانيين لطريق التدريس والقضاء، وكان قد طلب ذلك من صديقه القاضي محمد بن لطف الله الذي سبق ذكره، فلما صار هذا في سنة 1079 قاضي العسكر في ولاية الأناضول، أنجز ما وعد وأرسل للمحبي الابن ملازمة في مدرسة لامعي في بروسة بمرتب قدره خمس وعشرون عثمانيا، ثم نُقِل القاضي إلى قضاء عسكر ولاية الروم، فأرسل إلى المحبي ملازمة مدرسة خواجا خير الدين بثلاثين عثمانيا.

 

وبعد وفاة والده ببضع سنوات، سافر المحبي في أول سنة 1086 إلى بروسة وبعدها إلى القسطنطينية في رحلة ستستمر قرابة 6 سنوات، وسافر فيها مع عمه صنع الله صحبة مفتى السلطنة العثمانية محمد بن عبد الحليم المعروف بالبُرْسوي، المتوفى سنة 1093، والذي كان عائداً بعد عزله من قضاء القدس، وكان البرسوي صديق والده من قبل، ورافقه الوالد إلى القاهرة لما ذهب قاضياً إليها في سنة 1059، ولما عزل منها عاد في طريقه إلى دمشق فنزل في بيت الوالد.

 

وكان عمه يريد من سفره أن يحظى بمنصب قضائي، وتم له ذلك فقد ولِيَّ قضاة معرة مصرين فعاد إليها من الروم، ومكث المحبي في القسطنطينية متفيئاً ظلال صديق والده القاضي الكبير محمد بن لطف الله بن زكريا بن بيرام، كما فعل والده من قبل، ويبدو أن الأمر صدر بتعيين المحبي قاضياً، وهو ما لم يكن يرغب فيه، ولا يناسب نزعته الأدبية وشاعريته الرقيقة، وكان المحبي يطمح أن يبقى مرتبطاً بدائرة شيخ الإسلام في ولاية الروم، ولكنه لم يوفق إلى ما يريد، فقد كان قاضي القضاة قد اعتزل الناس وما عاد يخرج إليهم إلا يومي الثلاثاء والجمعة، وكان صريع الأمراض الشديدة المبرحة، قال المحبي: وكانت الأمراض قد أثرت فيه تأثيراً بالغاً، وأحناه الضعف حتى صار كالقوس، وكان لا يقدر على الحركة إلا بمشقة عظيمة، وكانت النزلات تعتريه في دماغه. وتوفي القاضي في شوال من سنة 1092، فعاد المحبي إلى دمشق، وقال عن ذلك: ولم أُقِم بعد وفاته بالروم إلا يوماً واحدا، ورحلت إلى دمشق، وأنا الآن أليف حزنه وكئيب مصابه.

 

وفي رحلته هذه درس المحبي على المولى أحمد بن نور الله البولوى، نزيل قسطنطينية المعروف بذكي، وقال عنه: أحد من لقيته من فضلاء الروم وأدبائها البارعين، وهو أمثلهم في معرفة فنون الأدب واللغة، وأرواهم للشعر العربي، وأحفظهم للوقائع والأخبار، وكان مع ذلك متقنا للفقه والفرائض والأصول، كثير الإحاطة بمسائلها، وقد جمع إلى تحقيق العجم فصاحة العرب... وكنت وأنا بالروم لزمته للأخذ عنه والتلقي منه، فقرأت عليه أصول الفقه، وأخذت عنه الفرائض والعَروض، ورسالة الربع... وأعطي قضاء القدس في رجب سنة 1093 وقدم إلى دمشق وأنا بها، فاجتمعت به ثم سار إلى القدس، وسلك في قضائه بها مسلكاً معتدلا ثم عزل، وقدم إلى دمشق في ذي الحجة سنة 1094، ثم توجه إلى الروم وهو مريض فمات في الطريق.

 

وكذلك درس المحبي في رحلته على أبي زكريا الملباني، يحيى بن محمد بن محمد، النايلي الشاوي الملباني الجزائري المالكي، والذي جاء من الجزائر إلى الحجاز فمصر فدمشق فالقسطنطينية حيث التقى به المحبي، وقال عنه:  وكنت الفقير إذ ذاك بالروم، فالتمست منه القراءة فأذِنَ فشرعت أنا وجماعة من بلدتنا دمشق وغيرها...  في القراءة عليه فقرأنا تفسير سورة الفاتحة من البيضاوي مع حاشية عصام الدين الاسفراييني عليها ومختصر المعاني مع حاشية الحفيد والخطائي والألفية وبعض شرح الدواني على العقائد العضدية وأجازنا جميعاً.

 

والتقى المحبي في هذه الرحلة بعدد من أهل الأدب والعلم ممن ذهبوا إلى أبواب الدولة العثمانية طلباً للوظائف الدينية أو الدنيوية، ومن هؤلاء السيد عبد الله بن محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد أبي الفيض الشهير بابن قضيب البان الحلبي، وصارت بينه وبين المحبي صداقة امتدت إلى ما بعد مغادرتهما الروم إلى الشام، قال عنه المحبي: كان مع علو قدره وسمو شأنه، لين قشرة العشرة، ممتع المؤانسة، حلو المذاكرة، جامعاً آداب المنادمة، وكان أحد المبرزين بحسن الحظ مع أخذه من البلاغة بأوفر الحظ، وشعره وإنشاؤه في الألسنة الثلاثة حلو مطبوع.

 

والتقى المحبي في هذه الرحلة بالمحدث الفقيه الصوفي محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، البخشي البكفالوني الحلبي الشافعي، المولود بقرية بكفالون سنة 1038 والمتوفى بمكة سنة 1098، وقال عنه: واجتمعت به بأدرنة، ثم اتحدت معه اتحاداً تاماً، فكنا نجتمع في غالب الأوقات، وكنت شديد الحرص على فوائده وحسن مذاكرته مع الأدب والسكينة، وما رأيت فيمن رأيت أحلم ولا أحمل منه، وكان روَّح الله تعالى روحه من خيار الخيار كريم الطبع مفرط السخاء، ثم اجتمعت به بقسطنطينية بعد عودنا إليها.

 

والتقى المحبي بالأديب عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن السمان الدمشقي، المولود بدمشق سنة 1055، والذي بغتته منيته في أدرنة سنة 1088، قال عنه المحبي: صاحبنا الفاضل الأديب الألمعي البارع، كان مفرط الذكاء، قوي الحافظة، وله الاطلاع التام على أشعار العرب الخلص وأيامهم وأمثالهم، وكان يحفظ منها شيئا كثيرا وقد عاينته مرات وهو يسرد من أشعارهم ألف بيت أو أكثر من غير أن يزيغ عن نهجه، أو يشرق بِرِِيقِه، وكانت فكرته جيدة في النقد والغوص على المعاني وحسن التأديب. وكان ابن السمان مشغوفاً بالشطرنج أعجوبة في لعبه.

 

وهذه الرحلة التي قام بها المحبي وعمه ومن قبله والده وغيره ممن ذكرنا من الأفاضل والأدباء كانت مَنْسكاً غير محمود من مناسك تقلد الوظائف في الدولة العثمانية، وأمراً لا بد منه لتولى المناصب العائدة لشيخ الإسلام في استانبول كالقضاء والتدريس والفتيا سواء كانت الوظيفة جليلة أم صغيرة، وهو أمر لم يخلص منه صغير ولا كبير، وحفت به في كثير من الأحيان الشبهات، والأدهى من ذلك أن الوظيفة وبخاصة القضاء كانت لا تدوم لأكثر من سنة أو اثنتين، يعزل بعدها القاضي ليبدأ مسعى آخر من جديد.

 

وفي سنة 1101 حج المحبي إلى بيت الله الحرام، والتقى فيه بعدد من المشايخ وأخذ منهم الإجازات منهم الشيخ أحمد بن محمد النخلي المولود سنة 1040 والمتوفى سنة 1130.

 

للمحبي مؤلفات عدة، وأول كتاب ألفه كتابٌ أدبي تاريخي صنفه على نمط اختطه الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر، وسار عليه بعده عدد من الأدباء المؤرخين، وانتهى النهج قبل المحبي إلى القاضي شهاب الدين الخفاجي، أحمد بن محمد بن عمر، المولود سنة 977 والمتوفى سنة 1069، والذي صنف كتابه: ريحانة الألبّا وزهرة الحياة الدنيا، فجمع فيه بين الترجمة المسجوعة وإيراد شيء من أشعار وأقوال من ورد ذكره، وكان والد المحبي قد التقى بالخفاجي في مصر وتصادقا غاية الصداقة، وعاد بكتابه الريحانة وغير من كتب الخفاجي إلى دمشق، حيث قرأها المحبي الابن ورضع من لبان آدابها.

 

تأثر المحبي بكتاب الخفاجي، وجعله ذيلاً له، ولذا سمى المحبي كتابه: نفحة الريحانة ورشحة طِلا الحانة.  وقال في مقدمته: وكان كتاب الريحانة للشهاب، الذي أغني عن الشمس والقمر، وأطلع الكلام ألذ من طيب المدام والسمر... أمنية رجائي الحائم، وبغية قلبي الهائم... فخطر لي أن أقدح في تذييله زندي، وآتى في محاكاته بما اجتمع من تلك الأشعار عندي...  فأقدمت سائلاً من الله أن يجعله سهلاً، وأنا أستغفره لتطلعي لما لست له أهلا. ويقول في ترجمته للخفاجي: وله كتاب الريحانة الذي ذيّلت عليه، واقتبست نور الهدى بتوجه رغبتي إليه، وما أنا بالنسبة لما أبدعه...  إلا كمن جارى الحصان بالأتان... وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصا.

 

وألف المحبي كتاب نفحة الريحانة بعد أن تجاوز الثلاثين من العمر، وبعد أن عاد من رحلته إلى استانبول وبلاد الروم، تصحبه خيبة أمل بعد أن لم يحقق ما كان يرجوه من تلك الرحلة، فقد قال في المقدمة: ثم لما... رأيت الدهر قد عاندني في الديار والأحباب، وكساني المشيبَ قبل أن أعرف مقدار حق الشباب، وقد ولتني الثلاثون أذنابها، وصبت عليَّ المصائبُ ذنابها... بعد ما كان ذَرعي عن هموم الأثر خالياً، وحالي ببُرْد العيش حالياً، فرمت الشام بعزمة المنتاب، وقد رضيت من الغنيمة بالإياب، فحللتها في عصر ذهب رواؤه، وفرغ من المعارف إناؤه... ولزمت كسر البيت، وسكنت سكون الميت، متكفكفاً بما في يدي، ومستدفعاً ليومي وغدي... لا سمير لي أوانسه، ولا جليس عندي أجانسه، سوى أوراق مزقتها الريح، وفرقت شملها التباريح، التقطتها كل واحدة من بقعة، وجمعتها من كل رق رقعة، أكثر ما فيها أشعار لأهل العصر، الذين ضاق عن الإحاطة بمفاخرهم نطاق الحصر، ممن رأيته فكانت رؤيته لعيني جلا، أو سمعت به فكانت أخباره لمسمعي حلى.

 

ومن الواضح من المقدمة أن فكرة الكتاب كانت في خاطره منذ زمن، فجمع في أوراق وجذاذات تراجم وأشعار أبناء عصره ومصره، وكاتب من سمع به من الشعراء في الأقطار يطلب منهم نماذج من أشعارهم، فلما عاد من استانبول خالياً من العمل تفرغ للكتاب وإخراجه، وتحوي أبواب الكتاب الثمانية نماذج من أشعار وأقوال أدباء دمشق، وحلب، والروم، والعراق والبحرين، واليمن، والحجاز، ومصر، والمغرب، وكان له في وقته قبول وانتشار بين الأدباء لما حواه من الأشعار ولأسلوبه السجعي الرائج في ذلك الوقت، وسعى كثير من الأدباء وطلبة العلم لقراءته على المحبي، إذ يذكر المرادي في كتابه سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر في ترجمة محمد أمين بن إبراهيم الأيوبي المولود سنة 1078 والمتوفى سنة 1177 أنه كان: آخر من أدرك الأمين المحبي وطالع عليه نفحته.

 

وختم المحبي كتابه النفحة بإيراد شيء من أقواله وأشعاره، أما أقواله فهي في الحكمة على منهج الزمخشري في الكلم النوابغ، ومما قاله رحمه الله:

 

في الأحاديث صحيحٌ وسقيم، ومن التراكيب مُنْتِجٌ وعقيم.

 

شفاعةُ اللِّسان؛ أفضلُ زكاة الإنسان.

 

أعمارُ الكرام مُشاهَرة، وأعمار اللئام مُداهَرة.

 

إذا صحِبْتَ فاصْحَب الأشراف تَنَلِ التشريف، فإن المُضافَ يكْتسب من المضاف إليه التَّنكير والتعريف.

 

قيامُ النفوس بالوِداد، أوْلَى من قيام الأجساد للأجساد.

 

إذا وافَى الأجَل، اصْطَلح الظنُّ والأمل.

 

من لحظنِي بنظرٍ شَذْر، بِعْتُه بثمن نَزْر.

 

ثم أورد المحبي أرجوزته في الحِكم والتي سماها راحة الأرواح، منها:

 

وهذه تَحائفٌ أُهديها ... من حِكَمٍ لمن وَعَى أُبديهَا

 

سميتُها برَاحة الأرواح ... جالبة السرور والأفراحِ

 

الناسُ إخوانٌ وشَتَّى في الشِّيَم ... وكلُّهم يجمعُهم بيتُ الأدَمْ

 

ورُبَّ شخصٍ حسنٍ في الخَلْقِ ... وهو أشدُّ من شَجىً في الحَلْقِ

 

مَن كان يهوى منظراً بلا خَبر ... فماله أوْفقُ من عشق القمر

 

ميعادُ دمعي ذِكرُ أيامِ الصِّبا ... وجُلُّ شَجوِي عند هَبَّةِ الصَّبَا

 

مضَى نشاطِي إذ تولَّى الصَّحبُ ... ما أعْلَمَ الموتَ بمَن أُحبُّ

 

صبراً على الهموم والأحزان ... فإنَّ هذا خُلُقُ الزمان

 

مَن لم تكن أنتَ له نسيبا ... فلا تُؤمِّلْ عنده نصيبا

 

والناسُ إن سألتهم فَضْلَ القُرَبْ ... حاولتَ أن تجْنِي من الشوك العنب

 

ثم أورد بعض من أبياته المفردات، ومنها:

 

إذا تَناءتْ قلوبٌ ... لا كان قربُ ديارِ

 

غُصَصُ الحياةِ كثيرةٌ ولقد ... تُنْسِي الحوادثُ بعضُها بَعضاَ

 

كنتُ مُستأنِساً إلى كل شخص ... فأنا الآن نافِرٌ من خيالي

 

أما أهم كتب المحبي فهو كتابه الجامع: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، وألفه بعد سنة 1102 لأن آخر تاريخ فيه يقع في ذي الحجة من سنة 1101، ولكن يبدو أن فكرة الكتاب كانت لديه منذ شبابه، فجعله كذلك جذاذات كتبها في مناسبات متفرقة، وتجمعت حتى حان وقت إخراجها، فقد قال المحبي في مقدمة الكتاب: فإني من منذ عرفت اليمين من الشمال، وميزت بين الرشد والضلال، لم أزل ولوعا بمطالعة كتب الأخبار، مغرى بالبحث عن أحوال الكُمّل الأخيار، وكنت شديد الحرص على خبر أسمعه، أو على شعر تفرق شمله فأجمعه، خصوصا لمتأخري أهل الزمان، المالكين لأزمة الفصاحة واللسان... حتى اجتمع عندي ما طاب وراق، وزيَّن بمحاسن لطائفه الأقلامَ والأوراق، فاقتصرت منه على أخبار أهل المئة التي أنا فيها، وطرحت ما يخالفها من أخيار من تقدمها وينافيها، حرصا على جمع ما لم يجمع، وتقييد شيء ما قيل إلا ليسمع... فصار تاريخ رجال وأي رجال، يضيق عند سرد مآثرهم من الدفاتر المجال.

 

ثم ذكر المحبي معاناته في أن يجعل كتابه لا يقتصر على تراجم إقليمه بل يتعداه إلى أخبار اليمن والبحرين والحجاز، وكيف حصل علىها مشافهة في الحج، ثم ساعده من علم بنيته من العلماء والأدباء فأمدوه بكتب تضمنت تراجم أهل اليمن والدولة العثمانية والقاهرة، فتمكن من أن يضمن هذه التراجم كتابه ويجعله بحق شاملاً لأعيان القرن الحادي عشر، وفي ختام المقدمة يقول المحبي: ولا أورد من أحوال الرجل إلا ما تلقيته عن هذه التواريخ، أو سمعته من ثقة، أو ضبطته عن عيان ومشاهدة، ولا أثبت من الكرامات إلا ما تحققته، ولا أعتقد أني وفيت بالمقصود، ولو أوتيت علم ذلك النجم المرصود، بل كل ما آمل من هذا المراد، نيل سعادة ثواب في المبدأ و المعاد. ولا ينسى المحبي أن يعترف بالتقصير ويطلب من الله الستر: وإني وإن قصُرتُ فما قصَّرت، وإن طوّلتُ فما تطولت، وغاية البليغ في هذا المضمار الخطير، أن يعترف بالقصور ويلتزم بالتقصير، فإن المرء ولو بلغ جهده، فالإحاطة في هذا الشأن لله وحده، وإلى الله أتضرع في سد خللي، وستر زللي، ودفن عيبي، ورتق فتق جيبي، إنه الجواد الكريم، ومنه الهداية إلى الصراط المستقيم.

 

واعترف المحبي بفضل من سبقه من المؤرخين عليه فقال في ترجمته المطولة لنجم الدين الغزي صاحب الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة: وله التاريخ الذي ألفه في أعيان المئة العاشرة، وسماه بالكواكب السائرة، والذيل الذي سماه لطف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر والثاني عشر، أحد مادة تاريخي هذا، وكلا الأثرين له جيد جزاه الله على صنعهما خيراً، إلا أنهما يحتاجان إلى تنقيح وحسن ضبط، فإن فيهما الغث وتكرير بعض تراجم وبعض سهو في الوفيات وما خاللـه، إلا أنه أجاد كل الإجادة في هذا الجمع على كل حال، وأما ما فيه من بعض الأغراض، فقد عُرِفت بها المؤرخون في الماضي، وأبرأ أنا منها في الحال، ومن نظر في كتابي بعين الرضا، عرف أني أتلافى كثيراً مما مضى، وبالله أستعين وأستدفع المكروه، واسأله أن يبيض وجهي يوم تبيض الوجوه.

 

وكتاب الغزي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، مشحون بالفوائد القيمة والاستطرادات المفيدة في الأدب واللغة والتاريخ والبلاغة والقواعد والإملاء، ومن الفوائد التي أوردها واستحببت ذكرها إفادته عن طريقة صدور الفتوى في الدولة العثمانية، والتي أوردها في ترجمته لقاضي العسكر عبد القادر الشهير بقدري، المتوفى سنة 1083، قال: وهو صاحب الفتاوى المشهورة بفتاوى قدري، ويطلق عليها لفظ المجموعة، وهي الآن عمدة الحكام في أحكامهم، والمفتين في فتاويهم، وبالجملة فإنها مجموعة نفيسة أكثر مسائلها وقائع كانت تقع أيام المفتي يحيى بن زكريا، وكان هو في خدمة المفتي المشار إليه؛ موزع الفتوى، وموزع الفتوى عندهم عبارة عن رجل يجمع الفتاوى التي كُتبت أجوبتُها، ويدعها إلى يوم الثلاثاء من كل أسبوع؛ فهذا يوم التوزيع، فيقف في مكان من دار المفتي المعين وينادى بأسماء أصحاب الفتاوى، وأسماؤهم مكتوبة على ظهر قرطاس الفتوى، فهذه خدمة الموزع، وأمين الفتوى هو الذي يراجع المسائل من محالها، وينزل عليها الوقائع.

 

ثم استطردَ في الحديث فيما لا يتعلق بصاحب الترجمة بل يتعلق بشيخ الإسلام المفتى يحيى بن زكريا بن بيرام، المولود سنة 999 والمتوفى سنة 1053، فقال: ومن هنا يحكى أن المفتي المذكور كان أعرف أهل زمانه، واجتمع عنده من الحفدة أرباب المعرفة ما لم يجتمع عند غيره، فكان إذا أراد المفاوضة مع أحد في أمر الدنيا والدولة وأحوال الناس، قدَّم المولى محمد بن عبد الحليم البرسوي الذي صار آخرا مفتيا، وكان عنده أمين الفتوى وأقرب المقربين، فيتفاوض معه في هذه الأمور، لكمال فطنته ودربته ومعرفته بأحوال الناس، وإذا أراد المذاكرة في مشكلات الفقه والمسائل، اختار المولى أوزون حسن أي الطويل، وكان من خواصه، وإذا أراد المباحثة في أنواع الفنون العقلية رجح المولى مصطفى البولوي الذي صار آخرا مفتيا، وكان من حواشيه، وإذا أراد المناقشة في الأدب والشعر ميز المولى محمد بن فضل الله الشهير بعصمتي، الذي صار آخرا قاضي العساكر، وكان من ندمائه، وإذا أراد المفاكرة في أمر الآخرة وأحوال المعاد والجنة والنار استدعى صاحب الترجمة...

 

وللمحبي كتب أخرى هي: قصد السبيل بما في اللغة من الدخيل، مرتباً على حروف الهجاء، بلغ به الميم، وكتاب ما يعول عليه، في المضاف والمضاف إليه، وكتاب جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين، وكتاب الدر المرصوف في الصفة والموصوف، وكتاب الأمثال، وله ديوان شعر.

 

وتوعك المحبي فعاده بعض أصدقائه ممن يودهم فكتب إليه يشكره على عيادته:

 

إن يوماً مرضت فيه لَعمري ... خير يوم فديته من يوم

 

قد شفاني فيه حضورك عندي ... وبه الفخر نلت من بين قومي

 

كان المحبي لطيف الهيئة جداً، نحيفاً، أبيض الرأس واللحية، معظَّم الملبس والهيئة، حسن النضارة متواضعاً، حليماً ظريفاً في شكله وهيئته، صاحب طلاقة عجيبة ونكات ظريفة، ولم يرد في كتابيه الريحانة أو خلاصة الأثر أي ذكر لزوجة أو ولد، وهو أمر جد مستغرب من مثله وقد ذكر أباه وأخاه وأخواله وغيرهم من أقاربه، حتى ظننت أنه لم يتزوج، ثم عثرت على ما يفيد أنه لم يعقب غير الإناث، وذلك في الجزء السابع من حاشية ابن عابدين في مقدمة تكملة حاشية ابن عابدين، في الترجمة التي أوردها محمد علاء الدين ابن عابدين لوالده محمد أمين عابدين رحمهم الله، فقد قال: وكانت جدة سيدي أم والده من بنات الشيخ المحبي صاحب التاريخ المشهور، وله أوقاف على ذريته جارية إلى الآن، وأتناول حصتي منها. وقال قبل ذلك في مؤلفات الشيخ: وله ... مجموع آخر ذكر فيه تاريخ علماء العصر وأفاضلهم جعله ذيلاً لتاريخ المرادي الذي هو ذيل لتاريخ جده لأمه العلامة المحبي الذي هو ذيل لريحانة الخفاجي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين