العفة والقناعة

 

 وهذا العنوان أحب إليَّ وأقرب إلى لسان الشريعة من عنوان (الزهد والفقر) الذي جرى على لسان نفرٍ من الكاتبين.

 فالعفَّةُ مثلاً تعني قدرة الواحد على ضبط نفسه، أو قدرة المحروم على حكم إرادته، فهي فضيلة إيجابية حية، أما الزهد فربما اقترب في مدلوله، وفى نتيجته من هذا المعنى، إلا أنَّه أدنى إلى السلبية والاستكانة.

 وقد رأيت الشارع استعمل كلمة العفة في نصوص كثيرة صحيحة، أما كلمة الزهد فترى أنها لم تجيء في حديث صحيح.

عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الخليقة، وعفة في طعمة) رواه أحمد.

 وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل طيباً، وعمل في سُنة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة، قالوا: يا رسول الله إن هذا في أمتك اليوم كثير.  قال: وسيكون في قرون بعدي قليلاً) رواه الترمذي .

 وفى الحديث (من يستعفف يعفه الله) رواه البخاري .

 وقد قال تعالى لأولياء اليتامى:[ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ] {النساء:6} .

 وقال للعُزَّاب:[وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ] {النور:33} .

 وفى الرضا بالواقع، وحسن استغلاله، ورد السخط على الأقدار يقول رسول الله ـصلى الله عليه وسلم: (خير الذكر الخفي، وخير العيش ما يكفي) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي بإسناد صحيح.

 وفى الحديث: (يا أيها الناس هلِمُّوا إلى ربكم فإنَّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهي) رواه الطبراني .

وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ] {التَّكاثر:1}  قال: يقول ابن آدم (مالي مالي!!  وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنينت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمْضَيْت) رواه مسلم.

 وظاهر من التأمُّل في الآثار الأخيرة أنها تحارب رذائل الشَّرَه والطمع، والتبرُّم بالميسور، والبخل في وجوه الحق.

 إنَّ اشتهاء الدنيا بجنون وطغيان يكادُ يختلط بدماء الناس ولحومهم، ويخرج بهم عن جادة الاعتدال والحكمة.

 والإنسان مجادل طويل اللسان في تسويغ شهواته، وبسط حاجاته، وتحقير ما عنده، وإعلان التمرُّد عليه، ونعتِهِ بأقبح النعوت!!

 وماذا يصنع الدين إنْ لم يهذِّب هذه الطباع، ويدرب البشر على فضائل العفة والقناعة؟

وبديهي أنَّ العفافَ لا ينافي الإثراءَ من وجوه الخير، وأن القناعة لا تنافي السعي إلى حالة أفضل، وسنشرح ذلك على ضوء ما نورد من نصوص.

 وقبل أن نتناول الموضوع كله بالشرح نحب أن نثبت رأى العلماء الحفاظ في بعض أحاديث الزهد المشهورة.

 ذكر الحافظ المنذري عن سهل بن سعد الساعدي رضى الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس!.

 فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدى الناس يحبك الناس..!!)

 قال: رواه ابن ماجه وقد حسن بعض مشايخنا إسناده.

 وفيه بُعد، لأنه من رواية خالد بن عمرو القرشي الأموي السعيدي عن سفيان الثوري عن أبى حازم عن سهل.

 وخالد هذا قد ترك، واتُّهم، ولم أرَ من وثَّقه.

 قال الحافظ المنذري بعد ما زيَّف سند الحديث : لكن على هذا الحديث لامعةٌ من أنوار النبوة، ولا يمنع كونه راويه ضعيفاً أن يكون النبي قاله - أي بسند آخر!! -.

 وقد تابعه ـ يعنى خالدا ـ محمد بن كثير الصنعاني عن سفيان.

 ومحمد هذا وقد وُثِّق على ضعفه وهو أصلح حالا من خالد، والله أعلم.

 هذا وقد ذكر المنذري جملة أحاديث أخرى في الزهد، لم يبلغ أحدها مرتبة الصحيح، وإن كانت هذه الأحاديث مقبولة المعنى من حيث دلالتها على العفة والقناعة والرغبة في الله والاكتراث بالدار الآخرة.

 وذلك ما جعل المنذري رحمه الله يشرح قيمتها العلمية بالحكم الصائب على أسانيدها، ثم يروج للمعاني النبيلة التي احتوتها، وهي معان تستحق الحفاوة.

 بيد أننا ـ نحن المسلمين ـ الآن في وضع دقيق يفرض علينا أن نسير بحذر في تربية أمتنا، وعلاج العلل المتناقضة التي استشرت في كيانها.

 إنَّ حب الدنيا وكراهية الموت من أسباب الانهيار العسكري الذي أصاب المسلمين في الأعصار الأخيرة.

والجهل بالدنيا، والعجز في ساحاتها هما كذلك من أسباب الانهيار العام الذي استغله خصومنا في النيل منا والإنحاء علينا.

 وقادة الفكر الإسلامي مسئولون عن أمرين: 

أولهما: تعزيز عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وتذكير الإنسانية بمصيرها الخالد بعد أن ترحل عن أرجاء هذه الأرض.

 والآخر: البراعة في هذه الحياة وإحراز قصب السبق في علوم الأرض، وتوجيه القوى المادية المختلفة ـ بعد فقهها وإجادتها ـ إلى خدمة المثل العليا للإيمان الصحيح.

 وقد بُلِيَ المسلمون بمن جهَّلهم في الحياة باسم الزهد فيها، ومن صرفهم عن العمل لها بزعم أنَّ ذلك صارف عن عمل الآخرة!!

 ونسي الغافلون الذين بلوا أمتنا بهذه المحنة أن أخصر الطرق لخسارة الآخرة، وضياع الحقيقة، وسيطرة الضلال، وانتشار الإثم، هو هذا التجهيل والتعطيل..

 من أجل ذلك آثرنا ـ ونحن بصدد تربية النفوس ـ أن نؤثر عنواناً على عنوان، وإن كان هذا التغيير في الشكل لا يغني عن الإفاضة في شرح الموضوع نفسه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين