العلاقة بين علماء السلطان و طغاة النظام في الشام -4-

بسم الله ,الحمد لله ,والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد ,فقد تناولت في الحلقة الماضية بعض أسباب انجرار و انحراف دعاة و علماء لمستنقع طغاة الإنس و الجان مما أدرجهم تحت عنوان:"علماء السلطان",

 

 و قد وصلنا في الحلقة السابقة إلى رابط المصالح الدنيوية القذرة التي يبيع بها أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل! و في هذا و أمثاله يتحدث  خاتم الأنبياء و المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام  في زمانه عن زماننا في معرض استشرافه لأيام الفتن في أمته حتى لكأنّه يعيش بيننا اليوم حين تناول الرويبضة  في قوله :" و يتكلم الرويبضة”! بضم الراء و تشديدها ,وفتح الواو ,و تسكين الياء ,و كسر الباء,و فتح الضاد_ قالوا: و ما الرويبضة يا رسول الله؟ قال :الرجل التافه يتكلم في أمر العامة", تفاهته قد تكون بسبب جهله ,و خبث  طويته ,و فساد أفعاله_و ماأكثر هؤلاء في ظل تخريب المؤسسة الدينية الرسمية في سوريا الشام!!!!!_ هذا الرويبضة ليس بالضرورة أن يكون عالما من علماء الإسلام  يتقن اللغة العربية وعلوم الأصول و الفقه و التفسير و الحديث,أو يتقن تلاوة القرآن الكريم إجازة عن أهل هذا الفن!!!

 

إذ يكفي فيه عند علمانيي النظام عمامة و جبة تدخله في سلك العلماء في ظاهره لينال القبول عند العامة , لكن بالرغم من تراجعه في التلقي بين العلماء فإن المناصب الدينية الرسمية  تشرع أبوابها أمام ناظريه له وحده حتى و إن كان في القوم من هو أعلم و أسلم ,بل حتى و لو لم يكن لذلك المنصب أهلا!!!

 

هذا الرويبضة ليس بالضرورة أن يكون ورعاً تقياً بل على العكس تماما فالمطلوب أن لا ينال قسطا من التقوى لكي يكون  في كل وقت حاضرا لتقديم فتاوى جاهزة و تنازلات مشينة حتى و إن ضربت ثوابت العقيدة و الشريعة في مقتل! وألقت الشعب و الأمة في مهب الريح!

 

 كل ما هو مطلوب منه مزيج من الخبث والمكر و النفاق مع امتلاك موهبة الخطابة كي يخدع الجماهير ,و يبرر بين أيديها مراد أسيادها لذي تضيع به مصالحهم !.

 

هذا الرويبضة تقدم له مساحة إعلامية واسعة للتواصل مع الناس ليعرض الغثّ من أفكار رديئة ,و يركب بها الأدلة الخادعة التي تتلاعب بالحقيقة لتصرف وجوه الناس عنها, و تزين الباطل و تجمّله لجعله مقبولا في القاعدة الجماهيرية ليتحقق في هؤلاء الفاسدين من علماء السلاطين و من سار على شاكلتهم من رجال الإعلام المضلين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المعجز: "ستكون سنوات خداعات ,يؤتمن فيها الخائن ,و يخوّن الأمين,و يتكلم الرويبضة...".

 

 تلك الفرص الذهبية  تقدّم إلى تلك الحثالة من أدعياء العلم لإفساد ما لم عجز عن إفساده الإعلام! في حين يحرم الرجال الراسخون في العلم , الرافعون به رأسا, من كافة حقوق التواصل الرسمي مع شرائح المجتمع و عرض أفكارهم المفيدة و الغيورة في جو من الحرية و التلاقح الفكري,و البيان العلمي,لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون ,و يأبى الحق إلا أن يكون أبلجا بالرغم من كيد الكائدين,و تلبيس المبطلين,و خداع علماء السلاطين!

 

أيضا تفاهة الروبيضة قد تكون بسبب جهله بربه,و غفلته عن مقام العبودية بين يديه بالرغم من تخصصه في علوم شرعه ,مما جعله في عداد العصاة الّلاهين الذين يصدق فيهم نص الحديث الشريف الذي يرويه البخاري في صحيحه أنه قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور حمار الرّحى , فيجتمع عليه أهل النار, فيقولون: ألست فلانا الذي كنت تأمرنا بالمعروف و تنهانا عن المنكر ؟فيقول: كنت آمركم بالمعروف و لا آتيه!و أنهاكم عن المنكر و آتيه".!!!

 

لذا لا عجب أن ينقاد من هذا شأنه تمام الانقياد لأسياد طغاة اتخذ منهم قدوة    معرضا عن القدوة التي اختارها الباري عز وجل للمسلمين و ذلك في صريح كتابه الكريم: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". لقد سلم لهم قياد أمره, ورضي أن يتنازل عن كل حرية و رقي و خير جاء به الإسلام في سبيل عرض حقير من دنيا فانية ألقاها له أسياده على طريقة صاحب الكلب حين يلقي فتات الطعام لكلبه, أو على أسلوب راعي البقر الأمريكي حين يقذف بحبله  لثوره  ليجذبه إليه بهوان!

فهذا و أمثاله لا دواء لهم ,فقد ضرب عليهم الرق أحياء و ميتين!و الأخطر من ذلك أن يكون أحدهم قد جمع في صك عبوديته المشين هذا  أسيادا متشاكسين يجذبه كل واحد بقوة إليه, فيمزقونه تمزيقا إثر وقوعه تحت تأثير قوى شد متناقضة بينما يخيل إليك و أنت تنظر إليه أن الدنيا قد سيقت إليه بحذافيرها  قد سيقت إليه مع أنه  في حقيقته ليس أكثر من عبد ذليل تتجاذبه قوى مدمرةتطلب منه ثمن ما وصل إليه من مال و جاه و شهرة و منصب و مجد, بين ماسونية عالمية انسلخ بها عن أمته! إلى بعثية حزبية انخرط من خلالها في دولته! إلى التزامات أمنية قدمها للاستخبارات بوقاحة في مسيرته ! إلى ولاء لنظام طاغية الشام الدموي و القصر الجمهموري كبله و قيده و سلب منه حريته و كرامته في ليله و نهاره و نهضته و قعدته! إلى ارتباطات بالصهيوصليبية العالمية في تل أبيب و واشنطن, و مراكز القرار الاستعمارية في عالم الدمى الذي يدغدغ بما يقدمه من عروض  شهوات و مراكز الحس من نزوته  !

 

    إلى مصير ربط  به مستقبله عندما ألزم نفسه باستحقاقات الحركة الصفوية العالمية في طهران حتى عقّ بها  أمه أمّ المؤمنين عائشة _رضي الله عنها, فقال بها معرضا:"اتق الله يا عائشة"!!! يخاطبها هكذا بكل صفاقة و بصوت عال و دون أن يترضى عنها!!! و لا أدري من الأولى بالدعوة إلى تقوى الله عز و جل ؟هل السيدة عائشة التي قال الله تعالى فيها و في سائر الزوجات:" و أزواجه أمهاتهم" ,أو هذا المعتوه المأجور العاق الذي سلك طريق المنحرفين المفسدين من المغضوب عليهم و الضالين مبتعدا عن سبيل المؤمنين؟!!! و ضمن ذات الاستحقاق المخجل رمى هذا الصنف المنتسب إلى العلم وأهله الصفوة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, من مؤازريه و ناصري دعوته.

و من الآلهة التي استعبدت أدعياء العلم أولئكم حب الظهور الذي أثقل كاهل أحدهم حتى جعله يترنح ترنح السكران في مشيته ! و منها انتماؤه _ظاهرا_لأمة الإسلام في نسبه و عناوينه و مشروعه ولباسه و ما يترتب على ذلك  من مواقف إيمانية ثابتة تتعارض  تعارضا تاما مع ما يملي عليه به  أسياده المتشاكسون مذكرين له دائما بأن عليه أن يقوم بتسديد  فاتورته !

 

و صدق الله_جل و علا_  في سورة الزمر إذ قال: "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون, و رجلا سلما لرجل, هل يستويان مثلا؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون"الآية:29.

 

و والله لو أن هؤلاء تذوقوا طعم الإسلام يوما لما رضي أحدهم بأن يكون عبدا منقادا لغير الله تعالى  و يصدق فيه المثل القرآني: "و رجلا سلما لرجل" ,,ذلك أن الإسلام  تنفرد فيه العبودية لسيد واحد هو الله عز وجل ,فهو  الدين الذي يخرج الباري عز و جل به  العباد من ذل عبودية العباد للعباد إلى عز العبودية بين يدي رب العباد ,و من عبودية البشر إلى عبودية خالق البشر, فيتحررون بذلك من استرقاق ما سوى الله جل جلاله,فيصبحون سادة حقيقيين يتقلبون في فراش الحرية الوثير التي لا يعرفها الضالون المكذبون المتشدقون بالحرية و شعاراتها ,لكن بالرغم من ذلك فإن هذا الصنف من الدعاة الموالي للنظام ما زال يلقلق بمعاني الإسلام بلسانه دون أن يستشعر بها قلبه, و دون أن يتذوق معاني العبودية بين يدي مولاه الخالق الحكيم ثم يستغرقون في الحديث عن الرقائق من كلام الصالحين!

 

لقد عانت الأمة من ظاهرة نفاق أدعياء الزهد على مر التاريخ و العصور,و لقد فجر ذلك صورا لتوصيفهم انقدحت في مخيلة العلماء والشعراء الغيورين ومن هؤلاء واحد ذكره لنا في معرض دروسه الصباحية أستاذنا فضيلة الشيخ كريم راجح _حفظه الله_,حيث نقل عن ابن همام السلولي شعره في هجاء هذا الصنف من علماء الدنيا من أدعياء الصلاح و الزهد:

إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا=لكن حسن القول خالفه الفعل!

ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها=أفاويق حتى ما يدر لها ثعل!

ما أبلغه من وصف عراهم و كشف سترهم ! إنهم إذا قدموا للكلام زهدوك بالدنيا حتى لكأنهم من أزهد الزاهدين بها ! أما إذا نزلوا إلى ساحة من ساحات الحياة الدنيا فإنهم لا يكتفون بما يحتاجونه منها لكنهم يرضعون حليبها رضاعا بنهم دون توقف!

 

انظر إلى الصورة التمثيلية المعبرة لدى الشاعر:

أولا:ذم للدنيا من قبلهم في الوقت الذي يرضعونها فيه!!!

ثانيا:لا يكتفون بالرضاع في وقت الرضاع المعتاد و إنما يقبلون على هذه العملية في غير أوقاتها الطبيعية أيضا! ذلك أن الفواق هو الحلبة بين الحلبتين ,و هي لا تكاد تدر حليبا و بالرغم من ذلك فإنهم لا يوفرونها!

إن جشعهم الذي أرداهم في عشق هذه الدنيا الفانية لم يجعلهم يدورون في فلكها فحسب ,يحصلون حاجتهم و كفايتهم فقط و إنما أحالهم إلى سكارى يريدون كل شيء فيها لأنفسهم مما أقصاهم عن سنة المصطفى عليه السلام في الإيثار و أوقعهم فيما نهى عنه من الأثرة,و من ثم استدرجوا إلى نزاعات مع المحيط من حولهم طالت الأحقاد فيها كل شيء مما أغرقهم في بحر متلاطم الأمواج من الغفلة و العصيان! إن الهيام الذي حل بهم في قلوبهم جعلهم لا يقفون عند  عتبة استحلاب المتع الدنيوية لأنفسهم فحسب, و إنما تجاوزوا ذلك إلى ما لا يدر عادة مندفعين إليه بسائق:(أن لعله يدر)! و هو ما عبر عنه شاعرنا بالثعل  _بضم الثاء و تسكين العين_ و هو خلف زائد_بكسر الخاء_يطلق عليه الناس الحلمة الزائدة  التي تنمو قريبا من الحلمة الطبيعية و هي لا تعطي لبنا في العادة ,أو أن ما يخرج منها _إن خرج_فإنه لا قيمة له, لكن لما أشبهت الحقيقية فقد انقضوا عليها كما انقضوا على سابقتها لعل شيئا ما يخرج  منها فيدخل في حيازتهم!

 

إذن لشدة حرصهم على الدنيا لم يكتفوا  بالموضع الطبيعي من الارتضاع و إنما انتقلوا إلى الموضع غير الطبيعي منه فهل بعد هذا من إقبال على الدنيا و حرص على ما فيها؟! و هل بعد هذا التوصيف الموفّق من توصيف؟! ثم بعد ذلك يتحدثون عن الزهد و يزاودون علينا فيه,زاعمين أنهم من أهله! و والله ما كانوا من أهله يوما ,و إنما هم مشعوذون يوظفون الدين للحصول على ما يستطيعون من تلك الدنيا بعد أن باعوا دينهم في مزادات الماسونية العالمية ,و تاجروا به و تآمروا على أهله في أروقة الاستخبارات الإرهابية,فعاشوا أذنابا يتقلبون في هوان الذيل و أهله الغارقين في المذلة و التبعية! 

لهذا كان أستاذنا فضيلة الشيخ كريم راجح_ شيخ قراء دمشق, و أحد كبار شيوخ الثورة المجاهدين العاملين حفظه الله_ يكرر علينا مقولته التي ربانا عليها: " يا بني,إن لم تكن رأسا فإياك أن تكون ذنبا"! أجل إنها تربية السادة الأحرار التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الأبرار الذين قال الله عز و جل فيهم: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم,......" , و من هذا المنطلق قال الحسن البصري واعظا: (يا هذا لا نوم أثقل من الغفلة ,و لا رق أملك من الشهوة,و لا مصيبة كموت القلب,و لا نذير أبلغ من الشيب), و إنها لأمارة فارقة بين علماء الرحمن الذين منهم جمّ غفير من علماء الشام داخل الحدود و خارجها, و بين علماء الشيطان الذين يناصرون النظام الدموي الحاقد الجاسم بقسوة و عناد و إرهاب فوق ربا و ذرا الشام!

 

و يا لبؤس هؤلاء يوم جمعوا الشر من أطرافه حين ضرب عليهم رق الأهواء و الشهوات, فانزلقوا إلى  مرحلة توقف دقات الخشية في سويداء قلوبهم! دون أن ينبههم إلى خطر ما آل أمرهم إليه شيب علا رؤوسهم ,فكان أدنى ما سجله الباري عليهم نوم ثقيل شغلوا به عن حمى أمة مستهدفة مضيعة بأمثال هؤلاء الأموات الواعظين, وحاجتهم للوعظ و التزكية و التربية  والتنبيه أولى ثم أولى ثم أولى !!!!!!!

أخيرا :  فقد ينقاد الإنسان للظلم خشية من سطوة الجلاد  فيغدو كالببغاء يردد ما يقوله السلطان حتى و إن خالف كلامه إيمانه  و قتاعته , و هذا الصنف من الناس أقلهم سوءا,  لكنه في الشكل و المظهر  و النتيجة مع قطاع طريق الآخرة سواء بسواء , بيد أنّ أمرهم بين يدي جبار الأرض و السماء ليس واحدا حين يقوم الناس جميعا ليوم المرجع و المآب و هي نقطة سنتناولها في معرض هذا المبحث  بالتفصيل في موضعها إن شاء الله تعالى.

إذن ليس من وقف على منبر في الشام  ذاما علماء و دعاة الإسلام من رجال الثورة و الهيئات و الروابط الشرعية كان عالما,  و ليس كل من انتقدهم  كان عالما صادقا أو  خطيبا مقتنعا بما يقول ,أو حرا فيما يفعل  ,أو أمينا على دينه ,أو غيورا على أمته و بلده ,لأن الذي انسلخ من عمره خمسة عقود ثم لم ير حقيقة هذا النظام في فجوره و بغيه و حقده على الإسلام و حربه لأمة الإسلام فهذا مريض مرضا مزمنا  بذهاب عقله,مجنون  جنونا مطبقا ,مكانه الطبيعي في مستشفى الأمراض العقلية, أو عميل تافه خائن لن يفلت من عقاب العزيز الذي لا يغلب و ذلك  في الدنيا  قبل  الآخرة, أو جبان رعديد في ظل نظام لا يعرف الخطوط الحمراء في تعامله , و هذا الأخير مصيره أن يعود إليه تماسكه و ينطق بكلمة الحق يوما لكن ليس من هذا الصنف رجل لا يدع فرصة إلا و يدافع فيها عن هذا النظام ,لأن درء المفسدة  الشخصية قد يكفي فيها موقف واحد يقي سوء غضبة الطغاة, أما التسبيح بحمد النظام و جرائمه بكرة و عشيا فذاك صنيع المنافقين المحترفين الذين هم جزء من طغيان النظام و ليسوا جزءا من دعاة و علماء الإسلام,و لن يكونوا.

و إلى لقاء قادم بإذن الله تعالى في الجزء الخامس من هذا الموضوع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين