العسكرية الإسلامية تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (4)

وفي هذا الدور اجتاز الجيش الإسلامي الوليد وقتاً عصيباً بنجاح باهر وانتصارات حاسمة، وصفه الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام قبل خوض غزوة (بدر الكبرى) بقوله وهو يناجي ربه: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد(1). مشيراً إلى موقف المسلمين العصيب، ولكنه قال عليه الصلاة والسلام بعد انسحاب الأحزاب من غزوة (الخندق): (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم(2)، مشيراً إلى تحسن موقف المسلمين من حال الخطر المحدق إلى حال القوة والمنعة.

والدور الثالث، هو دور (التعرض): من بعد غزوة (الخندق) إلى غزوة (حنين)(3) التي كانت في شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية (4).

وفي هذا الدور، انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية كلها، وأصبح جيش المسلمين قوة ضاربة ذات اعتبار ووزن وأثر في البلاد العربية، واستطاع سحق كل قوة باغية من المشركين ويهود تعرضت بالمسلمين.

والدور الرابع هو دور (التكامل): من غزوة (حنين) إلى أن التحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى، في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول من سنة إحدى عشرة الهجرية(5).

وفي هذا الدور تكاملت قوات المسلمين، فسيطرت على شبه الجزيرة العربية سيطرة تامة بدون منازع، ووحدتها توحيداً كاملاً لأول مرة في تاريخها تحت لواء الإسلام.

ثم أخذت هذه القوة تحاول أن تجد لها متنفساً في خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة تبوك(6) التي كانت في شهر رجب من السنة التاسعة الهجرية (7) إيذانا بمولد الدولة الإسلامية(8).

ولست بحاجة إلى اثبات قابلية النبي صلى الله عليه وسلم القيادية وكفايته العسكرية(9)، وصدق الله العظيم: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فقد كانت قابلياته وكفاءاته القيادية والعسكريَّة وغيرها فذَّة نادرة لا تتكرر أبداً.

فقد قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه سبعاً وعشرين غزوة(10)، وفي رواية أخرى أنه قاد بنفسه خمساً وعشرين غزوة (11).

ولكنني بمقارنة تعداد الغزوات وتوقيتها في المراجع المعتمدة للسيرة النبوية المطهرة والمغازي والتاريخ، وإحصاء الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وجدت أنَّ عدد الغزوات التي قادها صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه هي ثمان وعشرون غزوة، ويبدو أن قسما من المصادر أغفلت غزوة من الغزوات سهواً، وقسماً منها أغفلت أكثر من غزوة واحدة، ولكن تعداد الغزوات التي اعتمدتها وردت في أكثر من مصدر معتمد، فآثرت اثباتها منسقة مبسطة، لعل فيها فائدة للمعنيين بالدراسات العسكرية الإسلامية(12).

وكان ما قاتل فيه من المغازي صلى الله عليه وآله وسلم تسع غزوات: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف (13)، بينما فر المشركون في تسع عشرة غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون قتال(14).

وكانت سراياه صلى الله عليه وآله وسلم التي بعث بها سبعا وأربعين سرية(15) وفي رواية أنه بعث عدداً أكثر من السرايا، والأول أصح.

وقد قاد عليه الصلاة والسلام غزواته خلال سبع سنين من بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فقد خرج إلى غزوة (ودان)(16) وهي أول غزوة قادها بنفسه في شهر صفر من السنة الثانية الهجرية(17)، وكانت غزوة تبوك آخر غزواته في شهر رجب من السنة التاسعة الهجرية، وكان من ثمرات تلك الغزوات توحيد شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام.

-6-

وبدأ الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام يخطط للفتح الإسلامي العظيم فهو الذي رسم الخطة التمهيدية التي حملت جيش المسلمين على فتح (أرض الشام)(18) فلسطين والأردن وسورية ولبنان، وتأسيس أول ركن الدولة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية.

ذلك أن الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام إلى جانب تبليغه الدعوة الإسلامية إلى قادة العالم في وقته: كسري فارس، وقيصر القسطنطينة، وأمراء وقادة العراق وأرض الشام ومصر والخليج العربي واليمن والحبشة، كان قائداً ماهراً يقظاً لا يغض الطرف عن أي مظهر عدواني قد يحط من شأن دعوته أو يعمل على النيل منها أو يضع العراقيل في طريق حرية انتشارها، فلم يقف ساكناً أمام استشهاد رسوله الذي بعثه إلى أمير الغساسنة في (بصري)(19)، فأرسل في السنة الثامنة الهجرية (629م) أحد قادته المقربين إليه، وهو زيد بن حارثة الكلبي على رأس حملة تعدادها ثلاثة آلاف رجل إلى الحدود الشمالية الغربية من حدود بلاد العرب، وهناك عند (مؤتة)()، الواقعة على حدود (البلقاء) (20) إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر (الميت)، التقى المسلمون بقوات الروم وحلفائهم(21) الغساسنة.

ومهما تكن الخاتمة التي لقيتها غزوة (مؤتة) فإن نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى، فبينما رأى الروم تلك الغزوة (غارة) من الغارات التي اعتاد البدو شنَّها بين حين وآخر، كانت سرية زيد إلى (مؤتة) في الحقيقة غزوة من نوع آخر لم تقدِّر امبراطورية الروم أهميتها، فهي حرب منظمة كانت لها مهمة جديدة خاصة، جعلت المسلمين يتطلعون جديَّاً الفتح أرض الشام.

وفي العالم التالي، أي في السنة التاسعة الهجرية (630م)، قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه غزوة (تبوك) فأظهر قوة المسلمين للروم المتربصين بهم، ثم عاد إلى المدينة المنورة، فكانت تلك الغزوة غزوة استطلاعية، بالإضافة إلى تأثيرها المعنوي في الروم وحلفائهم الغساسنة.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

(1) سيرة ابن هشام 2/267، وعيون الأثر 1/255.

(2) عيون الأثر 2/66.

(3) حنين: واد قبل الطائف بينه وبين مكة ثلاث ليال،انظر التفاصيل في معجم البلدان 3/354.

(4) طبقات ابن سعد 2/149، والمغازي للواقدي 1/6، وجوامع السيرة 241.

(5) طبقات ابن سعد 2/272، وسيرة ابن هشام 4/332، والدرر 287.

(6) تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، وهو حصن فيه عين ونخل، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/265.

(7) طبقات ابن سعد 2/165، والدرر 253.

(8) انظر كتابنا الفاروق القائد 28/29.

(9) انظر كتاب السبيل إلى القيادة للمشير مونتكومري 17/282، وكتاب المئة الأوائل للدكتور مايكل هارث الذي اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الأول في أهم رجال التاريخ.

(10) انظر التفاصيل في كتابنا الرسول القائد 421 -480.

(11) طبقات ابن سعد 2/5، والمغازي للواقدي 1/7، وعيون الأثر 1/223.

(12) جوامع السيرة 16.

(13) انظر التفاصيل في كتابنا: الرسول القائد 412 -418، ولم يدرج قسم من كتاب مصادر الغزوات غزوة بني قينقاع مع غزواته عليه الصلاة والسلام، انظر مثلاً سيرة ابن هشام 4/280.

(14) طبقات ابن سعد 2/5 -6، وعيون الأثر 1/223، وجوامع السيرة 17/21.

(15) كتاب الرسول القائد 424.

(16) سيرة ابن هشام 4/280، وطبقات ابن سعد 2/5، وعيون الأثر 1/223، وجوامع السيرة 17/21.

(17) ودان: قرية قريبة من الجحفة، وهناكودان بين الأبواء والجحفة، و هي من الجحفة على مرحلة انظر التفاصيل في معجم البلدان 8/405.

(18) المغازي للواقدي 1/2، وطبقات ابن سعد 2/8، والدرر 103، وعيون الأثر 1/224.

(19) أرض الشام حدودها من الغرب بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) ومن الشرق البادية من (أبلة) إلى الفرات إلى حد الروم، ومن الشمال بلاد الروم (تركيا) ومن الجنوب حد مصر وتيه بني إسرائيل، راجع التفاصيل في المسالك والممالك للأصطخري 43، ومعجم البلدان 5/219.

(20) بصرى: قصبة كورة (حوران) من أعمال دمشق انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/278.

(21) مؤتة: قرية من قرى البلقاء على حدود الشام ووادي القرى، انظر التفاصيل في معجم البلدان 8/19.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين