الظلال... وكتب التفسير

- يرى بعض الناس أن «الظلال» ليس تفسيرًا ككتب التفسير المعهودة.

فإلى أي مدى يصح مثل هذا الكلام؟

- لقد قلت قديماً:

إني لأشفق على الظلال أن يكون كتابًا ككتب «التفسيرالمعهودة» ذلك أن الغاية التي يهدف إليها: أكبر بكثير، من مجرد المعرفة النظرية

الباردة، لمعاني الآيات القرآنية» والتي يتسع الجدل فيها: حول مسائل اللغة، والكلام والفلسفة، والفقه والتاريخ...

وهذه أمور علمية محض، حيث إن علم التفسير يستطيع أن يبين لنا

وجه الحق فيما يعتقده المؤمنون. ولكن هذا «الحق» لن تكون له علاقة بالواقع إلا في المجال الفكري، وهي علاقة نظرية خالصة بين الحياة والعلم».

أما الغاية التي يهدف إليها الظلال فهي أن يعود القرآن حيًّا في نفوس الناس يصوغهم صياغة جديدة، وينقلهم من مجتمع الجاهلية إلى مجتمع الإسلام فيسمهم بميسهم الحق ويطبعهم بطابع الهدى، ويصبغهم بصبغة اللَّه....

- هذ االكلام ربما يحتاج إلى مزيد من الإيضاح؟

- هذا المعنى هو الذي قصد إليه الأستاذ مالك بن نبي في حديثه عن زعيم من زعماء الحركة الإسلامية حين يقول:

«... ولقد ظفرت الحركة بزعيم، لم يكن فيلسوفا، أوعالم كلام، فقد

اكتفى بأن بعث في الناس إسلامًا خلع عنه سدول التاريخ، وما كان له من نظرية يركن إليها سوى القرآن نفسه، و لكنه القرآن الذي يحرك

الحياة،.... فلكي يتم تغيير الفرد لم يعتمد ذلك الزعيم سوى الآية

القرآنية، ولكنه كان يستشهد بها في نفس الظروف النفسية التي كان يستشهد فيها النبي  وصحابته من بعده...

وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيراً عميقا ً في سامعيه فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها»([1])

- ولكن متى يكون القرآن مدركا وموحيا وقادرًا على التأثير؟

- يقول صاحب الظلال في ذلك:

«... ولكن الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، وعن ملابسة الأحداث والمقومات، التي يشبه جوها الجو الذي تنزل فيه القرآن....وملابسة هذه الأحداث والمقومات، وتنسم جوها الواقعي، هو الذي

يجعل هذا القرآن مدركاً وموحياً كذلك.... فالقرآن لا يدركه حق الإدراك، من يعيش خالي البال، من مكابدة الجهد والجهاد، لاستئناف حياة إسلامية حقيقية. ومن معاناة هذا الأمر العسير الشاق، وجرائره وتضحياته وآلامه، ومعاناة المشاعر المختلفة، التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع، في مواجهة الجاهلية في أي زمان.

إن المسألة في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته، ليست هي فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي «تفسير» القرآن كما اعتدنا أن نقول،

المسألة ليست هذه، إنما هي استعداد النفس برصيد من المشاعر

و المدركات و التجارب، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة، وهي تتلقاه في

خضم المعترك.. معترك الجهاد.. جهاد النفس، وجهاد الناس، جهاد الشهوات، وجهاد الأعداء، والبذل والتضحية، والخوف والرجاء، والضعف والقوة، والعثرة والنهوض..جو مكة والدعوة. الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس.

جو الشعب والحصار، والجوع و الخوف، والاضطهاد والمطاردة،

والانقطاع إلا عن اللَّه...

ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم، بين الكيد والنفاق، والتنظيم ، والكفاح...جو «بدر» و«أحد» و«الخندق» و«الحديبية» وجو «الفتح» و«حنين» و«تبوك» وجو نشأة الأمة المسلمة...

في ذلك الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية... كان للكلمات والعبارات دلالاتها وإيحاءاتها. وفي مثل هذا الجو الذي

يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد، يفتح القرآن

كنوزه للقلوب ويمنح أسراره ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور».

- نعم.. هذا هو الهدف من «الظلال» أن يعود القرآن حيًّا في أجيال

اليوم كما كان حيًّا في أجيال الماضي، أن يحرك الحياة اليوم كما

حركها بالأمس، إنه قنطرة يعبرها المسلم ليصل إلى جو القرآن،

ليعيش بعد ذلك مباشرة مع النص ينهل منه ويعب بلا وساطة، وهذا ما يقصده «صاحب الظلال» من «الظلال» حين يقول:

«وإنني أهيب بقراء هذه الظلال، ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إنما يقرؤونها ليدنوا من القرآن ذاته، ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته،

و يطرحوا عنهم هذه الظلال ».

- لقدشوقتنا بهذا الحديث إلى الاطلاع على بعض النماذج من الظلال فهل لك أن تعطينا شيئا من ذلك؟

-نعم. سأذكر لك نموذجين:

النموذج الأول: يتعلق بتجلية علم اللَّه الشامل في عالمي الغيب والشهادة

-يقول صاحب الظلال -:

«...وبمناسبة علم اللَّه - سبحانه - بالظالمين واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة..مجال الغيب المكنون، وعلم اللَّه المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيْء.

ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد:

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].

إنها صورة لعلم اللَّه الشامل المحيط الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب.

- ولكن أين هذا الذي نقوله نحن - بأسلوبنا البشري المعهود – من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين هذالتعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟

- إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم اللَّه في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود.. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو يرتاد - أو يحاول أن يرتاد - أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل البعيدة الآماد والآفاق والأغوار.. مفاتحها كلها عند اللَّه لا يعلمها إلا هو..

ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم اللَّه. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين اللَّه على كل ورقة تسقط، هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين اللَّه. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم اللَّه المحيط..

إنها جولة تديرالرؤوس، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان، وآفاق من المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول.. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصور آمادها الخيال..

وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات..ألا إنه الإعجاز!

-ولكن كيف لنا أن ندرك شيئا من أسرار هذا الإعجاز؟

- لننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن:

- ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر..

إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع: موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق..إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود.

إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته.. فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟

إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتَّجه هذا الاتجاه، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق!

- وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟

-إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته.. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به، ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبِّروا به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!

- وما اهتمام الفكر بهذا الإطلاق: «وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ»؟..

- إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم.. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!

ولا يفكر البشرأن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ..

- فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟

- إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه.. الصغير كالكبير والحقير كالجليل والمخبوء كالظاهر والمجهول كالمعلوم والبعيد كالقريب..

إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع.. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا، والحب المخبوءفي أطواء الأرض جميعا، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري وكذلك لا تلحظه العين البشرية ولا تلم به النظرة البشرية..

إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم اللَّه وحده المشرف على كل شي ء، المحيط بكل شيء.. الحافظ لكل شي ء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء.. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب..

-والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري، وحدود التعبير البشري أيضا. ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا..

-والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا! وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم..

-كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوي السامق:

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59]

- آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق. في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان..

﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 59]

- آماد وآفاق وأغوار في «المنظور»، على استواء وسعة وشمول.. تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب.

﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ [الأنعام: 59]

-حركة الموت والفناء وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار.

﴿وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 59]

- حركة البزوغ والنماء، المُنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق.

﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]

التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت، والازدهار والذبول في كل حيّ على الإطلاق..

-فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟.. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله، في مثل هذا النص القصير.. من؟ إلا اللَّه!

-النموذج الثاني:

في فتح رحمة اللَّه وتجلياتها، وفي إمساكها ومايترتب على إمساكها:

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2].

- في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة اللَّه التي ختم بها الآية الأولى. وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعا.

- إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة اللَّه. وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة اللَّه. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب اللَّه. وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض وتشرع له طريقه إلى اللَّه.

ورحمة اللَّه تتمثل في مظاهرلا يحصيها العد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.

- ورحمة اللَّه تتمثل في الممنوح تمثلها في الممنوع. ويجدها من يفتحها اللَّه له في كل شي ء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان..

- يجدها في نفسه، وفي مشاعره، ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان. ولو فقد كل شيء مما يعدُّ الناس فقده هو الحرمان..

- ويفتقدها من يمسكها اللَّه عنه في كل شي ء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!

- وما من نعمة - يمسك اللَّه معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة.

- وما من محنة - تحفها رحمة اللَّه - حتى تكون هي بذاتها نعمة..

- ينام الإنسان على الشوك - مع رحمة اللَّه - فإذا هو مهاد.

- وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد.

- ويعالج أعسر الأمور - برحمة اللَّه - فإذا هي هوادة ويسر.

- ويعالج أيسر الأمور - وقد تخلت رحمة اللَّه - فإذا هي مشقة وعسر.

- ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام.

- ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!

- ولا ضيق مع رحمة اللَّه. إنما الضيق في إمساكها دون سواه.

- لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك.

- ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء.

- فمن داخل النفس برحمة اللَّه تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة.

- ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!

- هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك.. فلا عليك.

فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء..

- وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!

- هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن. ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع..

- فلا عليك. فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة.

- وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء. فلا جدوى.

وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!:

- المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان.. تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة اللَّه.

- فإذا فتح اللَّه أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.

- يبسط اللَّه الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة.

- ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.

- ويمنح اللَّه الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر اللَّه.

- ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار!

- ويهب اللَّه الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة.

- ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه اللَّه على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب!

- ويعطي اللَّه السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر.

- ويمسك اللَّه رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار([2])!

- والعلم الغزير والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال.. مع الإمساك ومع الإرسال.. وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك اللَّه فيه، وزهيد من المتاع يجعل اللَّه فيه السعادة.

- والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد. في كل أمروفي كل وضع، وفي كل حال.. ولا يصعب القياس على هذه الأمثال!

- ومن رحمة اللَّه أن تحس برحمة اللَّه! فرحمة اللَّه تضمك وتغمرك وتفيض عليك. ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة.

- والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها. وهو عذاب لا يصبه اللَّه على مؤمن أبدا. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ».

- ورحمة اللَّه لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال:

- وجدها إبراهيم عليه السلام في النار.

- ووجدها يوسف عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن.

- ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث.

- ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه.

- ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ».

- ووجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار..

- ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها. منقطعا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدا باب اللَّه وحده دون الأبواب.

- ثم إنه متى فتح اللَّه أبواب رحمته فلا ممسك لها. ومتى أمسكها فلا مرسل لها.

- ومن ثم فلا مخافة من أحد. ولا رجاء في أحد. ولا مخافة من شي ء، ولا رجاء في شيء. ولا خوف من فوت وسيلة، ولا رجاء مع الوسيلة

- إنما هي مشيئة اللَّه. ما يفتح اللَّه فلا ممسك. وما يمسك اللَّه فلا مرسل. والأمر مباشرة إلى اللَّه.. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك.

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾ [فاطر: 2]

-وما بين الناس ورحمة اللَّه إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام.

﴿وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 2]

- فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه. فما أحد بمرسل من رحمة اللَّه ما أمسكه اللَّه.

-أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟!

- آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها. ذهبت أم جاءت. كبرت أم صغرت. جلت أم هانت. كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء!

- صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات. ولو تضافر عليها الإنس والجن. وهم لا يفتحون رحمة اللَّه حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها..

{هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

- وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام. الفئة التي صنعت على عين اللَّه بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة، تنشئ في الأرض ما شاء اللَّه أن ينشئ من عقيدة وتصور، وقيم وموازين، ونظم وأوضاع. وتقر في الأرض ما شاء اللَّه أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام. الفئة التي كانت قدرا من قدر اللَّه يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء اللَّه من محو ومن إثبات. ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها.. وكفى.. ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن، وتعيش في واقعها بها، ولها..

- وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس، قادرا على أن ينشئ بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الأرض - بإذن اللَّه - ما يشاء اللَّه.. ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب، فتأخذها جدا، وتتمثلها حقا. حقا تحسه، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار..

- ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد للَّه على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية..

- لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة.. واجهتني في ذات اللحظة.

- ويسر اللَّه لي أن أطلع منها على حقيقتها. وأن تسكب حقيقتها في روحي كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها. تقدم نفسها لي تفسيرا واقعيا لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيرا. ومررت بها من قبل كثيرا.

- ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا.. نموذجا من رحمة اللَّه حين يفتحها. فانظر كيف تكون!

- إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي.

- وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق. وأنا في مكاني!

- إنها رحمة اللَّه يفتح اللَّه بابها ويسكب فيضها في آية من آياته. آية من القرآن تفتح كوة من النور. وتفجر ينبوعا من الرحمة. وتشق طريقا ممهودا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان. اللَّهم حمدا لك. اللَّهم منزل هذا القرآن. هدى ورحمة للمؤمنين([3])...

 

([1]) وجهة العالم الإسلامي.

([2]) في ظلال القرآن، ج 5، ص: 2922(1/5752)

([3]) في ظلال القرآن، ج 5، ص: 2923.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين