العسكرية الإسلامية: تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (5)

وفي السنة الحادية عشرة الهجرية (632م)، أعدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سريَّة بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي(1) (حِب رسول الله وابن حِبه)، لمهاجمة الروم فولى وجوه المسلمين شطر قبلة عيَّنها لهم وأهداف واضحة جلية شرحها لهم وأصدر إليهم أوامر حاسمة جازمة.

وهكذا وقف الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بثاقب نظره على أنَّ أشد الأخطار التي يمكن أن تحل ببلاد العرب ودعوته الإسلامية، موطنها أرض الشام حيث الروم وعمالهم الغساسنة، وقد أثبتت حوادث الفتح الإسلامي فيها بعد صدق هذه الإرادة، فكان الروم أشد المحاربين عناداً (2).

تلك هي قصة جيش المسلمين الأول، الذي أنشأه وسهر على رعايته، ودرَّبه وجهَّزه ونظمه، وهيأ له القادة الحماة القادرين، وأشاع فيه المعنويات العالية بالعقيدة الراسخة، حتى أصبح جيشاً لا يقهر من قِلَّة ولا بكثرة، حقق وحدة قوية، وأنشأ أمَّة عظيمة، وحمى عقيدة راسخة في حياة قائده ورائده، ومؤسس بنيانه، ومشيِّد أركانه، ومرسِّخ إيمانه بقوة الله تعالى وعزته وارادته وهديه.

وقد نشأ هذا الجيش في المسجد، وشبَّ وترعرع في المسجد، واستوى على ساقه في المسجد، وتلقَّى تعاليمه في المسجد، فقد جعل الله تعالى الأرض كلها مسجداً وطهوراً.

وفي المدينة المنورة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انطلق جيش المجاهدين الأولين للدفاع عن الإسلام والمسلمين، ثم انطلق لحماية الدعوة الإسلامية وحرية نشرها وتبليغها إلى الناس، ثم اندفع لصيانة الكيان الإسلامي، ثم تكفل بصيانة الدولة الإسلامية مكانة وأرضاً وعرضاً، ثم نهض بأعباء حرب المرتدين وإعادة الوحدة إلى شبه الجزيرة العربية، ثم تحمَّل أعباء الفتح الإسلامي العظيم أقوى ما يكون عزماً وإرادة وتصميماً، فنقل المسلمون بهذا الفتح الأمم إلى الإسلام، ولم ينقلوا به إلا سلام إلى الأمم.

لقد أسَّس بنيان هذا الجيش على تقوى من الله تعالى ورضوان، لذلك أحرز انتصارات باهرة لا تزال أعجوبة من أعاجيب الدهر، وحقَّق فتوحات فذَّة لا تزال باقية على الدهر، وصدق الله العظيم: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 109].

والدرس الذي يمكن أن نستخلصه من بناء الجيش الإسلامي الأول، جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو أن نبني الجيوش العربية والإسلامية على أسس رصينة من تعاليم الدين الحنيف، لتتحلى تلك الجيوش بالمعنويات العالية التي ترتكز على تلك التعاليم.

وأن نحسن لها اختيار القادة المؤمنين حقاً، من ذوي الطبع الموهوب والعلم المكتسب والتجربة العملية، القادة الذين يؤثرون مصلحة أمتهم وبلدهم على مصالحهم الذاتية.

وأن نعد لها السلاح المتطور، وندربها التدريب المتكامل ونهذبها التهذيب الناجع، ونجهزها التجهيز المتميَّز، وننظمها التنظيم الدقيق.

وأن نعيد للمسجد مكانته ليؤدي رسالته في غرس العقيدة الراسخة والمعنويات العالية، فهو وحده يؤدي هذه الرسالة، أما غيره من الأماكن فهي تؤدي رسالة من نوع آخر، فهي من مصلحة الأعداء لا من مصلحة الأصدقاء.

إن المسجد يكون في الأرض، ولكن السماء تكون فيه - وكل مسجد هو معمل - لتفريخ المجاهدين الصادقين، والنوادي الترفيهية معامل لتفريخ التافهين والإمّعات والهتافة من أشباه الرجال.

والنفوس المؤمنة لا تتشبَّع بالماء كالإسفنج. بل تتشبَّع بروح المسجد وكل مسجد أسس على التقوى ثكنة لجيش المسلمين ومدرسة، فمتى يعود المسلمون إلى المسجد ليستعيد مكانته ويؤدي رسالته؟!.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على إمام المجاهدين الصادقين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

والله أسأل أن يفيد بهذا البحث، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية الدوحة محرم 1400هـ.

الحلقة السابقة هـــنا

(1) البلقاء: كورة من أعمال دمشق ووادي القرى قصبتها: عمان، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/276.

(2) انظر تفاصيل سيرة مؤتة في كتابنا : الرسول القائد 295 -302.

(3) المرجع السابق ص 33-51.

(4) الدولة الإسلامية وامبراطورية الروم 41.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين