الظَّنّ

قال الله تعالى في كتابه الكريم في سورة الحجرات وهي سورة مدنية، قال في الآية الثانية عشرة منها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾

هذه السورة الكريمة بلغت آياتها من العدد ثمان عشرة آية، وجاء النداءُ في هذه السورة من أولها إلى آية الظن هذه خمسَ مرات بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾.

ففي المرة الأولى توجَّهَ الخطابُ للمؤمنين بالنهي عن التقدم في القول أو الفعل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدعوتهم إلى التأسِّي بقوله وفعله واتِّباع ما يصدر عنه دون تعجُّل عليه أو تقدم بين يديه.

وفي المرة الثانية من خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ في هذه السورة: كان الكلام دائراً على تعليم المؤمنين الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بخفض الصوت في حضرته، والتأدب في ندائه والحديث معه.

وفي المرة الثالثة من خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ من هذه السورة: كان الكلام موجهاً للتحفظ من قبول خبر الفاسق والعمل به قبل التثبُّت والتبيُّن له، مع بيان الآثار السيئة التي تترتب على قبول خبر الفاسق، وما ينجم عن ذلك من أضرار ومفاسد في حياة الناس ومجتمعهم.

وفي المرة الرابعة من خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ من هذه السورة: كان الكلام موجهاً للمؤمنين بالنَّهي عن السخرية والازدراء والاحتقار للآخرين من الناس.

وفي المرة الخامسة من خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ من هذه السورة: توجَّهَ الخطابُ للمؤمنين بالنَّهي عن كثير من الظَّنِّ، مع بيان عاقبة الظن السيئ وأثره الأخروي، ومع النهي عن التجسس الذي يكون غالباً عند سوء الظن.

وفي توجيه الخطاب بعد وصف المخاطَبين بالإيمان إشعارٌ بأن سوء الظن ينافي وصف الإيمان الذي يتحلون به، فإن المؤمن سليم الصدر سليم القلب.

وقد عرَّف العلماء الظَّنَّ، وقسموه إلى أنواع متعددة، فأما تعريف الظن فقالوا فيه: هو اسمٌ لما يحصل في النفس عن أَمَارة، ومتى قويت أدَّتْ إلى العلم، ومتى ضَعُفَتْ جداً لم تتجاوز حد التوهم والشك.

ويمكن تعريف الظَّنِّ بلفظ آخر، بأن نقول: هو ترجيح أحد الاحتماليْن المتقابليْن على الآخر ترجيحاً ناشئاً عن أمارة لا يقين معها.

وقد جاء في القرآن الكريم استعمال الظن في مساق الذمِّ كثيراً، كما جاء - على قلَّةٍ - استعمالُ الظَّن بمعنى اليقين مثل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلَّا إِلَيْهِ﴾

وقد قسَّم العلماءُ الظَّنَّ إلى أربعة أنواع أخذاً ممَّا جاء في الكتاب والسنة، فقالوا: يكون الظنُّ محظوراً، ومأموراً به، ومباحاً، ومندوباً إليه.

فأما المحظور، فمنه سوء الظن بالله تعالى، لأن الواجب على المؤمن أن يُحسن ظنَّه بالله تعالى دائماً وأبداً، وخاصَّة عند قرب انتهاء الأجل فيجب عليه أن يحسن ظنَّه بالله تعالى، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يحسن الظَّنَّ بالله عزَّ وجلّ.

ومن الظَّنِّ المحظور أيضاً: الظن في الإلهيات والنبوات التي قام الدليل القاطع عليها، فلا يصلح فيها إلا اليقين.

ومن الظَّنِّ المحظور أيضاً: ظنُّ السوء بالمسلم الظاهرِ العدالة أو المستور، وفي هذا جاء الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إيَّاكم والظَّن، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تنافَسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا.

ومن الظَّنِّ المحظور أيضاً: التَّخوُّن والتهمة للأهل والأقارب في غير محله، فإن ذلك من أسوأ سوء الظن الذي نهى عنه الشارع وحذر منه، وكان من سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينهى عن الطُّروق ليلاً، وهو أن يقدِمَ الإنسان من سفر على أهله ليلاً يباغتهم بذلك مباغتة، فيكون كالمتهِم لهم والمتجسِّس عليهم، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم المدينة المنورة ليلاً انتظر خارجها حتى يطلع النهار فيقدم على أهله، هذا إذا لم يكن لديهم علم بمقدم الغائب تعييناً أو تقريباً، أما إذا كان لديهم علم فتنتفي الكراهة من الطروق ليلاً.

ومن الظَّنِّ المحظور أيضاً: أن يسمع الرجل من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً فيظن به سوءاً، أو يراه يَدخلُ مَدْخلاً لا يريد به سوءاً فيظن به سوءاً، لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهياً ويكون الرائي مخطئاً، أو يكون فاعل ذلك أو سالكه مضطراً أو له حالة خاصة به تسوِّغُ له ذلك.

وهذا كله في الظَّنِّ بأهل الخير سوءاً، وأما أهل السوء والفسوق والمجاهرون بالمعاصي والمنكرات فلنا أن نظنَّ بهم مثلَ الذي يظهر منهم.

وأما الظَّنُّ المأمور به: فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إلى العلم القطعي به، فحينئذ نعمل فيه بالظن إذْ لم نجد دليل اليقين، وقد تَعبَّدنا الله تعالى بالعملِ بالظن في كثير من أحكام الشرع الحنيف، وأمَرَنا بترتيب الحكم عليه، وذلك على سبيل الوجوب والحتم، مثلُ قَبول شهادة العدل، وتحرّي القِبلة، وتقويم المستهلكات والمتلفات، وأُروش الجنايات التي لم يرد في مقاديرها توقيفٌ من الشارع، ومثلُ العمل بالقياس حيث لا يوجد النص على الحادثة والواقعة... وأمثال هذا، فكل هذا من الظن المأمور به الواجب العمل به والاحتكام إليه كما قرره العلماء في موضعه.

وأمَّا الظَّنُّ المباح: مثل الظن في الأمور المعيشية بتفضيل بعضها على بعض مآلاً ونفعاً واختياراً أو تركاً، ومثل الظن من الذي يشك في عدد ركعات الصلاة، فإنه يتحرى ويبني على الغالب في ظنه، فإنْ فَعَلَ ما غَلَبَ على ظنه كان ذلك مباحاً، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان ذلك جائزاً عند بعض الأئمة.

وأما الظَّنُّ المندوب إليه: فهو إحسان الظن بالأخ المسلم، يُندَبُ إليه، ويُثاب عليه، لأن الحياة الطيبة لا تقوم وتقوى إلا على الثقة والطمأنينة، وأما سوء الظن فيفسدها ويدمرها.

وأما ما روي من الحديث: احترسوا من الناس بسوء الظن. فقد نبَّهَ الحفاظ من المحدثين إلى أن سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفٌ معلول، وأنه قد صَحَّ من كلام مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير أحد التابعين الأجلة.

ويمكن أن يقال على فرض ثبوت هذا الكلام حديثاً نبوياً إن معناه إذا ظَنَّ المرءُ بشخص أنه أراد به سوءاً، فليتحفظ منه على وجهٍ لا يلحقه منه أذى ولا يلحق ذلك الشخص من الظّانِّ نقصٌ أو انتقام أو احتقار.

فالأمر باجتناب الظَّنِّ في الآية الكريمة متوجِّهٌ إلى الاتهام والظن الذي لا سبب له يوجبه، كأن يتهم شخصٌ آخرَ بشرب الخمر أو ارتكاب الفاحشة أو غيرها من المنكرات والخبائث، دون أن يَظْهَرَ دليلٌ على ما يدَّعيه فيه، وذلك كأن يقع له خاطر التهمة نحوَ ذلك الإنسان فيظن به السوء ويتجسس عليه ويبحث عنه ويتسمع ويتتبع ليتحقق ما وقع له في خاطره من تلك التهمة، فهذا قد نهى الله عنه، ونهى عنه أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إياكم والظَّن، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تنافَسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا.

والتعبير باجتناب الظَّنِّ فيه الأمر بالتباعد من الظن غاية التباعد، وذلك أن معنى قوله "اجْتَنِبُوا" كونوا أنتم في جانبٍ وسوءُ الظن في جانب، مثل قوله تعالى في الخمر ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

وإذا أردنا أن نتساءل لماذا نهى الإسلام عن سوء الظن واتِّباعه؟ فالجواب على هذا: أن سوء الظن يقطع الأواصر بين الناس، وينشئ العداوة والبغضاء، ويهدم الثقة والطمأنينة من النفوس وهي عماد القوة والتقدم والتعاون، فإذا ذهبت الثقة والاطمئنان وخَلَفَهما سوءُ الظن ورفعُ الائتمان، انقلبت الحياة بين الناس تهماً وشكوكاً وعداواتٍ وبغضاء وقطيعةً واتهامات، وفي ذلك الشر المستطير والوبال الكبير.

وإنما أَبهَمَ النصُّ القراني الظنَّ المُجْتَنَبَ في قوله سبحانه ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾، لإيجاب الاحتياط والتأمُّل في كل ظنٍّ حتى يَعلَمَ الإنسانُ ظنَّه من أيِّ قبيل، فإنَّ من الظن ما يجب اتِّباعه، كالظن فيما لا قاطع فيه من الأمور الشرعية العملية، ومثل الظن بالله تعالى خيراً عند القدوم عليه، فإنه واجب، ومن الظن ما يحرم، كالظن في الأمور الاعتقادية الإلهية أو الأمور المتعلقة بالنبوة التي ورد فيها نص قاطع لا يحتمل التأويل، والأمور العملية التي ورد فيها نص قاطع أيضاً، ومثل سوء الظن بالمؤمنين العدول أو المستورين.

ومن الظَّنِّ ما يباح، مثل الظن في الأمور المعاشية والتجارية وغيرها من هذه التصرفات التي يقوم بها الناس في سعيهم وتصرفاتهم للمعاش والكسب والضرب في الأرض.

والظَّنُّ المحظور إذا وقع من صاحبه وعمل به ارتكب الإثم، ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ أي مُوُقِعٌ في الإثم.

وهناك ظَّنٌّ يقع في النفس غيرُ اختياري لها، ويسمَّى الظن القسري، مثل أن يقع في نفس الإنسان ظن سيئ بإنسان آخر دون أمارة تُصدِّقُ ذلك أو تثبته، فمثل هذا الظن ينبغي معالجته وصرفه من النفس، كما أرشد إليه الحديث الذي رواه الطبراني، وهو حديث ضعيف، عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ لازماتٌ لأمتي: الطِيَرَة، والحسد، وسوء الظن. فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: إذا حسدتَ فاستغفر الله، وإذا ظننتَ فلا تُحقِّقْ، وإذا تطيَّرتَ فامضِ.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين