العقل ومنزلته في الشريعة الإسلامية

 

خلقَ اللهُ العالم مختلف الطبائع مُتفاوت الدرجات من رَطْب إلى يابس، ومن جماد إلى نَبَات، إلى حيوان إلى غير ذلك من المخلوقات التي لا يحيط بها إلا من أبدعها، واختصَّ من بين الحيوان نوعاً ممتازاً جعله خليفته في الأرض، وسخَّر له ما في السموات وما في الأرض.

وهذا الامتياز وتلك الخاصيَّة إنَّما جاءت له من قبل العقل الذي نال شرف التكريم، والذي جُعل مناطاً للتكليف وعليه مدار جميع التصرفات، وقد طالب الله سبحانه الإنسان باستعمال العقل والتفكر به في السموات والأرض في غير ما آية من القرآن الكريم، قال الله تعالى: [أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ] {الأعراف:185} فقد طلبت هذه الآية في إفصاح وبلاغة ودقَّة بيان النظر في الأشياء التي خلقها الله سبحانه في السموات والأرض وتلمُّس السنن الكونية التي فيها والعبر التي اشتملت عليها، والأسرار والحكم التي حوتها ليكون للمتدبِّر فيها والمتعظ بها سراج يضيء له جوانب الحياة، وما فيها من ظلمات وآلام وشقاء ويكون له من ذلك التدبر في التفكر إيناس من وحشة هذه الحياة التي تتقاسمه همومها وتَتَنازعه سِهَامها فيجد في قلبه عقيدة راسخة وسنداً قَوياً وقوة معنويَّة تُذلِّل له الصعاب وتدفع عنه الخطوب.

ولقد خصَّ الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام برؤية ملكوت السموات والأرض على وجه يحقِّق له العبرة ويبعث في قلبه الإيمان واليقين حيث قال الله تعالى:[وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ] {الأنعام:75} فقد بصَّره الله تعالى عجائب السموات، وما زُيِّنت به من النجوم وما رصعت به من الشمس والقمر، كما بصَّره الأرض وجبالها وأشجارها وبحارها، وأي عقل يصل إلى حقائق هذه المخلوقات إلا ويذعن بوجود الخالق القادر العالم بكل شيء والذي لا يشبهه أحد من خلقه: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] {الشُّورى:11}. 

ويطول بنا الحديث وتتشعَّب علينا النواحي وتمتدُّ أطراف القول لو تتبعنا آي القرآن الكريم التي أوجبت على الإنسان النظر والتفكر في مخلوقات الله للوصول إلى اليقين بعظم قدرته وبالغ حكمته: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية].

وعلينا أن نجزم أنَّ البحث والتفكير واستعمال العقل بالطرق الصحيحة لا يوقعنا في الضلال ولا يجرنا إلى الخيال ولا يؤدي بنا إلى النكال، بل يزيدنا رشداً ويكسبنا أجراً، ويزيدنا عند الله قدراً، وما أروع ما قاله في ذلك المعنى العلامة ابن رشد في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) وقد آثرنا نقله بحروفه ليكون لنا منه منار يحفِّزنا على الجد في استعمال العقل وعدم الوقوف عن تلمُّس الأحكام الشرعيَّة لما يجد في الكون من حوادث ومخترعات.

والليالي من الزمان حبالى = مثقلات يلدن كل عجيبة

وبذلك لا يكون لبعض المفتونين بمدنية الغرب والمعجبين بقوانينه حجَّة في مدِّ أيديهم للاستجداء من تشريعات مُنافية لديننا وعاداتنا وأخلاقنا، ويتمسَّحون بالأعذار البالية خيوطها المنفصمة عراها ثانين عطفهم ليضلوا عن سبيل الله ويتمسَّكون في ذلك بجمود الشريعة الإسلامية وقصورها عن مسايرة ركب الحضارة والرقي والتقدم.

ومعاذ الله أن تكون الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان قد نضب مَعِينها الصافي وغاضت أنهارها الجارية بالعلوم والمعارف في جميع نواحي الحياة والتي قامت عليها حضارات مُتعدِّدة يعلمها ويعترف بها من ألقى نَظْرة بسيطة في تاريخ الإسلام ودوله وعصوره الزاهرة.

وإلى القارئ الكريم ما وعدنا به من كلام ابن رشد، إذ قال: 

(وإذا كانت هذه الشرائع حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنَّا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدى النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنَّ الحق لا يضادُّ الحق، بل يوافقه ويشهد له وإذا كان هذا هكذا فإن أدَّى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفاً؛ فإن كان موافقاً فلا قول هناك، وإن كان مخالفاً طلب هناك تأويله ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز من تسمية الشيء بشبهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناع الكلام المجازي، وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان؛ فإنَّ الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعاً أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أنَّ ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجرَّبه، وقصد هذا القصد من الجمع بين المعقول والمنقول).

وقد أصاب ابن رشد كبد الحقيقة حين قال: إن النظر البرهاني لا يخالف ما ورد به الشرع؛ لأنَّ الحق لا يضاد الحق، وذلك أن الله عزَّ وجل شرع ما شرع من الأحكام وجعلها موضع النظر والتفكير ليعلم الناس أنه ما كلفهم إلا بما يدخل تحت قانون العقل قبولاً وتصديقاً.

وهذا واضح في الأمور الظنيَّة النظرية فما كان منها مُوافقاً لقانون العقل فهو مسلَّم به وما كان مخالفاً لهذا القانون لزم تأويله، وهذا ما يفعله الفقهاء في استنباط الأحكام والمفسرون في تأويل القرآن والمحدثون في فهم الحديث.

وليس المجال هنا بمتسع لأن نسرد شرائط المقدمات وأنواعها وما لابدَّ منه من الاعتبارات التي التزمها أهل المنطق، ويكفينا من ذلك أن نقول: 

إنَّ النتيجة لا يُعوَّل عليها ولا يقام لها وزن عند أهل هذه الصناعة إلا إذا استوفت شرائطها المعتد بها عنده، فلا يصحُّ لناظر أن يُرتِّب مقدمات بحسب هواه واعتباره الخاص وما يَرمي إليه من إثبات غرض يَهدف إليه ويحوم حوله، ثم بعد ذلك يزعم أنَّ ما وصل إليه وأدَّى إليه قياسه يخالف قاعدةً شرعية أو مسألة كلامية مجمعاً عليها، وسلمت من نقد أئمة البحث وأهل النظر، فما مثل ذلك الباحث الذي ركب رأسه وسار مُتبعاً هواه إلا كحاطب ليل، ونافخ في رماد، وطالب الماء من السراب، وهو جدير بأن يكون ممن قال الله فيهم: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ] {آل عمران:7}. 

والمتتبع للأدلة الشرعيَّة والفاحص فيها بعين النظر مجرداً عن الهوى يرى أنَّها مُوافقة لمقتضى العقل الراجح والفكر الصحيح والنظر الثاقب، ويدرك تمام الإدراك أنَّ العقول مُذعنة لها مصدقة بها وأنَّها ما شُرعت إلا لمصلحة العباد وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأنَّ مَنْ أوجبَ العمل بها لم يَرْمِ من وراء ذلك إلى مصلحة يتكمَّل بها أو يدفع بها عن نفسه ضراً أو يجلب لنفسه نفعاً، وأنَّه هو الذي يقول جلَّت قُدرته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}.[الذاريات].

وأمَّا المعاندون من البشر المكابرون لكلِّ ما أمرَ الله به فهو موجودون في كل أمَّة، طمس الله على قلوبهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم فلا يسمعون داعيَ الله، ولا يعرفون الحق.

ومن الناظرين في الشريعة والباحثين فيها من يقف عند مسألة من مسائلها فيُخيَّل إليه أنَّ الأمرَ فيها غيرَ مَعْقول أو أنَّها تُناقض مسألةً أخرى جاءت في الشريعة الإسلامية وذلك في الحقيقة ونفس الأمر ناتج من قلَّة البحث وعدم الاستقراء التام الذي يتطلَّبه الحكم الصحيح ويُعتدُّ به عند الباحثين.

ومن هذا القبيل ما دار من المناقشة بين نافع بن الأزرق وابن عباس رضي الله عنهما، فقد سأله نافع أربعة أسئلة قال: إني أرى في القرآن الكريم أشياء يُشكل عليَّ فَهمُها، قال ابن عباس: ما هي؟، قال نافع: يقول الله تعالى: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ] {المؤمنون:101}، ويقول في آية أخرى: [وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ] {الطُّور:25} فما هذا التساؤل المنفي وما هذا التساؤل المثبت؟!.

قال ابن عباس رضي الله عنهما مجيباً: إنَّ عدم التساؤل إنما هو عند النفخة الأولى حيث الدهشة: [يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا] {المعارج:7-10}، وأما التساؤل المذكور في الآية الأخرى فبعد النفخة الثانية بعد الحساب ودخولهم الجنَّة.

وإيضاح ذلك: أنَّ الناس يوم القيامة بعد النفخة الأولى لا يعتمد بعضهم في النجاة على انتسابه إلى الأنبياء والصالحين، ولا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله بل الاعتماد يومئذ على الأعمال، (فمن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، [يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] {عبس:34-37}. 

أما الآية الأخرى فقد دلَّت على أنَّ هناك تساؤلاً وذلك بعد دخول الجنة؛ فإنَّ أهلها يقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن حالهم فيقولون: [قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ] {الطُّور:26-28}.

وقال ابن الأزرق لابن عباس ويقول الله في شأن الكفار: [وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا] {النساء:42}، ويقول في آية أخرى في شأنهم أيضاً: [وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ] {الأنعام:23} فكيف لا يكتمون كما تقول الآية الأولى وهم يكتمون شركهم، كما تقول الآية الأخرى؟!.

قال ابن عباس: إنَّ المشركين حين يرون أنَّ الله غفر لأهل الإخلاص ذنوبهم يقول بعضهم لبعض تعالوا نقول: [وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ] فيختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك يعرف أهل الموقف أن الله لا يُكتم حديثاً وعندئذ: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [سورة النساء].

وقال ابن الأزرق لابن عباس يقول الله تعالى: [أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا] {النَّازعات:27-28} ثم قال: [وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا] {النَّازعات:30}. 

وقال في آية أخرى: [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ] {فصِّلت:9} إلى أن قال: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] {فصِّلت:11}، فقد دلَّت الآية الأولى على أن السماء خلقت أولاً ثم خلقت الأرض، ودلَّت الآية الأخرى على أن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء فكيف ذلك؟

قال ابن عباس: إنَّ الآية الثانية تدلُّ على أنَّ الله خلق الأرض أولاً، في يومين ثم خلق السموات وسواهنَّ سبع سموات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام، ثم دحا الأرض فأخرج منها ماءها ومرعاها وخلق الجبال والآكام في يومين فتلك ستة أيام للأرض، منها أربعة أيام، وللسموات يومان.

ثم سأل ابن الأزرق السؤال الرابع، فقال لابن عباس: يقول الله تعالى: [وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:96} [وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] {النساء:158} [وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا] {النساء:134}. فهل كان ثم مضى ذلك؟.

قال ابن عباس: إنَّ الله سمَّى نفسه غفوراً رحيماً، وعزيزاً حكيماً، وسميعاً بصيراً ولم يزل كذلك فتلك أسماء سمَّى نفسَه بها أزلاً، والأزلي لا يزول ولا ينتهي.

فلا شكَّ أنَّ العقل هو مَناط التكليف، ومن القواعد المسلَّم بها عند جميع العلماء أنَّ لزوم الأحكام للإنسان يدور مع العقل وجوداً وعدماً، ولذلك نرى أنَّ الأصوليين يُوسِّعون الكلام في عوارض أهليَّة التكليف، ويبينون الحدَّ الذي يوجد عنده التكليف فيقولون: إنَّ العقل الذي هو أداة الفهم وبه الإدراك شرط في التكليف، وهو يتفاوت في الشدَّة والضعف ولا مناط للتكليف بكل قدر من العقل، بل اقتضت حكمة الله ورحمته أن يُناط التكليف بقدر مُعتد به فأنيط بالبلوغ وجعل البلوغ الحد الذي تبدأ معه مسؤولية الإنسان ويجري عليه الجزاء، ورُبَّ مُراهق يكون قوي العقل حسن التصريف بصيراً بالأمور عليماً بخفايا الأحوال أكثر من بالغ، فالشارع الحكيم لم يكلف الناس شططاً ولم يتركهم من غير تحديد لمسؤوليتهم وضبط لأعمالهم فلم يعلق المسؤولية على شيء مُتفاوت يختلف في التقدير بحسب الأهواء والآراء.

ونظير ذلك المعنى في فروع التكاليف أنَّ الشارع جعل السَّفَر أمارة المشقَّة وعلَّق عليه التخفيف عن المكلف فأباح للمسافر الفِطْر في رمضان، حيث يقول الله عزَّ وجل: [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:185}. 

فربط التخفيف بالسفر المحدود في السنة النبوية، ولم يربطه بالنصب والمشقة والتعب وتلك حكمة مبدع السموات والأرض الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ فإنَّ الناس يتفاوتون في تغيير المشقَّة وتحديدها ومنهم من يبتغي التحليل من قيود التكليف بتعلات المشقَّة رغبة في التخلُّص من المسؤولية.

ومن رحمة الله تعالى بخلقه: أنَّه أباح لهم الطيبات وأنَّ الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا استحكم العسر انفتح باب اليسر والفرج؛ لأنَّ الشارع لم يقصد من التكاليف كلها الإرهاق والحَرَج والعنت بل قصد تنظيم الكون على وجه يحقق للبشرية السعادة الكاملة والحياة السعيدة الراضية.

فالتكاليف الشرعية لا تتنافى مع مصالح العباد ولا تنافر العقول.

أما الأول: فلأنَّ الله تعالى إنَّما خلق الكون وما فيه من منافع لمصلحة العباد قال تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] {البقرة:29} فمن المحال على حكمة الله وتدبيره أن يخلق كل هذا لمصلحة الناس ثم يكلفهم بما يَتنافى مع هذه المصلحة، بل لقد ذهب بعض الأئمة إلى جعل المصالح المرسلة من الأدلة الشرعيَّة.

وأما الثاني: (وهو أنَّ التكاليف لا تُنافر العقول)؛ فلأن أدلتها لا تنافر العقول وذلك لما يأتي: 

أولاً: لأنَّها لو كانت تنافر العقول لما كانت أدلة؛ لأنها جاءت لتتلقاها عقول المكلفين بالقبول ثم لتعمل بمقتضاها، فإذا لم تلائم العقول فكيف تتلقاها بالقبول أو تعمل بمقتضاها.

ثانياً: أنَّ العقل هو مَناط التكليف، فإذا فُقِد العقل فُقِد التكليف فلو جاءت الأولى على خلاف العقل لكان تكليف العاقل بمقتضاها أشد استحالة من تكليف المعتوه، والصبي، والنائم، إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، أما العاقل فله عقل يرفض الأدلة التي تنافره فتنتفي التكاليف وهو أمر باطل فما أدى إليه باطل.

ثالثاً: أنَّ الكفار حين سمعوا أدلَّة التكاليف من كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يقولو إنَّها غير مقبولة، ولو كانت فيها ثغرة ينفذون منها إلى هذا الطعن لتوسَّعوا فيه، ولكن أكثر مَطاعنهم كانت مَبْنية تارة على استبعاد أن يكون البشر رسولاً وتارةً على اتهام الرسول بالسحر أو الشعر إلى غير ذلك من الأباطيل التي لا تُؤثِّر في استقامة الأدلَّة الشرعيَّة مع العقل.

رابعاً: لو كانت الأدلة الشرعية تنافي العقل لكان التكليف بمقتضاها تكليفاً بما لا يستطيع العقل تصوره ولا تصديقه وهو باطل.

هذه براهين ناطقة بأنَّ الأدلَّة الشرعية لا تنافي العقول، ولا عبرة بعناد المعاندين ومكابرة المكابرين، ورحم الله الإمام البوصيري حيث يقول: 

قد تنكرُ العينُ ضوءَ الشمس من رَمَدٍ = وينكر الفمُ طعمَ الماءِ من سَقَمِ

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

* نُشرت هذه المقالة موزَّعة على ثلاثة أجزاء من مجلة: (المساجد)، من السنة: (الثالثة، والرابعة).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين