العظيم أحمد ديدات.. تعيش انْتَ! (2)

العظيم أحمد ديدات.. تعيش انْتَ! (2/2)

بقلم: د. عبد السلام البسيوني

 

نقطة التحول: بعثة آدم التبشيرية:

كانت نقطة التحول الحقيقية في حياة ديدات في الأربعينيات الماضية: زيارة بعثة آدم

التنصيرية دكان الملح الذي كان يعمل به، وكان في منطقة نائية في ساحل جنوب إقليم ناتال، بجانب الإرسالية المسيحية، وكان طلبة الإرسالية يأتون إلى الدكان الذي يعمل به ديدات حيث كان جميع العاملين به من المسلمين! ويكيلون الإهانات لديدات وصحبه؛ عبر الإساءة للدين الإسلامي، وتوجيه أسئلة كثيرة لم يكن يستطيع وقتها الإجابة عنها!

فآلى عن نفسه أن يدرس الأناجيل بمختلف طبعاتها الإنجليزية - حتى النسخ العربية كان يحاول أن يجد من يقرأها له - وقام بعمل دراسة مقارنة في الأناجيل، فاكتشف تناقضات غريبة، وأخذ يسأل نفسه: أي من الأناجيل هذه أصح؟

وواصل وضع يده على التناقضات وتسجيلها لطرحها أمام أولئك الذين يناقشونه بحدة كل يوم في الحانوت، وبعد أن وجد في نفسه القدرة التامة على العمل من أجل الدعوة الإسلامية ومواجهة المنصرين قرر ديدات بأن يترك كل الأعمال التجارية، ويتفرغ لهذا العمل!

وهناك رواية أخرى تقول إن ديدات في مطلع شبابه عمل لدى دار نشر للكتب المسيحية، وكانت هذه الدار ملحقة بمؤسسة للتبشير بالدين المسيحي، يمتلكها مليونير أمريكي يدعى وليامز، وقف ملايينه للنشاط التبشيري المسيحي في أفريقيا! وقد أنشأ معهدًا لتخريج المنصرين المسيحيين، وكانت دار النشر التي يعمل بها الشاب ديدات ملحقة بمعهد وليامز لتخريج المنصرين، وكان أولئك يمارسون كل يوم ارسة قدراتهم، وتطبيق دروسهم النظرية مع ذلك الشاب المسلم، الذي يعمل موظفًا بالمكتبة ودار النشر الملحقة بمعهدهم!

وقد قال لجريدة الجزيرة:

كانوا يقولون لي إن محمدًا صلى الله عليه وسلم له العديد من الزوجات، فلا أستطيع الرد عليهم! وقالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم نشر دينه بحد السيف، فلم أستطع الرد!

وقالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتب القرآن من اليهودية والمسيحية، فلم أستطع الرد!

كانت تنقصني الحجَّة، وكانت معظم تعاليم الدين آنذاك مبهمة علي، كنت أقوم بأداء

الفرائض الإسلامية كما كان يؤديها والدي، وكنت لا أشرب الخمر ولا أقامر اقتداء بوالدي، ولكنني لم أكن أعرف شيئًا عن تفاصيل العقيدة الإسلامية، ولا أعرف كيف أرد على أباطيل دعاة التبشير المسيحي!

وكنت أشعر بكثير من الضيق والحزن؛ لدرجة أني كنت أثناء الليل أبكي، ولا أنام إلا قليلًا، وأقول: كيف يتطاول صبية المسيحية على الإسلام، وهو أفضل الأديان؟ وكيف يطعنون في نبي الإسلام وهو أعظم إنسان خلقه الله واصطفاه ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين؟ وكيف لا أستطيع الرد عليهم؟

 

وفي اللقاء الثاني بطلاب الإرسالية كان على استعداد لمناقشتهم، بل ودعاهم للمناظرات، وحينما لم يصمدوا أمام حججه، قام بشكل شخصي بدعوة أساتذتهم من الرهبان في المناطق المختلفة، وشيئًا فشيئًا تحول الاهتمام والهواية إلى مهمة، وطريق واضح للدعوة بدأه واستمر فيه، فكان له من الجولات والنجاحات الكثير، واستمر في ذلك طيلة ثلاثة عقود، قدم خلالها المئات من المحاضرات والمناظرات مع القساوسة، كما وضع عددًا من الكتب الشهيرة المعروفة!

كان كل من حوله يحفزه على البحث والاطلاع فيما يتعلق بالدين والعقيدة، فتخصص في دراسة تشبع نهمه، وهي دراسة مقارنة الأديان، لتكون النتائج مذهلة. ثم سافر إلى باكستان عام 1949 ليجمع مبلغا يفيض عن حاجته لينفقه في الدعوة، فمكث هنالك ثلاث سنين.

وكان سر تحوله الأكبر قراءته كتاب إظهار الحق؛ الذي كان حافزه للاشتغال بالحوار الإسلامي المسيحي!

كان من مهام ديدات في العمل: ترتيب المخازن في المصنع الذي يعمل به، وبينما هو يعمل عثر على كتاب إظهار الْق للعلامة رحمت الله الهندي. وهو يتناول الهجمة التنصيرية المسيحية على وطن ديدات الأصلي الهند؛ ذلك أن البريطانيين لما هزموا الهنود، كانوا يُوقنون أنهم إذا تعرضوا لأية مشاكل في المستقبل فلن تأتي إلَّا من المسلمين الهنود، فالسلطة والحكم والسيادة قد انتزعت غصبًا من أيديهم!

 

ولأنهم قد عرفوا السلطة وتذوقوها من قبل فإنهم لا بد وأن يطمحوا لها مرة أُخرى! ومعروف عن المسلمين أنهم مناضلون أشداء؛ بعكس الهندوس، فإنهم مستسلمون ولا خوف منهم.

 

وعلى هذا الأساس خطط الإنجليز لتنصير المسلمين؛ ليضمنوا الاستمرار في البقاء في الهند لألف عام! وبدؤوا في استقدام موجات المنصرين المسيحيين إلى الهند!

فتح هذا الكتاب العظيم الآفاق لديدات ليرد على شبهات النصارى، وبداية منهج حواراته مع أهل الكتاب، وتأصيله تأصيلًا شرعيا يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب إلى الحوار وطلب البرهان والحجَّة من كتبهم المحرفة!

اعتاد ديدات محاورة المنصرين، ثم صار يتفق معهم على زيارتهم في بيوتهم كل يوم أحد، بعد أن ينتهوا من الكنيسة! يقول ديدات:

نهمي الطبيعي وحبي للقراءة وضع يدي على بداية الطريق، فلم أكن أكتفي بالجرائد التي كنت أقرؤها بالكامل، وأظل أفتش في الأكوام بحثًا عن المزيد مثل المجلات أو الدوريات، وذات مرة وأثناء هذا البحث عثرت على كتاب كان عنوانه بحروف اللاتينية إظهار الحق Izhar-ul-haq، وقلبته لأجد العنوان بالإنجليزية Truth Revealed

جلست على الأرض لأقرأ فوجدته كتب خصيصًا للرد على اتهامات وافتراءات المنصرين في الهند، وكان الاحتلال هناك قد وجد في المسلمين خطورة، فكان من بين الحلول محاولات تنصيرهم لتستقر في أذهانهم عقيدة "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر" فلا يواجه بمقاومة أكبر من المسلمين، وبذلك تعرض المسلمون هناك لحملات منظمة للتنصير، وكان الكتاب يشرح تكتيك وأساليب وخبرات توضح طريقة البداية، وطرح السؤال، وأساليب الإجابة لدى نقاش هؤلاء المنصرين، بما جعل المسلمين في الهند ينجحون في قلب الطاولة ضدهم، وبالأخص عن طريق فكرة عقد المناظرات!

رفاق الدرب التقى ديدات بغلام حسن في رحلة البحث والدراسة والقراءة المتعمقة في مقارنات الأديان، وساعد ديدات كثيرًا في التحصيل العلمي وصقل الذات! وفي تلك الآونة كانت ملكة المناظرة قد نضجت لدى أحمد ديدات؛ من خلال مناقشاته اليومية التي تطورت إلى مناظرات على نطاق ضيق مع القساوسة، في مدن وقرى صغيرة جنوب أفريقيا، وحين قرر التفرغ تمامًا عام 1956 اتفق الرجلان آنئذٍ على تأسيس مكتب الدعوة، في شقة متواضعة بمدينة ديربان، ومنه انطلقا إلى الكنائس والمدارس المسيحية داخل جنوب أفريقيا؛ حيث قام أحمد ديدات بمناظراته المبهرة والمفحمة، وجاب البلاد بطولها وعرضها، ومعه رفيق دربه غلام حسن، وأحدث اضطرابًا في الوسط الكنسي، ومن ثم المجتمع كله، وهز مفاهيم ومعتقدات راسخة ومقدسة، واستطاع

تغييرها، وأحدث ثغرة داخل الكنيسة؛ بعد أن تحول المئات بإرادتهم إلى الإسلام؛ إثر حضور مناظراته، أو بعد زيارته في مكتبه الذي تحول إلى منتدى للزائرين والوافدين من كل مكان!

 

ثم تعرف بعد ذلك على صالح محمد وهو من كبار رجال الأعمال المسلمين، في كيب تاون وهي مدينة ذات طبيعة خاصة، إذ تتميز بكثافة سكانية إسلامية عالية، لكن أوضاع المسلمين فيها ليست على ما يرام، مقابل أغلبية قوية، ومنظمة جدا من المسيحيين، بالإضافة إلى أنها ذات موقع مهم، ولها أهميتها التجارية والسياسية!

 

لكل هذه الأسباب قام صالح محمد بدعوة ديدات لزيارة المدينة، حيث رتب له أكثر من

مناظرة مع القساوسة في المدينة، ولكثرة عددهم ورغبتهم في المناظرة أصبحت إقامة ديدات في كيب تاون شبه دائمة، وحظي من خلال مناظراته بمكانة كبيرة بين سكانها جميعًا، الذين تدفقوا على مناظراته، حتَّ أصبح يطلق على كيب تاون أحمد ديدات تاون!

 

وهكذا صار غلام حسن وصالح محمد ملازمين لديدات في حله وترحاله، وأصبح الرجلان جناحي طائر ينطلق به ديدات إلى الفضاء محلقً ا في جولات ومناظرات، فتحت عشرات الآلاف من القلوب والعقول للإسلام، فاهتدت إليه!

وفي الخمسينيات في مدينة ديربان جد جديدٌ آخر: كان الشيخ يقدم محاضرات دعوية صباح كل أحد، وكان جمهوره آنئذ بين مائتين وثلاثمائة فرد، واستمر ازديادٍ دائم! وبعد نهاية هذه الثلاثمائة شخص الذين كانوا يحضرون حديث الأحد، اختار فيرفاكس خمسة عشر أو عشرين ليتلقوا المزيد من العلم!

 

واستمرت دروس السيد فيرفاكس نحو شهرين، ثم تغيب! ولاحظ ديدات الإحباط وخيبة

الأمل على وجوه الشباب، ويوم الأحد من الأُسبوع الثالث من تغيب السيد فيرفاكس اقترح عليهم ديدات أن يملأ الفراغ، وأن يبدأ من حيث انتهى فيرفاكس؛ بما له من المعرفة في هذا المجال!

وظل ديدات يتحدث إليهم كل أحد مدة ثلاث سنوات، ليكتشف أن هذه التجربة كانت

أفضل وسيلة تعلم منها، فأفضل أداة لكي تتعلم هي أن تُعَلم الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بلِّغوا عني ولو آية)، وإنك إذا بلَّغت وناقشت وتكلمت فإن الله سيفتح أمامك آفاقا جديدة !

 

أول محاضرة:

كانت أول محاضرة لديدات بعنوان محمد صلى الله عليه وسلم رسول السلام في عام 1940 م ألقاها أمام 14 شخص فقط بإحدى دور السينما، وبعد فترة وجيزة زاد العدد، وكان محبو الاستماع له يشاركون في جلسات الأسئلة والأجوبة التي كانت تعقد عقب محاضراته!

 

ونجحت قوة حجته في إعادة مرتدين تخلوا عن عقيدتهم، إلى الإسلام، وبدأت شؤون وشجون الدعوة تهيمن على كل جوانب حياته، حتَّ بلغ عدد الْضور في محاضراته 40 ألفً ا!

 

وألقى ديدات محاضرات في كل أنحاء العالم، ونجح في مواجهة مسيحيين إنجيليين في مناظرات عامة ومن أشهر مناظراته: هل صُلب المسيح؟ التي ناظر فيها بنجاح الأسقف جوسيه ! ماكدويل في ديربان عام 1981

 

ومن جنوب أفريقيا خرج الشيخ أحمد ديدات إلى العالم في أول مناظرة عالمية عام 1977 بقاعة ألبرت في بريطانيا؛ حيث ناظر كبار رجال الدين النصراني أمثال كلارك

وجيمي سواجارت وأنيس شروش وغيرهم! وقد انتفع بها المسلمون فثبت اعتقادهم بالإسلام والقرآن، وعرفوا التحريف في الأديان، كما انتفع بها بعض المهتدين من النصارى!

 

وأحدثت مناظراته دويا في الغرب لا تزال أصداؤه تتردد فيه حتَّى يومنا هذا! فحديثه عن تناقضات الأناجيل الأربعة دفع الكنيسة، ومراكز الدراسات التابعة لها، والعديد من

الجامعات في الغرب لتخصيص قسم خاص من مكتباتها لمناظرات ديدات وكتبه، وإخضاعها للبحث والدراسة؛ سع يًا لإبطال مفعولها، ومنعها، وعدم انتشارها.

 

ويذكر الدكتور غلام حسين أن من أول مناظرات أحمد ديدات كانت مع السفير الإسرائيلي في جنوب أفريقيا في الستينيات، حين استطاع ديدات ببراعته ونباهته أن يهزم خصمه أمام حشد كبير من الحضور، وأن يفند حججه التوراتية المزعومة فيما يتعلق بأرض الميعاد!

 

المركز العالمي للدعوة:

في عام 1959 توقف ديدات عن الكتابة؛ ليتفرغ للمهمة التي نذر لها حياته: الدعوة إلى الإسلام؛ بإقامة المناظرات، وعقد الندوات والمحاضرات! وكان العضو المؤسس الأوَّل للمركز بديربان ورئيسه. IPCI الدولي للدعوة الإسلامية، ومعهد السلام لتخريج الدعاة، وكان لتعاون زوجته ومساندتها وتشجيعها له الأثر الكبير ببناء نواة مركز السلام عام 1968 بميزانية لم تتجاوز وقتها ثلاثة جنيهات وخمسة شلنات، على أرض مساحتها 75 فدانًا تبرع بها الحاج قدوة! ومع مرور الوقت بدؤوا ببناء مسجد، ومدرسة ابتدائية، ومعهد لتدريب وتعليم وتربية الدعاة المسلمين من بين الأفارقة؛ بالإضافة إلى عيادة طبية، وملحقات رياضية، ومحلات تجارية، وأماكن ترويحية أُخرى، وتقدر ميزانيته الآن بملايين الدولارات!

 

أما المركز العالمي للدعوة الإسلامية فديدات هو المؤسس له؛ كما مر، وقد ترأسه سنوات عديدة - فاز أثناءها بجائزة الملك فيصل العالمية لْدمة الإسلام لعام 1986 - وعن طريقه نشر كتبه، وأنتج شرائطه، ويوزع المركز ملايين النسخ المجانية وخاصة من الترجمة الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم الذي حرص على توزيعها على المسلمين وغيرهم في أنحاء العالم، كما يقوم المركز بعدد من الأنشطة من بينها: إعداد دورات للدعاة، ودعوة غير المسلمين عن طريق السياحة والجولات بين المساجد والتعريف بالإسلام، كما يحرص المركز على ترجمة معاني القرآن والكتب الإسلامية باللغات المحلية في جنوب أفريقيا مثل لغة الزولو Zulu وغيرها!

 

مواقف وأحداث:

قصة القسيس الذي انحنى خجلًا أمام الشيخ أحمد ديدات:

ذهب الشيخ أحمد يومًا ليبحث عن النسخة الإندونيسية من الإنجيل، بدار الكتاب المقدس في مدينة جوهانسبيرج، وراقبه مدير الدار باستغراب؛ نظرًا لهيئته التي توحي بأنه مسلم، فالتفت إليه وقال:

هل تبحث عن شيء معين؟ فلما أخبره أحمد ديدات عما يبحث أثار هذا اهتمام المدير، ودعاه معه لتناول كوب من الشاي، وتحدث معه مدير الدار عن الإنجيل، وتناقشوا في أمر ولادة السيد المسيح عيسى ابن مريم، فقام الشيخ أحمد ديدات بشرح هذا الأمر له، وتوضيح الفرق بين ما يذكره الإنجيل عن ولادة عيسى وبين ما يذكره القرآن! وبمجرد ما انتهى الشيخ أحمد ديدات من حديثه انحنى له مدير الدار، واعترف له بأن القرآن حق!

 

مرضه ووفاته:

 

عن بداية إصابة ديدات بالمرض يقول صهره عصام مدير: إنه كان قد أصيب بجلطة في الشريان القاعدي في شهر ابريل عام 1996 بسبب عدة عوامل على رأسها أنه مريض بالسكر منذ فترة طويلة، أجهد خلالها نفسه في الدعوة كعادته، ولكن في ذلك الشهر تحديدًا أخذ رحلة مكوكية للدعوة، تحدث عنها الإعلام الأسترالي؛ فقد عرض الإسلام، وتحدى عددًا من المنصرين الأستراليين الذين أساؤوا للإسلام - وكان ديدنه ألا يناظر، ولا يبادر المنصرين؛ إلا الذين يتعدون على الإسلام، فيستدعيهم الشيخ للمناظرات، ويرد عليهم بالحجة والبرهان- ولذلك ذهب إلى أستراليا، وطاف بها محاضرًا ومناظرًا، وعندما عاد حدث له ما جرى وأصيب بجلطة في الدماغ، ودخل في حالة نادرة تعرف عند الأطباء بحالة الحجز الداخلي، بمعنى أن من يصاب بها يعي كل ما يدور حوله، ولا يفقد أية حاسة من حواسه، لكنه لا يستطيع التفاعل مع محيطه بالكلام أو الحركة، فكأنه يحجز ذلك داخل جسمه!

ومن جراء ذلك أصبح لا يستطيع تحريك كامل جسمه بداية من الرقبة؛ إلا أنه كان يستطيع أن يحرك رأسه، ولم يفقد ذاكرته، أو وعيه؛ بل ازدادا حدة!

أضاف عصام مدير أنه في أول اسبوع من مرضه قام الأمير سلطان بن عبد العزيز بإرسال طائرة خاصة؛ ليعالج على نفقة الدولة في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض! ولأنه لم يكن يستطيع أن يبلع الطعام، أجرى له الأطباء عملية جراحية، لتوصيل أنبوب تغذية بالسائل للمعدة، كما وفروا له نظامًا للتخاطب؛ بحيث يرى ويسمع الأحرف الإنجليزية مصفوفة في خمسة صفوف، ومرقمة بطريقة سهلة، يكون من خلالها ديدات بمساعدة شخص آخر الكلمة فالجملة، وبهذه الطريقة كان يمازح زواره، ويجيب عن استفسارات الأطباء والممرضين من غير المسلمين، وارتفعت معنوياته؛ لأنه أصبح يستطيع أن يعبر عن نفسه، وبعد 10 شهور استقرت حالته، فقرر العودة إلى منزله في جنوب أفريقيا، لإدارة شؤون الدعوة ومكتبه!

ظل أحمد ديدات - بعد معاناة طويلة مع المرض أقعده الفراش طوال 9 سنوات متواصلة - قادرًا على التواصل مع الآخرين، والحديث معهم بواسطة حركات جفونه، رغم عدم قدرته على تحريك جسمه كاملًا؛ فيما عدا رأسه!

كان يقيم في منزله في منطقة فرولام القريبة من المدينة، وهذا المنزل الذي يقع وسط

المساحات الخضراء مفتوح طوال الوقت للزائرين المسلمين وغير المسلمين، لا تحيط به الأسلاك ووسائل التأمين، التي تتبعها بقية المنازل في جنوب أفريقيا بسبب انتشار الجريمة!

 

وطوال سنوات المرض التسع كان ديدات في غرفته راقدًا على سريره بلا حراك، مستندًا

برأسه على وسادة تهيئ له استقبال زائريه، يتكلم بعينيه، ويتواصل بهما مع الزائرين، ويتحاور مع وسائل الإعلام، وهي طريقة توصل إليها الأطباء السعوديون خلال علاجه في المملكة العربية السعودية في الشهور الأولى من مرضه، ساعدهم عليها براعته الفائقة في فنون الاتصال!

 

ورغم إصابته ولزومه الفراش منذ عام 1996 فإنه واصل دعوته من خلال الرسائل التي تتدفق عليه يوميًا من جميع أنحاء العالم بمتوسط 500 رسالة يومية؛ بالهاتف أو الفاكس أو عبر الإنترنت والبريد، يطلب معظمها نسخًا من مناظراته وكتبه، كما وصل تعداد زائري مسجده الكبير في ديربان من الأجانب إلى أربعمائة سائح أجنبي يوميا، يتم استقبالهم وضيافتهم من قبل تلامذته، كما يتم إهداؤهم كتبه ومحاضراته ومناظراته التي جاؤوا يطلبونها!

كتبت داليا يوسف: في زيارة وفد إسلام أون لاين نت لمدينة ديربان كانت لنا لقاءات مع (IPCI: Islamic propagation center) القائمين على المركز العالمي للدعوة الإسلامية الذي أسسه ديدات، وبدا اللقاء الذي استبعدته كنًا؛ إذ نظم لنا المركز زيارة إلى الشيخ بمنزله. قطعت بنا السيارة مسافة خارج ديربان في طريق امتدت على جانبيه مزارع قصب السكر الذي أتى آباء ذوي الأصول الهندية في جنوب أفريقيا لزراعته، وصلنا إلى منطقة حيث يقبع منزل الشيخ بين المساحات الخضراء. نزلنا درجات إلى ،Verulum فرولام الباب.. رائحة المسك تملأ المكان.. خطوات قليلة في الممر الضيق، وأصبحنا في غرفة الشيخ وأمام سريره! جسد يرقد في هدوء بلا حراك، ورأس يستند على وسادة رُفعت ليستقبل زائريه! وعينان لا تتوقفان عن الْركة والإشارة والتعبير، وعبرهما يتحاور الشيخ ويتواصل، وهو الذي برع دائمًا في فنون الاتصال. "هل هي معجزة؟! لا، ولكنها إرادة الله سبحانه وتعالى التي مكنتنا أن نتحاور مع الشيخ ديدات عبر عينيه".

هذه هي الكلمات التي حملها الملصق المعلق فوق سرير الشيخ، وفوقه الرسم الذي حمل الجدول التالي:

1- A B C D E F

2- G H I J K L

3- M N O P Q R

4- S T U V W Y

5- X Z

يستطيع الشيخ ديدات أن يتواصل عبر لغة خاصة، وصفها الأطباء بأنها تشبه لغة النظام الحاسوبي Computer System، فهو يحرك جفونه سريعًا؛ وفقًا لجدول أبجدي يختار منه الحروف، ويكون بها الكلمات، ومن ثَم يكون الجمل!

أنهينا حوارنا، وقد أصرت السيدة حواء ألا تتركنا نرحل، (زميلتي ورفيقة رحلتي أروى، وأنا) رغم تأخرنا على موعد الطائرة - دون أن تقدم لنا تحية الضيف، صلينا الظهر بمنزل الشيخ وفي مكتبته، وحينما هممت بالانصراف، آثرت أن أعود لغرفته لأحييه، فوجدته يتابع شريط فيديو وصله من الولايات المتحدة عن القضية الفلسطينية، وما وصلت إليه، ابتسمت سرا وخرجت أردد: اللهم ارزقنا - مثل من ضرب مثلًا عبر حياته لقدرة البسطاء على العمل لما يعتنقون ويؤمنون به - قلبًا شاكرًا، وعقلًا واعيًا، ولسانًا ذاكرًا، وجسدًا على البلاء صابرًا! آمين!

 

قال صهر ديدات عصام مدير: ظل 9 سنوات طريح الفراش على هذه الآلة، التي كانت عجيبة ومستقرة، ولم تتعرض لانتكاسة إلا في أواخر شهر يونيه وبداية يوليه حين أصابه شبه فشل كلوي، وكانت تعاوده بين الحين والآخر الحمى الشديدة، وأحس الشيخ بقرب أجله وأخبرنا بهذا فكان يطلب من أهل بيته وولده أن يقرؤوا له الصحف بشكل يومي!

 

في يوم الاثنين الثامن من أغسطس 2005 الموافق الثالث من رجب 1426 ه توفي إلى رحمة الله تعالى عن عمر يناهز السابعة والثمانين عامًا بمنزله، وهو يستمع إلى القرآن الذي كان يحبه حبا جما، بعد صراع طويل مع المرض، وصلى عليه بعد صلاة المغرب في أحد مساجد مدينة فيرلم على بعد 30 كم شمالي مدينة ديربان التي توفي في أحد مستشفياتها.