العلاقات الاجتماعية في الإسلام (4)

رابعاً: العقاب المترتب على سوء العلاقات الاجتماعية:

حرص الإسلام على بناء العلاقات الاجتماعية السليمة، ورتب عليها الأجر والثواب وجعلها من أسباب النجاة يوم القيامة، وحذر من كل ما يوهن الأمة ويضعف صفها ويشتت أفرادها، فنهى عن التنازع والخلاف قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].

ورتب الإسلام العقاب على سوء العلاقات الاجتماعية، وجعل الإضرار بها سببًا للوقوع في الهلاك والتعرض يوم القيامة للعذاب، وسوف نعرض بعض النماذج التي تسيء إلى العلاقات الاجتماعية ويترتب عليها في الآخرة نوع من العقاب:

1- نشر الكفر والضلال:

تنتشر بين بعض الشباب موجة من الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل خاصة بعض أولئك الذين هاجروا إلى بلاد غير مسلمة نتيجة للظروف العصيبة التي تمر بها بلادهم، فأصابتهم حالة من السخط ورد الفعل على ما كانوا يؤمنون به من المبادئ وما يحملونه من القيم والدين، وصدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه وراحوا يكتبون على وسائل التواصل وينشرون في منصاتهم وقنواتهم سخريتهم واستهزاءهم بدين الله عز وجل غير مبالين بمن سيتأثر بهذه المنشورات، قال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل: 24-25] وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبِع فإن له مثل أوزار من اتبعه، ولا ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى فاتُّبِع فإن له مثل أجور من اتبعه، ولا ينقص من أجورهم شيء"([35]).

والمعنى: أن من سنَّ سنة قبيحة عظم عقابه حتى إن ذلك العقاب يكون مساويًا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، قال الواحدي: ولفظة: "من" في قوله: (ومن أوزار الذين يضلونهم) ليست للتبعيض؛ لأنها لو كانت للتبعيض لخفَّ عن الأتباع بعض أوزارهم، وذلك غير جائز لقوله عليه السلام: (من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) ولكنها للجنس أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع([36]).

2- الغدر:

الغدر هو نقض العهد وترك الوفاء([37])، والغدر الخيانة يقال: لست منه على ثقة يغدر غدراً([38])، وقد حذر الإسلام من الغدر بالمؤمن وخيانته، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان"([39]) لكل غادر لواء أي: علامة يشتهر بها في الناس، والغادر من ينقض العهد، واللواء الراية العظيمة تكون لرئيس الجيش ويكون الناس تبعاً له، ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة لأنه يتعدى ضرر غدره إلى خلق كثيرين([40]).

3- الاعتداء على أعراض المجاهدين:

عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟"([41]) ومعنى (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم) أنها في شيئين: أحدهما تحريم التعرض لهم بريبة من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك، والثاني برهنَّ والإحسان إليهن وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة ولا يتوصل بها إلى ريبة ([42]).

4- الاعتداء على المال العام:

عن أبي حميد الساعدي قال: "استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأَزْد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا لي أُهدي لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعَر، ثم رفع يديه حتى رأينا عَفْرَتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت. مرتين"([43]) ففيه بيان أن هدايا العمال حرام وغلول لأن العامل خان في ولايته وأمانته؛ لهذا ذكر في الحديث عقوبته وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغالِّ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسِه السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية([44]).

5- الاستيلاء على أرض الغير:

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة وهو يخاصم في أرض، فقالت: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ظلم قيد شبر من أرض طوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين"([45]) قال الخطابي: قوله "طوّقه" له وجهان: أحدهما أن معناه أنه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة، الثاني معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقًا في عنقه، وهذا يؤيده حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب بلفظ: "خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين"([46]).

6- القتل العمد:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه في يده وأوداجه تشخب دمًا، يقول: يا رب قتلني، حتى يدنيه من العرش، قال: فذكروا لابن عباس التوبة، فتلا هذه الآية: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93] قال: ما نسخت منذ نزلت، وأنى له التوبة!)([47]).

7- ترك العدل بين الزوجات:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل"([48]).

8- التكبر على الخلق:

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صورة الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن من جهنم يسمَّى بولَس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من عصارة أهل النارِ طينةِ الخبال"([49]).

من خلال هذه النماذج وما ترتب عليها من جزاء يظهر جليًّا كيف نظم الإسلام العلاقات الاجتماعية وربطها بالثواب والعقاب في الآخرة، فما أعده الله عز وجل للمحسنين في علاقاتهم الاجتماعية من أهم الدوافع التي تنظم علاقاتنا وترقى بها نحو المثالية والاحترام، كما أن الإيمان بما توعد الله عز وجل به المسيئين في علاقاتهم من أهم الزواجر التي تنهى العبد المؤمن عن الطغيان والاعتداء.

خامسًا: النتائج والتوصيات

نخلص مما تقدم إلى جملة من النتائج والتوصيات نوضحها في الآتي:

أولًا: النتائج

1- تكامل التشريع الإسلامي، فقد نظم الإسلام كلًّا من العلاقات والمعاملات والعبادات.

2- ربانية النظام الاجتماعي في الإسلام لأنه يقوم على أصل عقدي يربط العلاقات الاجتماعية بالثواب والعقاب عند الله عز وجل.

3- ضرورة التكامل في المهمات المتعددة والمناشط والمواهب الإنسانية، فلا يمكن للفرد أن يحقق لنفسه كل حاجاته، ولكن الجماعة في الإسلام يتحقق في رحابها جميع معاني التكامل في الحياة والتكافل الذي يحقق مصالح الدنيا والآخرة.

4- افتقار المجتمع الإسلامي إلى الثقافة الكافية في بناء العلاقات الاجتماعية، فينبغي أن ترتبط بالآخرة بدل أن تبقى ضمن إطار المصالح والعادات والأعراف.

ثانيًا: التوصيات

1- أن يهتم الباحثون بالنظام الاجتماعي في الإسلام.

2- أن يركز الدعاة من خلال المحاضرات العلمية والدروس الدعوية على ربط العلاقات الاجتماعية بالثواب والعقاب عند الله عز وجل.

3- تأطير النظام الاجتماعي الإسلامي ضمن قواعد وأسس ليصار إلى تدريسه في المعاهد والجامعات.

4- إعداد البرامج التربوية التي تسهم في بناء العلاقات الاجتماعية على ضوء التعاليم الإسلامية وتطبيقها في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات.

5- الاهتمام بعلم الاجتماع وتأصيله في ضوء الكتاب والسنة.

[1]- المطيري، منصور زويد، الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع الدواعي والمكان ص79، سلسلة كتاب الأمة الصادر عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بقطر، العدد 33.

[2]- فياض، حسام الدين، العلاقات الاجتماعية، ص2.

[3] - ابن خلدون، المقدمة، ص204.

[4] - ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 565.

[5] - خطاطبة، عدنان، أصول التربية الإسلامية ص213.

[6] - الرازي، مفاتيح الغيب ج28، ص106.

[7] - مسند أحمد، رقم الحديث 17144.

[8] - موطأ مالك، رقم الحديث: 678.

[9] - صحيح مسلم، رقم الحديث: 2533.

[10]- صحيح مسلم، رقم الحديث: 2586.

[11]- مسند أحمد، تتمة مسند الأنصار، رقم الحديث: 22840.

[12]- الهزايمة، لؤي عباس، الجانب الاجتماعي في كتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري، مجلة البيان، العدد 161، ص12.

[13]- البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب بر الوالدين، رقم الحديث: 5970.

[14]- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج6، ص7.

[15]- البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب بر الوالدين، رقم الحديث: 5971.

[16]- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج10، ص417.

[17]- البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، رقم الحديث: 5975. للتوسع في الموضوع: الهزايمة، لؤي عباس، الجانب الاجتماعي في كتاب الأدب في صحيح البخاري، مجلة البيان، العدد 161، ص 12.

[18] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب صلة الرحم، رقم الحديث: 5986.

[19] المصدر السابق، باب ليس الواصل بالمكافئ، رقم الحديث: 5991.

[20] ابن حجر، فتح الباري، ج10/ص423.

[21] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب بر الوالد المشرك، رقم الحديث: 5978.

[22]- المصدر السابق، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، رقم الحديث: 5985.

[23]- المصدر نفسه، باب إثم القاطع، رقم الحديث: 5984.

[24]- محمد علي الهاشمي، شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام ص162.

[25] المرجع السابق ص324.

[26] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم الحديث: 660.

[27]- ابن رجب الحنبلي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج6، ص46.

[28]- البغوي، لباب التأويل في معاني التنزيل، ج4، ص379.

[29]- الطبراني، مكارم الأخلاق، ج1، ص373.

[30]- ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الصدقات، باب إنظار المعسر، رقم الحديث: 2419.

[31]- السندي، حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ج2، ص78.

[32]- مسلم، صحيح مسلم، كتاب الذكر...، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم الحديث: 2699.

[33]- النووي، شرح صحيح مسلم، ج17، ص21.

[34]- أحمد، مسند أحمد، مسند الشاميين، رقم الحديث: 17333.

[35] - ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الإيمان...، باب من سن سنة حسنة...، رقم الحديث: 205.

[36]- الرازي، مفاتيح الغيب، ج20، ص197.

[37] - ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص8.

[38] - الزبيدي، تاج العروس، ج13، ص 203.

[39]- مسلم، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، رقم الحديث: 1735.

[40]- السيوطي، الديباج على شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج4، ص348.

[41]- مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب حرمة نساء المجاهدين، رقم الحديث: 1897.

[42]- النووي، شرح صحيح مسلم، ج13، ص42.

[43] - مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، رقم الحديث: 1832.

[44]- النووي، شرح صحيح مسلم، ج12، ص219.

[45]- البخاري، صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، رقم الحديث: 2454.

[46]- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج5، ص104.

[47]- النسائي، السنن الصغرى، كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم، رقم الحديث: 4005.

[48] أبو داود، سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب القسم بين الزوجات، رقم الحديث: 2133.

[49] البخاري، الأدب المفرد، باب الكبر، رقم الحديث: 557.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين