العفة والقناعة -1-

 

تتسع أقطار الأرض لأعداد كثيفة من الناس، فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، وفيهم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.

 وكلا الفريقين يسعى وراء رزقه، يبغي أولاً أن يوفر الضرورات التي لابدَّ منها لنفسه ولأهله، فإذا اطمأن إلى تحصيلها اجتهد أن ينعم عيشه بالمرفهات، وأن يقطع مرحلة العمر، وهو طاعم كاس آمن مسرور...

 يكاد البشر مؤمنهم وكافرهم يتفقون على هذا المنهج، بيد أن هناك خلافاً عميق القرار في تفكير الفريقين، ولون شعورهما.

 فالكافر يعبد الحياة لذاتها، ويطلبها على أنها الهدف الفذ، والفرصة التي إن ضاعت ضاع كل شيء.

 إنه لا يعرف الحياة إلا هذه الفترة المتاحة له على ظهر الأرض!

 ولا يصدق أن وراء هذا العيش عيشاً!

 أو أن بعد هذه الدار الدنيا دارا أخرى...!!

 أما المؤمن فإنسان على النقيض في فهمه وحكمه، إنه واثق من أنَّ هناك حياة آكد وأعظم، ينتقل البشر إليها ويخلدون فيها.

 وأن المحيا على ظهر الأرض وسيلة لا غاية، أجل، هو وسيلة لما بعده، فهنا الغرس، وهناك الحصاد؟ هنا السباق، وهناك النتيجة.

 والدنيا إذا لم تكن مطية للآخرة كانت دار غرور، وميدان باطل. البون بعيد كما ترى بين الفريقين، وإن تجاوراً في المقام، وكدحاً وراء الطعام، هذا يأكل ليعيش، وذاك يعيش ليأكل...

 إلا أنَّ سحر الدنيا شديد الفتنة، ومعارك الأقوات تستنفد طاقات ضخمة وتقيد بإزائها مشاعر وأفكارا كثيرة، ثم هناك تعويل الألوف المؤلفة على النتائج العاجلة في هذه الدنيا، وتأثرهم بها..

 هذا كله جعل الدين يبرز في تعاليمه ناحيتين خطيرتين.

 الأولى: الإلحاح في إفهام الناس أن الدنيا لا تطلب لذاتها، وأنها لا تستحق أن يتفانى الناس فيها، إنها إذا لم تكن وسيلة للآخرة، وإذا لم تصنع منها جسراً تعبر منه إلى رضوان الله تعالى فلا خير فيها... أطلبها، وامتلكها كلها إن استطعت، لكن على هذا الأساس!

 إنَّ الله تعالى لم يقل لقارون صاحب الكنوز الهائلة: انخلع من مالك كي أرض عنك لا، ابق فيه ولكن [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] {القصص:77}.

 الإسلام يحتقر الدنيا أشد الاحتقار عندما تكون الأمل الذي لا أمل معه، وعندما يركض البشر في طلبها لا لشيء إلا للحصول عليها، والاستكثار منها.

 ثم الموت في أطوائها، كما تموت دودة القز داخل ما تنسج، وليست تنسج لنفسها شيئاً، إنه يحتقرها هدفاً، ولكنه يحتفي بها وسيلة!.

 وفي الإزراء على الحياة الدنيا، عندما تكون غاية مجردة جاءت آيات كثيرة، وأحاديث شتى، نثبت هنا بعضها: قال الله تعالى:[وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا] {الكهف:45}.

 والمثل واضح في أن الدنيا تتبخر بين أيدي عبادها، كما يتبخر الماء من الهشيم، فإذا هم يقبضون أيديهم على وهم، ماذا كسب خزان المال عن وجوه الخير؟ وماذا ربحوا من نسيان رازقه، ورفض وصاياه فيه؟، ماذا نال عبَّاد الأثرة والجاه والاستعلاء عندما يسلون من الحياة الدنيا سلاً، مخلفين بعدهم أملاكاً، ذهب اسمهم عنها، وآثار كحركة الريح في صفحة الماء، لا استقرار لها ولا بقاء...

 وماذا يكون موقفهم عندما يقول الله لهم: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ] {0:94}.

 إنَّ عبادة الحياة، واعتدادها كل شيء، خطأ شائع، ولذلك صوَّب الإسلام إليه سهامه وأوهن أركانه، وقد جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم نصائح عالية نوردها هنا بعدما رسمنا لها الإطار الذي يحدد المقصود منها، حتى لا يفهم غِر أنها هجوم على الحياة مطلقاً، إنها هجوم على نشدان الحياة للحياة، دون فكر في رب، أو ثقة في جزاء.

 عن ابن عباس رضي الله عنهما: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: (والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها) .

 وفي رواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه: مر النبي صلى الله عليه وسلم بدمنة قوم ـ كوم سبخ ـ فيها سخلة ميتة، فقال: (ما لأهلها فيها حاجة؟ قالوا: يا رسول الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها! فقال : والله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها، فلا ألفيتها أهلكت أحدا منكم) .

 وعن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا ضحاك ما طعامك؟ قال: يا رسول الله، اللحم واللبن! قال: ثم يصير إلى ماذا...؟. قال: إلى ما قد علمت... قال: فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا).

 وهذه الآثار جميعاً تنعي على عشاق اللذة، وطلاب المتعة ما ينغمسون فيه إلى الأذقان، ذاهلين على الله تعالى، وعن الآخرة...

وإن كانت الدنيا إنما تطلب وتستحب، وسيلة لما بعدها، وقنطرة لمثوبة الله جل وعلا، فإن طالبها يجب أن يلتزم القوانين التي شرعها من تطلب الدنيا لأجله.

 وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار).

 إن هناك آدابا لامتلاك الحياة يجب أن تدرس بدقة...

 وذاك سر حديثنا عن العفة والقناعة، والحل والحرمة...

إن الناس قد ترتكس أخلاقهم، فيرون أن ما تيسر أخذه، لا يصح أن يتركوه مهما كانت وسائله، وهذه بهيمية مقبوحة...! فالرجل الشريف لا يبني كيانه إلا بالطرق الشريفة، وإذا أتته الدنيا عن طريق الختل، أو الغش، أو الجور أبى أن يقبلها، ورأى فراغ يده منها أرضى وأزكى لنفسه.

وفي عفة المؤمن عن الحرام يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولأن يأخذ تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه) وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به، يا كعب بن عجرة،  الناس غاديان فغاد في فكاك نفسه فمعتقها، وغاد موبقها) .

 وانظر كم ترى الفرق شاسعاً بين رجل يصيره طعامه حطباً للنار، وآخر يتكسب الحلال، ويتملك الكثير منه والقليل، فإذا ما ينفقه منه على نفسه وولده يحتسب زكاة له، ويوزن في عمله مع الباقيات الصالحات.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل كسب مالاً من حلال، فأطعم نفسه، أو كساها، فمن دونه من خلق الله فإن له به زكاة) .

ونزول الإنسان على قانون الاكتفاء الذاتي هو العون الأكبر على ما يأمره به الإسلام من قنوع وعفاف، فإن أكثر متاعب الناس تأتيهم من السرف فوق ما يطيقون والتطلع إلى حياة لا يملكون أسبابها.

 وربما لجأوا إلى الاستدانة والمطال، أو إلى المسألة والضراعة، أو إلى الرشوة والسرقة، أو إلى النهب والسطو، كي يسدوا أبواباً من النفقة فتحوها على أنفسهم تزيداً وطمعاً، ولو أنهم عاشوا في حدود ما يملكون لاستراحوا وأراحوا.

 والاكتفاء الذاتي يلزم الإنسان أن يعرف موارده جيداً، ثم يضغط شهواته ورغائبه حتى لا تعدو به حدود ما يملك، وأن يغمض عينيه عن حياة الآخرين فلا يحاول المقارنة المثيرة، وأن يوقن بأن سقوطه رهن بمد يديه إلى هذا وذاك، وأنه كلما ترفع، واستعف ملك نفسه وثبت كرامته، وعاش وجيها في الدنيا والآخرة.

 روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والطمع فإنه هو الفقر وإياكم وما يعتذر منه).

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أوصني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه).

 إن القناعة قدرة على ضبط النفس إذا تطلعت إلى ما يذلها في العقبى، وإن حلا لها أول الأمر.  وفي الحديث: (إن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس).

 إنك لا تعدم أن ترى في كل مجتمع أناساً يسفل على أنفسهم الوقوف بالأبواب وتعليق الآمال بذي جاه أو سلطان، قد يرقبون العطاء لأن حبهم للمال عودهم التكفف، وقد ينشدون الحظوة أو المنصب، لأن عوزهم النفسي زين لهم أنَّ العزة في المنصب الذي يملك فلان أمره، فهم يزدلفون إليه حتى ينالوا ما يشتهون.

 وإني لأعرف أناسا لهم ذكاء وباع يؤجرون مواهبهم إلى كل من يدفع لهم الثمن، وما الثمن؟ شيء من حطام هذه الحياة الهالكة، أو من وجاهاتها الخادعة، وقحط العقائد والأخلاق لا يجد بيئة يأوي إليها ويستقر فيها، مثل هذه النفوس المتعلقة الهابطة.

 لذلك لا تعجب إذا كان سيد الرجال محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ أصحابه بدروس الكرامة التي تقصيهم عن هذه المواطن السوء، ويغرس في لحمهم ودمهم معاني العفة والقناعة التي تجعلهم ملوكا في أنفسهم، لأنه ليست لهم حاجة تدنيهم إلى بشر.

 عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا حديثي عهد ببيعة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا تبايعوني؟ فقلنا قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟، قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، لا تسألوا الناس...) فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا أن يناوله إياه .

 وعن ابن أبي مليكة رضي الله عنه قال: ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا فنناولكه؟،  قال: إن حبي صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً.

وأنت ترى أن الراكب إذا طلب سوطا وقع منه على الأرض فإنه لم يسأل عسراً ولم يقترف جرماً، ومع ذلك فإن التنزه عن طلب شيء من الناس وتعويد النفس الاستغناء المطلق، كان من وراء هذا السلوك الحازم.

والمسلم ما دام يطلب الدنيا ليستعين بها على آخرته، ويبتغي بها مرضاة ربه، فهو غير مستعد لأن يضحي في سبيلها بمروءته، أو يفقد شيئاً من دينه،  إنها إن جاءته من طريق الحلال الطيب قبلها، وإلا رفضها، ولم يتبعها نفسه.

 وهو كذلك إذا حازها لم يسمح لها أن تشغله عن الفقه، كيف، وهو إنما رغب فيها، لا لذاتها، بل لأنها وسيلة لما هو أعظم منها وأخلد...؟

 والحق أنه في إبان الذهول عن الله تعالى، والغفلة عن حقوقه تنطلق قوي البشر لاغتنام الحياة وانتهاب فرصها بقوي عارمة، ورغبات عنيفة، وتكاد معركة الخبز تنسي الناس أنهم بشر فيهم ودائع من السماء، وأنفاس من روح الله تعالى.

 إن الجانب الحيواني هو الذي يطن في آذانهم، بل إن الأهداف التي تسعى إليها الدواب قريبة المرمى قليلة الكلفة، أما البشر فهم يسخرون عقولهم الذكية ومواهبهم العليا للاستكثار من هذا الحطام والاستئثار به عن الآخرين، وكم يطوي الليل والنهار من جراحات وضحايا ومظالم في أعقاب هذا العراك المادي السفيه.

 تُرى لو فكر الناس بأناة، وذكروا ربهم بدل نسيانه؟ وقدروا حقه بدل جحده ، وفرغوا له من أفكارهم وأفئدتهم قسطاً يصلهم به، أما كان يحمل عنهم هذا العناء كله؟!، إنه يستطيع أن يلهمهم رشداً يختصر لهم المتاعب؟ ويجنبهم الجري وراء الأوهام، وما أكثر الذين يجرون وراء الأوهام الباطلة في الحياة وما أكثر الذين يبذلون الكثير ويجنون القليل، ولو أرادوا لكانوا أحسن ظناً.

تأمل ما رواه معقل بن يسار رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي يقول الله تعالى: (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).

 وهذا الحديث ليس دعوة للعطل، وكل دعوة للعطل فهي منقوضة من أساسها، إنما هو دعوة لتغليب الله على هموم الرزق ومتاعب العيش، والكد في الدنيا للاستعفاف والغنى من حقائق العبادة، ومن معاني الجهاد، ولكن الملحوظ أن مطالب الدنيا قد تكتسح أحيانا الواجبات المفروضة، وتصرف الناس عن الله والصلاة له، والمآل إليه وذاك ما يعالجه الدين بشتي الأساليب.

 ومن ترهيب الناس عن هذه الحال ما رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة).

 وفي رواية (إنه من تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه، ويشتت عليه ضيعته ولا يأته منها إلا ما كتب له، ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه في قلبه ويكفيه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة) .

والموضوع يحتاج إلى زيادة إيضاح، وفي القرآن الكريم ما يجمع أطراف الحقيقة بإيجاز وحسم.

 قال تعالى في طلاب الدنيا الذين كرسوا أوقاتهم ونشاطهم لها دون سواها: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {هود:15-16} 

هذا الفريق من الناس لا يصدق بيوم آخر، ولا يستعد له بشيء، فطبيعي ألا يكون له فيه نصيب، إنه لم يزرع له عوداً واحداً، فمن أين يأتي الجنى؟.

 أما عمله في الدنيا الذي توفر عليه وتفرغ له فهو محسوب له كله، لا ينقص ذرة من الجزاء المرصد له، ولابد أن يقتطف ثمرته دون بخس أو جور، لكن تسعير هذا العمل بما يساوي قيمته الحقيقية، ثم الزيادة عليه بما يشاء الله سبحانه من فضل، أمر موكول لله تعالى وحده.

 فقد يؤدي رجلان متساويان المواهب والجهد عملاً واحداً، فيعطي أحدهما حقه كاملاً، ويمنح الآخر نصيباً أكبر من صدارة أو عافية، أو ثراء.. إنه لم يظلم الأول فليس له اعتراض.

 ولما كان الله تعالى هو المريد المختار الماجد الذي لا يعوق قضاءه شيء، ولا يتحكم في عطائه أحد، فقد أعلن هذا التفاوت منسوباً إلى مشيئته، حتى يشعر البشر طراً بأنه سبحانه القاهر فوق عباده فلا يقهر، الغالب على أمره فلا يغلب.

 قال جل شأنه: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا] {الإسراء:18-19}، وهذه الآيات مبينة في أن أثمان ومنح الكافرين على ما يعملون موكولة للقدر الأعلى الذي لا يظلم، وإن فاوت في العطاء.

 وأن هذه الدنيا يمرح فيها الكافرون والمؤمنون متمتعين بالإمداد الإلهي الرحب الغدق، ولكن الكافرين الذين ظفروا في عاجل أمرهم بالرحمة الإلهية على ما يعملون، وعلى ما لا يعملون، يحرمون يقيناً من الدار الآخرة... فإن هذه الدار لا يكسبها إلا من أرادها، واستعد للحياة الباقية فيها، وكان المهاد الذي آثره لنيلها هو الإيمان الحق...

 وفي معاملة طلاب الآخرة، وما يتنزل عليهم من رحمات الله وأفضاله يقول جل شأنه: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ] {الشُّورى:20}.

 أساس المعاملة هنا ليس العوض المكافئ ، بل العطاء الواسع، وهو عطاء يشمل الدنيا والآخرة؟ وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء، إلا أن الابتلاء المفروض في فترتها لا ينافي أن تورق للمؤمن أغصان من عمله يسير في ظلها حيناً إذا كان هناك من يلفحه الحر، ويئوده التعب.

 وتوضيحا للمعاملة التي يلقاها المؤمن من ربه روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد عبدي أن يعمل حسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة).

 وبعد هذا البيان يعالن الله عباده بما عنده فيقول:[مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا] {النساء:134}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين