العلاقة التاريخية بين السلطنة العثمانية والبطريركية المارونية:انسجام أم خصام؟

في حمأة الاحتفالات بمئوية لبنان الكبير الأولى كثرت المقالات والدراسات، وتعمقت المواقف والآراء، والكل يريد أن يخبرنا عن مكنونات (خبايا الزوايا)، فاختلطت الأحداث مع الآراء والأهواء والتحليلات.

وهذه مشكلة بعض الذين يكتبون في التواريخ، فهم قلما يتجردون عند إيراد الروايات والأحداث، وليس المطلوب منهم الانخلاع عن عواطفهم وانتماءاتهم، وإنما المطلوب بكل بساطة أن يفصلوا بين الحدث وبين قراءتهم له، وبهذه الطريقة يحفظون لنا المصادر نقية، وفي الوقت نفسه يخبروننا بقراءتهم للأحداث التي يفترض أن تتقيد بحدود الحدث حتى تكون صادقة.

ومن هذا القبيل ما قرأته على كثير من المواقع الإلكترونية من كلام منسوب إلى (الأب جورج صغبيني)، من الكنيسة المارونية، يسرد فيه بعضًا من سيرة البطريرك إلياس حويك، فيذكر أنه «زار السلطان عبد الحميد خلال سنة 1905، فنال منه وسامًا رفيعًا. ولمّا عاد إلى لبنان رفع نصب تمثال سيدة لبنان في حريصا لأنها نجّته من ظلم ذلك السلطان». هكذا، علما أن حصوله على النيشان كان في زيارته الأولى للآستانة سنة 1890، وأن تمثال سيدة لبنان بني سنة 1904، كما سيأتي مفصلا.

وبعيدا عن أخطاء التواريخ التي لم يحكمها الأب صغبيني، أقول: هل فعلا بنى البطريرك حويك تمثال العذراء بسبب نجاته من هذا السلطان الظالم؟ 

ولو كان الأمر صحيحا فلم يقول عقب الإنقلاب عليه والإطاحة به: «لقد عاش لبنان وعاشت طائفتنا المارونية بألف خير وطمأنينة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولا نعرف ما تخبئ لنا الأيام بعده». وكان الأولى أن يعبر عن ارتياحه من هذا الظالم؟

إنه تساؤل مشروع، وخير من يجيبنا عنه أمين عام اللجنة الأسقفية للحوار الإسلامي المسيحي، المؤرخ الدكتور الأباتي أنطوان ضو. هذا العالم العلَم، الباحث في عمق وثائق البطريركية المارونية، الذي لا يقول كلمته جزافا، وإنما ينقلها عن أصولها أمانة. بل ويفرح أيما فرح عندما يقع على وثيقة تنطق بالعلاقات الطيبة التي كانت بين الموارنة والسلطنة العثمانية، ومنذ يومين فقط (الثلاثاء 2 / 9 / 2020) اتصل بي في ساعة متأخرة (س 11,30) ليلا ليقرأ علي وثيقة تعود إلى العام 1763 تتلكم عن المجمع اللبناني الذي عقد في دير سيدة اللويزة بتنظيم من الكنيسة المارونية وأنه وضع في ظل السلطنة العثمانية هيكلية جديدة على صعيد الكنيسة ومؤسساتها التربوية والاجتماعية، وأنه كانت لهذا المجمع نظرة خاصة للغة العربية ، حيث أصدر توصية جاء فيها: «نأمل من رؤساء المدارس والأديار أن يعلموا الأولاد حب التُقى وصفوة اللغة العربية». 

وأخذ يشرح لي كيف برز في تلك الحقبة أحد رواد النهضة، وهو المطران جرمانوس فرحات الذي قام بتأليف كتاب عن تعليم اللغة العربية، متخذا الأمثلة التطبيقية من الإنجيل، وأن المطران عبدالله قراعلي، وكان مطرانا على بيروت، قام بتطوير القوانين الشرقية، وأخذ كتاب الفتاوى لخير الدين النابلسي – المعروف بالفتاوى الخيرية - وألزم الموارنة بتطبيق القوانين الإسلامية.

المؤرخ الدكتور الأباتي أنطوان ضو مكرما في الحركة الثقافية – انطلياس

نعم، لقد زار البطريرك حويك اسطانبول في عام 1890، والتقى السلطان عبد الحميد الثاني الذي منحه الوسام المجيدي من الدرجة الثانية ، ونفحه مبلغ عشرة آلاف ليرة عثمانية لصالح المدرسة المارونية في روما، وهو ما لم يذكره الأب صغبيني، ثم قابل الصدر الأعظم وشخصيات بارزة عديدة في الباب العالي، واستطاع خلال لقائه مع السلطان من تسوية العديد من المشاكل المتعلقة بالطائفية المارونية ومتصرفية جبل لبنان. على ما يذكره المرافقون له. وهو أيضا مما أغفله الأب صغبيني.

البطريرك حويك وعلى صدره النيشان المجيدي

ثم توجه إلى إسطنبول مرة ثانية عام 1905، وبقي في العاصمة العثمانية من 17 أكتوبر إلى 2 نوفمبر، والتقى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للمرة الثانية. 

وكل ما يذكر عن هذه الزيارات يدل على أن العلاقة بينهما كانت علاقة ود واحترام، ولم تشيها أية شائبة.

بل إن الأباتي ضو يذكر في مقابلة مع موقع (سفير الشمال) الإلكتروني، أن «الدولة العثمانية ساهمت في نهضة جبل لبنان والمنطقة، وكانت علاقتها مع المسيحيين إيجابية جدا، وكان الانفتاح سيد الموقف، كما أن الموارنة كانوا يتطلعون الى سلاطين بني عثمان بكل احترام بسبب اعتدالهم وعدالتهم، وقد انعكس ذلك على البطريركية المارونية التي فتحت المدارس واستقدمت المطابع وأنشأت المكتبات العامة، وعملت على تطوير الحياة الدينية والاجتماعية، كما أسست المدرسة المارونية التي ساهمت في نهضة لبنان». فأين هذا الكلام من ذاك؟

وأكد الأباتي ضو «أن العلاقة الوطيدة بين السلطنة العثمانية وبين الموارنة تجسدت من خلال أكثر من بطريرك زاروا الأستانة والتقوا السلاطين ومنحوهم الأوسمة والهدايا، وكانت لديهم مكانة خاصة في دوائر السلطنة»، وذكر منهم «البطريرك بولس مسعد» الذي «سافر إلى الآستانة، والتقى السلطان عبد العزيز الذي استقبله بحفاوة بالغة، وقدم له مساعدات كثيرة خلال فترة المجاعة التي اجتاحت جبل لبنان»، وأن البطريرك أرسل «رسالة إلى السلطان عبدالعزيز عام 1871 يشكره فيها على إمداد مناطق جبل لبنان بالحنطة خلال فترة المجاعة».

ويضيف «وكذلك البطريرك إلياس الحويك الذي أتى من باريس إلى الأستانة، واستقبله السلطان عبدالحميد الثاني مع 18 شخصا، (عام 1890) بحضور أركان السلطنة والصدر الأعظم، وقد ألقى الحويك خطابا مشهودا أمام السلطان، وعندما حاول المترجم ترجمة كلامه قال السلطان: أنا أفهم ما يقوله من إخلاص عينيه».

ويذكر الأباتي أنطوان ضو «أن السلطنة لم تتدخل في شؤون الكنيسة المارونية الداخلية، وتركت الحرية لها في انتخاب بطاركتها من دون طلب الموافقة من الباب العالي، بعكس الطوائف الأخرى، لذلك كان الموارنة منفتحين على الدولة العثمانية، وكان كثير منهم يسكنون في الآستانة، ولديهم مناصب ودرجات عليا في السياسة والاقتصاد». 

وفي مقالة نشرتها جريدة النهار بتاريخ 22 تشرين الثاني 2014 تحت عنوان: (الشخصيات المارونية في اسطنبول أواخر العهد العثماني) ذكرت مجموعة شخصيات، منها مثلا: 

سليم باشا ملحمة: كان موظّفًا رفيع المستوى في إدارة الدين العامّ العثمانيّة. وفي بداية القرن العشرين، عُيِّنَ وزيرًا للمياه والغابات، ثمّ حاكمًا على ولايات عثمانيّة مختلفة في أوروبا الشرقيّة العام 1909. كما أدّى دورًا بارزًا تحت حكم السلطان عبد الحميد الثاني، لا سيّما في اختيار المتصرّفين على "لواء جبل لبنان". 

وخليل غانم: كان سياسيًّا فاعلًا في إسطنبول، وأحد كتّاب الدستور العثمانيّ مع مدحت باشا عام 1875. وقبل ذلك، كان ترجمان والي دمشق العثمانيّ مدحت باشا، إلى أن أصبح الأخير الصدر الأعظم. 

وإذا كان الأمر على ما سبق ذكره من حقائق تثبت حسن العلاقة بين البطريركية المارونية والسلطنة العثمانية، فلم يخاف البطريرك حويك على نفسه من السلطان عبد الحميد؟ وهل صحيح أنه بنى مزار سيدة لبنان فرحا بنجاته من (هذا السلطان الظالم) على قول الأب صغبيني؟

بناء صرح سيدة لبنان

كل المراجع تذكر أنه بتاريخ 8 كانون الأول من العام 1854، أعلن البابا بيوس التاسع عقيدة «الحبل بلا دنس» تكريما لمريم عليها السلام، وأنه بعد مرور خمسين عاما على هذه العقيدة (1904) أراد البطريرك حويك إنشاء صرح يخلد هذه العقيدة. وقد تهيأت الأرض والأموال، ولم يبق إلا الإذن من السلطات العثمانية، لأنه لا يمكن إقامة صرح بهذا الحجم بدون إذن سلطاني خاص، وهكذا طلب البطريرك من المتصرف مظفَّر باشا أن يرسل إلى الآستانة لاستصدار الإذن. 

وبالفعل أرسل متصرّف جبل لبنان مظفّر باشا برقية يطلب فيها موافقة اسطنبول، فكانت المفاجأة أن الجواب أتى بالموافقة سريعا بعد أربع ساعات فقط، ومنهم من قال خمس ساعات، فيما كانت مثل هذه المراسلات تأخذ عادة وقتا طويلا..

هذه هي الأخبار الموثقة المذكورة في الأصول والمصادر، والتي تثبت أن العلاقة كانت جيدة جدا بين البطريركية المارونية والسلطنة العثمانية، وأن العلاقة بين البطريرك الدويهي والسلطان عبد الحميد كانت مبنية على الثقة المتبادلة وليس على الخوف، لذلك كان السلطان لا يتردد في الاستجابة لأي طلب يطلبه البطريرك حويك خصوصا، والدليل على ذلك الاستجابة الفورية، على الرغم من بعد المسافة، لطلب بناء تمثال سيدة لبنان.

وأن هذه العلاقة إنما ساءت بعد الإنقلاب على السلطان عبد الحميد واستلام مجموعة الضباط الإحرار أصحاب النزعة الطورانية السلطة، والعمل على (تتريك السلطنة) بالقوة، وهؤلاء علاقتهم ساءت مع كل شرائح المجتمع العثماني، وليس فقط مع الموارنة، وفيما كتبه أمير البيان شكيب أرسلان غُنْيَة. 

وعليه: فلم يريد البعض اختلاق مشكلات لا وجود لها؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين