العفة والقناعة -2-

 

في أرجاء الشرق والغرب نسمع صياحاً بعيد المدي متجاوب الصدى حول رفع مستوى المعيشة! ورفع مستوى المعيشة هدف إنساني لا ريب فيه، إن الفقر عاهة مؤذية، وعورة بادية، وما يرضي بالفقر للناس رجل له قلب وخلق...

 ونحن نشد أزر المكافحين في هذه السبيل، ولا نستكثر جهودنا التي بذلناها بالقلم واللسان والعمل كي نضع آصار البؤس عن البائسين.

 إلا أننا نتساءل: ثم ماذا بعد أن يغتني الناس من فقر، ويترفهوا من خشونة؟.

 هل الغاية التي ينتهي إليها جهاد المصلحين، أن يعيش الناس فوق هذا الثرى يأكلون الطعام، ويسمعون الأغاني، ويطلبون المُتع، ويستخدمون آخر ما أنتجت الحضارة من أدوات الترويح والتنعيم؟، أما إعدادهم للدار الآخرة فصفر!!، أو قليل لا يذكر، لأنهم بين مرتاب فيها أو مكذب لها، أو غافل عنها!!.

 إن انتهاء العالم إلى هذا المصير في تفكيره وشعوره، وإلى هذا الوضع في يقظته ومنامه، معناه أن العالم صرعه الإلحاد وغطته غواشي الكفر والفسوق والعصيان، وهذا ما لا يمكن أن يهادنه الدين أو يعيش بجواره هادئاً، وهذه السكرة الزائغة عن الحق وتبعاته، هذه الدنيا التي اشتهيت لذاتها ولم يحسب فيها حساب الآخرة ولم يعرف فيها حق الله، هي التي لعنها الإسلام وصب عليها جام غضبه، وحقرها وحقر أصحابها معها.

[وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ] {الأحقاف:20} 

والقرآن الكريم يتناول عشاق الحياة من هذا القبيل؟ فيقرر أن مصيرهم إلى سقر، ويندد بما كانوا عليه في الدنيا من شبع وطيش… [وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13) ]. {الانشقاق}.

 والإسلام إنما يستنكر السرور الجاحد المستغرق في العاجلة دون سواها،  وهو إذا كان قد نعى في الآية السابقة على الكافرين إذهابهم طيباتهم في حياتهم الدنيا فليس معنى هذا أنه حرَّم الطيبات على المؤمنين!! كيف؟ وهو ما أحل لهم إلا هذه الطيبات!![يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ] {المائدة:4}، إن المأخذ على الكافرين أنهم لا يعرفون لله حقاً في هذه الحياة. يطعمون رزقه ولا يشكرون فضله، ويحيون في ملكه وينكرون وجوده ويظنون الحياة على الأرض هي الوجود الأول والآخر، ثم لا شيء بعد هذا إلا العدم المطلق...

 وحياة تصطبغ بهذا اللون القاتم تخالف من كل ناحية حياة المؤمنين الذين يردون الفضل إلى صاحبه في كل خير يعرض لهم نحو ما قال أبو الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو يتبرأ من الآلهة الباطلة: [فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] {الشعراء:77-80}.

 الحيوانية التي ينبعث عنها فريق كبير من الناس في مبادئهم الاجتماعية والسياسية، بل في سيرتهم النفسية والخلقية، والتي تجعل الحياة لا تعدو الوجود المادي وحده.

 هي التي عناها الإسلام، وهو يصف الكافرين فيقول: [وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ] {الواقعة:41} [وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ(44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45) ]. {الواقعة}..

 وعندما يذيقيهم العذاب الأليم ثم يقول: [ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ] {غافر:75}.

 إن دنيا المؤمنين محكومة بحدود واضحة، وهي حدود تفطم الناس بصراحة عن كل محرم؟ وترسم لهم أسلوب انتفاعهم بهذه الدنيا إلى حين، وتأخذهم بأدب واضح من التعفف والقنوع بحجزهم عن الأهواء والأطماع وبدفعهم في طريق الاعتدال والقصد، إنَّ عظمة الإيمان ليست في أنه يجرد أصحابه من الدنيا... وما يظن ذلك إلا جاهل قاصر...

 عظمة الإيمان أنه يتيح لأصحابه امتلاك ما يشاءون؟ على أن يكون ذلك في أيديهم لا في قلوبهم، ينزلون عنه جملة وتفصيلا في ساعة فداء، ويحيون في ظله ـ ما عاشوا ـ أعفاء سمحاء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر كتاب الجانب العاطفي من الإسلام. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين