العقل الاسلامي الراهن والسلف الصالح

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
 
فهم صاحبي الذي انتقدني عندما ذكرت أن من أشكال اليقين غير المقبول في العقل الإسلامي الراهن الارتياح الكسول إلى الخزانة الفقهية والوعظية التي تركها الأولون مع اعتقاد جازم بأنها تصلح لكل زمان ومكان وإنسان، وهو ما أردت به أن أستنفر الهمم أفراداً وجماعات للإبداع في الاجتهاد الفقهي حتى وإن كان جماعياً، وفي صياغة الوعظ المناسب لمشكلات العصر وللغته وأساليب الخطاب فيه، إذ إن مهمة الخطاب ونجاحه أن يصل إلى المخاطب مهما كان حكمنا عليه، فهم من كل ذلك أنني أقول إن من يتتلمذ على كتب أئمة الإسلام وماتركوه من تراث عظيم هو كسول وخمول، وأعتقد أنه لا توجد أية علاقة بين القولين إلا في عقل مسلم يرى أن السابقين قد كفوا اللاحقين كل شيء مع انعدام الإحساس بالزمن وتقلباته وتطوراته وانعكاساته ونتائجه، وليعلم صاحبي أن ما أقوله قد دعا إليه كثيرون قبلي من حيث إعادة صياغة مقاصد الشريعة الخمس بلغة معاصرة تراعي منطق حقوق الإنسان وتفصيلاتها التي توصل إليها في القرن العشرين والواحد والعشرين، ومن حيث ضرورة صياغة خطاب إسلامي راهن يخاطب أبناء القرن الحادي والعشرين بلغتهم ومشاكلهم المعرفية والحياتية التي اختلفت كثيراً عن أيام السابقين، إلا أن من لا يعمل إلا في الإمامة والخطابة ويلبس لباس أهل العلم أو طلبته ولا يخالط إلا طلاب العلم الذي يأتون إليه ليستمعوا وليهزوا برؤوسهم، من دون أن يخرج إلى العالم ليراه على حقيقته بكل خيره وشره وبكل تعقيداته ومتطلباته، قد يكتفي بما قاله الأولون، لأنه أصلاً يعيش خارج الزمان والمكان، يعيش في مدينة فاضلة يتخيلها ويريد من الناس أن يتركوا حيواتهم وينسحبوا من أعمالهم التي هي بحق (العمل الحقيقي البناء) ليلتحقوا به في مدينته الخيالية التي لا تسكنها إلا أشباح الموتى .
 
التتلمذ على كتب علماء الأمة محمود ولكن التوقف عندهم وعدم النمو العقلي والحضاري أمر غير محمود، فالأمم اليوم لا تبنى ولا تبقى بقراءة المتون وشروح الشروح، وحتى أخلاق القرن الحادي والعشرين مع الحفاظ على الثوابت الإسلامية وأحكام الحلال والحرام تحتاج إلى إعادة هيكلة وصياغة لأساليب التربية والتنشئة عليها، فما أنجزه الأولون مما يصلح لزماننا على العين والرأس، ولكنه لا يكفي لكل مشكلات حياتنا ولكل الطروحات المعرفية والثورات العلمية التي يشهدها العالم كل يوم .
 
لا أعرف لماذا يتمحك أمثال صاحبي ويخترع من صور الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ما يفوق بكثير القدر المعلوم الواضح المؤكد من هذا الإعجاز حتى سخر منا القريب والبعيد، ثم إذا قلنا له إن أحكام ومقاصد الشريعة تحتاج إلى إعادة صياغة - لا تحوير ولا تبديل فيها - انكمش وقال لماذا تطعن في السلف الصالح، كأن من مهام هذا السلف أن يفكروا ويكتبوا ويقرروا ما تصلح به أحوال الناس إلى يوم القيامة ومهمتنا نحن الاستهلاك فقط لما قدموه لنا وكفى الله المؤمنين القتال .
 
ولكي يفحمني صاحبي جاء بأقوال لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه منها: (إياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق) . ومنها: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة) .
 
وفاته أن عبد الله بن مسعود هو صحابي جليل عاش مع النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه مباشرة فأي حاجة للإضافة أو الزيادة أو التأويل لوحي ينزل ويفسر ويطبق في الوقت نفسه؟ أليس هذا دليلاً على فقدان الإحساس بالزمن والعيش في عوالم متخيلة؟ كل الأمم تقدر عظماءها وتحترمهم وتجلهم وتأخذ عنهم وتدرس تراثهم، ولكنهم لا يتوقفون عند ذلك ولا يرون أنهم أقل من أن يضيفوا عليهم إلا أمثال صاحبي الذي يرى أن يعيش وتعيش الأمة معه عالة على السلف متجاهلين الانفجارات المعرفية الهائلة التي تحدث كل يوم، ولاسيما أنهم ارتضوا لأنفسهم أن (يبتدعوا) باستهلاك نتائج العلوم التطبيقية من أدوات وآلات وتقنيات معتبرين أن هذه مجرد أدوات مع أن لكل منها آثاره المعرفية والأخلاقية والاجتماعية، أما علوم الإنسان وصياغته وتأهيله فرضي الله عمن كفاهم التفكير والبحث فيها وما يأتي منها من الغرب لا يزيد على الكفر والزندقة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين