العسل المسموم والسمّ المعسول

لم يخمد أُوار الحرب بين الحق والباطل منذ أن أسجدَ الله ملائكتَه لآدم أبي البشر، فحسدهُ إبليسُ أبو الشياطين.. وستبقى هذه الحرب تتلظى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ليميزَ الله الخبيثَ من الطيب ويتفاصل المعسكران، يكران ويفرّان، ما تعاقبَ الجديدان.

وليس خطرُ المعسكر الإبليسي مقتصراً على شياطين الجنّ الذين درّبهم أبوهم إبليس على فنون الوسوسة والإغواء، بل ربّما كان بعض شياطين الإنس أشدّ منهم خطرا، وأبعد أثرا، وإن كان بعضُهم يوحي إلى بعض بدسائس الكيد وخوافي المكر، مصداقاً لقوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) – الأنعام - )

وقد دأب أعداء الإسلام على حربه والكيد له منذ بعثة محمد صلى الله وسلم فلم يتركوا سلاحاً إلا واستخدموه ولولا أن هذا الدين الخاتم محفوظ بحفظ الله له لأنه من عنده سبحانه لأصبح أثراً بعد عين جرّاء تلكم الحروب الشرسة التي كان يكفي بعضُ بعضِها لمحوه لو كان من عند البشر..

وقد طوّرَ أولئكم الشياطين أساليبَهم وخططهم بحسب العصور.. فقد كانوا قبل زماننا هذا يعتمدون المواجهة المباشرة في غزوهم لعقول المسلمين بمحاولة زعزعة أصول الإسلام كالتشكيك في صدق النبي صلى الله عليه وسلم أو الطعن في القرآن ومحاولة إيجاد ثغرات ينفذون منها لتكذيبه..

فلمّا رأوا أن ذلك لم يُجدهم نفعاً، ولم يُغنهم فتيلاً، وتكسرت قرونهم التي كانوا يناطحون بها حصون الإسلام العاتية، تفتّقت أذهانهم عن أسلوب جديد يحاولون به استدراك ما فاتهم، وتحقيق ما أعياهم، بأنْ يصنعوا على أعينِهم شياطينَ صغاراً ممن ينتسبون إلى الإسلام بالميلاد، وإليهم بهوى الفؤاد، يُلبسونهم عمائم العلماء، ويضعون في أفواههم عبارات الفقهاء، ويُظهرون الغيرة على الإسلام، والأسى على حال المسلمين، وما آلوا إليه من التخلف والهوان فيقولون لهم إنّكم أصحاب دين عظيم وكتاب كريم وليس تخلّفكم وهوانكم إلا لأنكم لم تفهموا دينكم ولم تعلموا تفسير كتابكم، وقد أضلّكم الآباء والأجداد، فقنعتم من الطارف بالتلاد، وما بينكم وبين أن تنهضوا من كبوتكم، وتستيقظوا من غفوتكم، وتهبّوا للحاق بركب الحضارة، إلا أن تفهموا دينكم حقّ الفهْم، وتعلموا تفسير كتابكم حقّ العلم، فهلمّوا إلينا نعلمْكم ما جهلتموه طيلة تلك القرون، ونكشف لكم السرّ المكنونْ، ونرفع لكم الحجاب عن الدرّ المصون، ودعوا عنكم فهم الآباء، وأقوال من ظننتموهم علماء، فما أورثوكم إلا ضلالا، وما زادوكم إلا خبالا، فوضعوا لكم أحاديثَ نسبوها إلى الرسول الكريم، ليصرفوكم عن القرآن العظيم، فدونكم فحطّموا عنكم تلك القيود، وتحرروا من ربقة أغلال الجمود، فما حاجتكم إلى تلكم الكتب الصفراء التي قيل عنها إنها كتب السُنّة والحديث وعندكم القرآن العظيم كلام ربكم؟؟

وبمثل هذا الكلام البرّاق الذي لا يصدُرُ إلا عن منافق بيّن النفاق قدّموا لهم أطباق العسل ولكن بعد أن دسّوا فيها السّمّ الزعاف.. وظهروا بمظهر الناصح الشفيق، وأخفوا ما في صدورهم من الحقد العتيق..

فبدلاً من الهجوم المباشر على الإسلام وأصوله، أرادوا أن يستلموا دفة قيادته، ليفرغوه من محتواه فيبقى منه اسمه ويذهب رسمه.. ولعمري ماذا يبقى من الإسلام وشرائعه إذا أسقطنا السنّة منهُ، وهم بعد أن يشككوا المسلمَ في الحديث، يتفرغون للقرآن فيفسرونه بأهوائهم وجهالاتهم وهم يُظهرون تعظيمه وتقديسه..

وبهذا ظهر من يُعِدّونهم ليكونوا قادة الإسلام الجدد من أمثال الشحرور والكيالي وإبراهيم عيسى وأضرابهم..

فوالله لقد استمعت وقرأت لكثير من هؤلاء الشياطين أوّل ما نجموا ونبتت نابتتهم فلم أُلقِ إليهم بالا، ولا رأيتُ أنهم يستحقون أن أُنشئ في تزييف بدعتهم مقالا، استصغاراً لهؤلاء الجهال الذين لا يصدرون عن علم ولا يتكلمون إلا بما يُلقى إليهم من تلكم الترهات والأباطيل، ولأنني ما كنتُ أظنُّ أن يخدعوا بزخارفهم عاقلاً عنده مسكة من فهم، أو أثارةٌ من علم..

ولكن يبدوا أنني كنتُ مخطئاً في تقدير وعي الناس وفهمهم فما راعني إلا أن تنتشر مقالاتهم بين من يسمّون أنفسهم مثقفين، فيكثر أتباعُهم ومن يُفتنون بكلامهم إما عن جهل ذريع أو عن هوىً مُتَّبَع..

فألجؤونا والله إلى توضيح الواضحات، وبرهنة المسلَّمات، كما فعلتُ في منشوري السابق عن القراءة المعاصرة لأحد هؤلاء الرويبضة في مقولة واحدة من ضلالاته الكثيرة، وكنت وأنا أردّ عليها أستخسر الوقت والجُهدْ، ولكن لا بُدّ ممّا ليس منه بُدّ، فليس في ما رددتُ عليه والله فهمٌ ولا منطق ولا علم، ولكن ماذا أصنع وأتباعُهم ينعقون في كلّ ناد، ويهيمون في كلّ واد؟..

ولكنّي على يقين أن مصير هؤلاء الشياطين المتخفين بلباس أهل الإيمان، كمصير سابقيهم ممّن صرّحوا ولم يُكَنّوا، وأظهروا ولم يُجِنّوا.. فالله ناصر دينِه، وحافظ كتابه، إلى أن تشرق الشمس من مغربها.. ففي مواجهة الإسلام العظيم ما هؤلاء الزعانف، إلا كرماد اشتدّت به الريح في يومٍ عاصف..

ما يضرّ البحرَ أمسى زاخراً *** أن رمى فيه غلامٌ بحجر

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين