الظلم

 

الشيخ: مجد مكي

الظلم أساس كل فساد في الأرض وفي حياة الخلق.. وأصل أصيل للفوضى في سياسة الأمم وقيادة الشعوب، ومسعر الفتن، وموقد الحروب، ومعول التدمير لبناء الحضارة، ومشعل العداوة والبغضاء بين الأقارب والبعداء، والعامل الأول في سفك الدماء وقتل الأبرياء...
 
ولذلك صبَّ الله نقمته على الظالمين فطردهم من رحمته وهي التي وست كل شيء وسجَّل عليهم لعنته وسخطه بقوله تعالى: [أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] {هود:18} . وبقوله جل شأنه:[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] {غافر:52}. وبقوله سبحانه:[ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] {الأعراف:44}.
 
الاعتداء على المساجد:
من أشنع الظلم الصد عن ذكر الله عزَّ وجل، و السعي في خراب مساجد الله بتعطيلها عن إقامة الصلاة أو بتهديمها وتخريب بنائها:[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {البقرة:114}.
إنه لا ظلم أظلم من ظلم يمتدُّ إلى بيوت الله ومساجد الله، ولا أحد أظلم ممن يسعى في تخريب المساجد التي يعبد الله فيها بالصلاة والذكر، ويسبح له فيها بالغدو والآصال رجال.
 
وانظروا إلى ما يصنع الملاحدة والكفرة بالمسلمين وبلادهم ومساجدهم ومدارسهم... فكم من مسجد هدموه على رؤوس المصلين، وعطلوه عن العبادة، وحولوه إلى مصنع أو مربط للخيول؟! وكم من مدرسة إسلامية حولوها إلى وكر لدراسة الإلحاد والكفر بالله تعالى؟ وكم من معهد ديني أقفلوه وشرَّدوا طلابه ومدرسيه... وما فعله القرامطة والباطنيون والصليبيون وما يفعله اليهود في المسجد الأقصى اليوم.
 
قتال الظالمين:
ولقد شرع الجهاد دفاعاً عن الحق ونصرة للمظلومين، وقتالاً للظالمين المفسدين.. يقول سبحانه [إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)]. {الحج}..
 
ولولا إذن الله تعالى للمظلومين في قتال الظالمين ومدافعتهم بالقوة لاستشرى الفساد في الأرض، وانتهكت الحرمات وضاعت معالم الخير، كما يقول سبحانه:[ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ] {البقرة:251}.
ودفع الله الناس بعضهم ببعض بتسليط أهل الحق والعدل والخير على أهل الباطل والظلم والشر لينتصفوا منهم ويقيموا ميزان الحق والعدل.
 
وقد امتدح الله عزَّ وجل المنتصرين الذين يأخذون على أيدي الظالمين:[وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] {الشُّورى:39}. ويقع الانتصار على الظالمين بالانتقام منهم ورد اعتدائهم [وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42) ]. {الشُّورى}.. ولقد قرر الإسلام مبدأ الدفاع عن المسلم أينما كان، واعتبر الظلم والبغي والاضطهاد الذي يقع على مسلم ولو في أقصى الأرض مبرراً لانتصار سائر إخوانه المسلمين:[وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] {النساء:75}.
 
تسليط الولاة الظلمة:
من سنة الله في خلقه أن الأمة إذا انتشر فيها الظلم، ولم يقم أقوياؤها وصالحوها وأهل العلم فيها بالنهي عنه ومقاومته وإحلال العدل مكانه... سلَّط الله عليها الولاة الظلمة:[وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأنعام:129}.
فتسليط الأمراء والولاة والحكام الظلمة على الأمم والشعوب عقوبة معجلة من الله للظالمين، تعمُّ الأمة جميعاً لأن غير الظالمين سكتوا على ظلم الظالمين، ولم يأخذوا على أيديهم، وهذه سنة يقررها القرآن الكريم:[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] {الأنفال:25}. وبهذا استوجب بنو إسرائيل اللعن والطرد من رحمة الله [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) ]. {المائدة}..
روى الترمذي وأبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلُّ لك، ثلم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال:[لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا....يفعلون].. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً أمته عاقبة ذلك: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم». وفي حديث آخر رواه الترمذي:« إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده».
 
فإن تاب الظالمون عن ظلمهم، أو أخذ الصالحون على أيديهم فكفّوهم عن الظلم، تاب الله عليهم وهدى ولادتهم وأمراءهم وجعلهم عليهم رحمة بعد أن كانوا عذاباً ونقمة... أو يبدلهم غيرهم من عباد الله الصالحين.
 
كف الظالم عن ظلمه، ومنعه واجب على المسلمين، ولو أدى ذلك إلى القتل والقتال، والقائم فيه مجاهد في سبيل الله تعالى، فإذا مات في هذا القتال على نيته الصالحة في إقامة العدل ونصرة المظلوم فإنه شهيد، وهذا صريح قوله تعالى:[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9}. فهذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام المسلم، أو على جماعة المسلمين، ويجب النهوض لقتال الباغي ونصرة المظلوم حتى يعود الحق إلى نصابه.
 
ويقرَّ العدل في قرابه، ويأمن المجتمع في أفراده وجماعاته. روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«انصر أخاكم ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره».
 
دعوة المظلوم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: «اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب، وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».
الظلم وخيم العاقبة، سريع العقوبة، والظالمون مهددون بخراب الديار، وسوء المآل، طال بهم الأجل أو قصر، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى:[وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ] {يونس:54}.[وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ] {الزُّمر:47}.
 
وقد أنذر الله سبحانه سوء مغبة (الظلم) ببيان صنيع الله تعالى بالظالمين من الأمم الماضية الظالمة وما حل بهم من الانتقام الشديد:[وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ] {الحج:48}. [وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ] {الأنبياء:11}.ثم بيَّن الله سبحانه أن هذا البطش الشديد بالظالمين ليس مختصاً بالماضين من الأمم الظالمة وإنما هو سنة العدل الإلهي في أخذ الظالم إذا لم يسارع إلى التوبة الصادقة بالندم ورد المظالم إلى ذويها والتحلل من ظلمهم، وفي ذلك يقول سبحانه:[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102}.
 
ومما جاء من قبيل الإنذار بما حل بالظالمين قوله سبحانه [وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ(51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(52) ]. {النمل}..
ويقول سبحانه [وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ(45) ]. {إبراهيم}..
 
تأملوا قوله سبحانه: [وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ]. إنه تهديد صارم ووعيد قاصم: [وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ]. فاعتبروا واتعظوا بما حل بهم من انتقام الله وبطشه، ولهذا عقب الله جل شأنه قوله:[فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ] {الحج:45}. وقوله سبحانه:[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}.
 
لتأكيد طلب الاعتبار في آثار أولئك الظالمين رأي عين، وسماع أذن، ووعي قلب، وإدراك عقل... روى البخاري ومسلم لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك بالحِجر ـ وهي منازل ثمود ـ قال لأصحابه: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي... وهكذا يجب أن يكون حال المسلم من الأمم الظالمة التي أهلكهم الله بكفرهم وظلمهم لا يمر على شيء من آثارهم إلا وهو معتبر بحالهم، نتأمل بمآلهم... إذ هي منازل شهدت مظهراً من غضب الله... وقد ترك الله عزَّ وجل هذه الأطلال لتكون عبرة لأولي البصيرة والألباب.
 
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ:[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102}.
أمر الإسلام بالعدل ورغب فيه وحث عليه، ونهى عن الظلم نهياً زاجراً، ورهب منه ترهيباً شديداً... ولا شك أن كل نهي عن الظلم هو أمر بالعدل، ولك تنفير من الظلم هو تحبب في العدل، وكل ترهيب من الظلم هو ترغيب في العدل وكل ذم للظلم هو مدح للعدل.
وكما كان العدل في الإسلام شاملاً للعدل في العقائد والعبادات، وشاملاً للعدل الاجتماعي والسياسي، والعدل في علاقات الناس وتعاملهم... كان النهي عن الظلم شاملاً للظلم في العقائد والعبادات، وشاملاً للظلم الاجتماعي والسياسي، وفي علاقات الناس ومعاملاتهم وسائر شؤون حياتهم.
وأنواع الظلم ثلاثة:
ظلم العبد لربه عزَّ وجل:
وذلك يكون بالكفر بالله تعالى يقول سبحانه:[ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:254}. والظلم في العقيدة هو أفحش أنواع الظلم، لأنه إلحاد في دين الله، وعبث بأصول الدين، ومعول لهدم نظام الحياة، وطمس لإشراق الروح الإنساني، وإهداء للقيم الخلقية العليا بين الناس.
يقول سبحانه:[ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13} .ويقول الله تعالى في سورة الأنعام:[الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأنعام:82}   وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: لما نزلت: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]. شقَّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذاك، إنما هو الشرك: ألم تسمعوا قول لقمان لابنه:[وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}. ومن ظلم العبد لربه عزَّ وجل تعدّي حدود الله وشرائعه التي حدّد فيها الحلال والحرام، والفروض والواجبات وتجاوز حدود الله التي حدّها لعباده معصية له، ومعصية الله ظلم لحقه على عباده: يقول سبحانه:[ ِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:229} .
[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] {الطَّلاق:1}.
ومن أظلم الظلم الكذب على الله لإضلال الناس بغير علم:[ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الأنعام:144}.
[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ] {العنكبوت:68}.
ومن أظلم الظلم الإعراض عن آيات الله بعد التذكير بها، وعدم الاستجابة لله فيما يدعو إليه:[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا] {الكهف:57}.
ويقول سبحانه:[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ] {السجدة:22}.
لقد أعرضوا عن النظر في آيات الله وبراهينه، التي نصبها شاهدة على وجوده ووحدانيته وقدرته وحكمته... ويتبع الظلم بافتراء الكذب على الله سبحانه، الظلم بسوء الاعتقاد في النبوة والأنبياء، يقول سبحانه:[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] {الأنعام:93}.
ظلم العبد لنفسه:
وذلك بتدنيسها وتلويثها بآثار الذنوب والمعاصي والسيئات...
يقول سبحانه:[ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] {البقرة:57}. فمرتكب الإثم والفواحش ظالم لنفسه.. ومن ظلم الإنسان لنفسه مخالفة أوامر الله عزَّ وجل بفعل ما نهى عنه... ولقد نهى الله آدم وزوجه أن يأكلا من الشجرة، فإن خالفا أمره وأكلا منها كانا من الظالمين يقول سبحانه في سورة البقرة:[وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ] {البقرة:35}. ولما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عزَّ وجل من الأكل منها، قالا: [قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] {الأعراف:23}.
ومن ظلم الإنسان لنفسه أن ينزلها منزلة الذل والمهانة، لأن الإسلام يطلب من المسلم أن يكون عزيزاً قوياً، وهذا الحوار الذي يقصه القرآن بين الملائكة والظالمين لأنفسهم يبين لنا هذه الحقيقة:[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:97}.
فهذه الآيات صرخة مدوية في وجه الظلم والرضا به، ووعيد وتهديد لمن يقبل الظلم على نفسه، ولا يهب للدفاع عنها، وفيها ترغيب للخروج من دار الذل إلى دار العزة والقوة، حيث يتمكن المظلوم من إعداد العدة للقضاء على الظالمين واجتثاث شجرة ظلمهم.
وأما ظلم العبد لغيره من عباد الله ومخلوقاته:
وذلك بظلم النسا في أعراضهم وأبدانهم وأموالهم يقول سبحانه في سورة النساء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا(30) ]. {النساء}.. فأكل أموال الناس بغير حق وقتل النفس بغير حق عدوان وظلم.
وخصص الله أكل أموال اليتامى بالباطل وحذر تحذيراً شديداً من هذا الظلم قال سبحانه:[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا] {النساء:10}.
وقتل النفس بغير حق ظلم:[وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] {الإسراء:33}.
فظلم الناس في أنفسهم وأموالهم أمره شديد عند الله وعقابه مخيف.
روى البخاري، قال صلى الله عليه وسلم:«إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة».
1 ـ روى مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه».
2 ـ وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم خطبته المشهورة في حجة الوداع فقال فيها:«إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» رواه مسلم عن جابر من حديث طويل...
ومن كمال عدل الله: أن كل ظالم يظلم غيره، فإن الله تبارك وتعالى يوم القيامة سيمكن المظلوم من الظالم ليقتص، ويأخذ حقه، حتى المظالم التي تجري بين البهائم. أما الحقوق الأخرى كالحقوق المالية، فإنها تؤدى من صحف الأعمال.
3 ـ والظلم بالقتل أول ما يقضى به يوم القيامة، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:.«إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء».
4 ـ روى البخاري عن ابن عمر: قال صلى الله عليه وسلم:«لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً». وروى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان يسيراً يا رسول الله ؟ فقال: وإن كان قضيباً من أراك».
5 ـ روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين». أي من سبع طبقات من الأرض.
6 ـ روى البخاري عن سالم عن أبيه:«من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه، خسف به يوم القيامة إلى سبع ارضين». 
وعدل الله لابد أن يلاحق الظالمين بالعقوبة على ظلمهم، حتى تؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة بما في ذلك الحقوق بين البهائم.
7 ـ ومن اعتدى على غيره في أرضه، فأخ منها بغير حق، عذب يوم القيامة بالأرض التي غصبها سواء أخذها بالحيلة أو باللصوصية أو باستخدام القوة.
 8ـ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد ـ يقبض ـ للشاة الجلحاء ـ لا قرون لها ـ من الشاة القرناء».
9 ـ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه».
10 ـ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
11 ـ وروى الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين ثلاثة، ديوان لا يغفره الله، الإشراك بالله، يقول الله عزَّ وجل:[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48}.وديوان لا يتركه الله، ظلم العباد فيما بينهم حتى يقتص بعضهم من بعض.
وديوان لا يعبأ به الله، ظلم العباد فيما بينهم، وبين الله عزَّ وجل، فذاك إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء تجاوز عنه».
ولما كان الظلم من أقبح القبائح حرمه الله على نفسه، وجعله بين عباده محرماً، جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجل:« يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا».
والله سبحانه لا يظلم أحداً مثقال ذرة، قال تعالى:[إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:40}.[إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] {يونس:44}.
والظلم ظلمات على صاحبه يوم القيامة، روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».
والظلمة يوم القيامة يرافقها العذاب، أما النور فيرافقه النعيم، الذي تفيضه رحمة الله على عباده... [يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ(12) يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ (13) ]. {الحديد}..
جمع وترتيب مجد مكي غفر الله له
ولوالديه وللمسلمين وكتبه في الحرم المكي 9/رجب/1401
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين