الطَّيبُ المطَيَّب عمار بن ياسر رضي الله عنهما

عمار بن ياسر بن عامر الكناني العنسي أبو اليقظان صحابي جليل من الولاة الشجعان أولي الرأي وحسن المشورة، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام، قضى شهيداً، كما قضت أمه سُمَيَّة وأبوه ياسر من قبل شهداء في مكة المكرمة في أيام الشدة والمحنة والاصطفاء، وكان من أول من جهر بالإسلام وشهد بالإيمان، ومن أوائل الرواد لدار الأرقم بن أبي الأرقم أول قلعة من قلاع الإسلام في الأرض، صبر وصابر وابتلي فما بدّل ولا غيَّر، ولما أُذِن للمؤمنين بالهجرة هاجر، فشهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وغيرها، وكان صلى الله عليه وسلم يلقبه بالطيب المطيَّب، وفيه قال كذلك: (ما خُير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما).

وشهد مع علي رضي الله عنه الجمل وصفين وقُتل فيها وله يومئذ من العمر ثلاث وتسعون وقيل أربع وتسعون.

يروي رضي الله عنه قصة إسلامه فيقول: لقيت صُهيب بن سنان على باب دار الأرقم بن أبي الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقلت: ما تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ فقلت: أريد أن أدخل على محمد وأسمع كلامه، فقال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه صلى الله عليه وسلم فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، وكان إسلامنا بعد بضعة وثلاثين رجلاً، وروى يحيى بن معين بسنده عن وبرة بن همام قال: سمعت عماراً يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعْبُدٍ، وامرأتان، وأبو بكر رضي الله عنه، وقال مجاهد: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية رضي الله عنهم أجمعين. فأكرم بهم من رواد، وبارك لهم من طليعة رأت حقاً فأقبلت عليه، ونوراً فأنست به، وإيمانا وروحانية فاطمأنت وسكنت، ومن جاهلية عمياء هربت وعنها رغبت.

ولكن ما كان للكفر أن يرضى بذلك، ولا للجاهلية أن ترضخ للحق، وتسكت عن الخروج عن سلطانها، والاستعلاء على معتقداتها وأوثانها وجاهليتها وطواغيتها، وبخاصة حين يكون المتمسك بإيمانه، والمعتصم بعقيدته ودينه حليفاً في قريش وليس من أشرافها، فياسر والد عمار هو حليف بني مخزوم، وأم ياسر سمية بنت خياط كانت أمة من إمائهم أُعتقت بعد إنجابها لياسر وأخيه، ولذلك نزلت بهذه الأسرة الكريمة أنواع من الأذى ومورست عليهم صنوف من العذاب لا تخطر على بال، ولا تتحملها الصخور الجلامد الراسيات، فعن ابن إسحاق قال: حدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم على الإسلام، وهي تأبى غيره، حتى قتلوها. وهي آخذة بالعزيمة صابرة ثابتة لا تحيد عن ذلك حتى لقيت ربها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذَّبون في الأبطح في رمضاء مكة يقول: "صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة". إنها أسرة الصبر والثبات وهي بحق أسرة التضحية والفداء في سبيل الدين والعقيدة.
ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بعمار بن ياسر وهو يبكي ويدلك عينيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ أخذك الكفار فَغَطُّوك بالماء فقلتَ كذا وكذا، فإن عادوا لك فقل كما قلت. وفيه نزل قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، وذلك حين أخذه المشركون فعذبوه، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه. فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك، وذكرتُ آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: فإن عادوا لك فعد لهم.

وحكى حكيم بن جبير بن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من المسلمين في العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ فقال: نعم، والله إنهم كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به، حتى إنه ليعطيهم ما سألوه من الفتنة، وحتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول: نعم. وحتى إن الجعل يمر بهم فيقولون له: الجعل إلهك من دون الله، فيقول: نعم، افتداءً لما يبلغون به من الجهد.

إننا في الحقيقة عندما نقف مع هذه الأسرة الكريمة المباركة نقف مع أسرة الصبر والثبات على الحق وأسرة التضحية والفداء في سبيل الله والدين والعقيدة. ولقد كانوا يمثلون مدرستين في الصبر والثبات أولاهما مدرسة العزيمة والأخرى مدرسة الرخصة، وكلا المدرستين رضيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهما بل إن القرآن الكريم قد رخص في كل منهما فلا الثابتُ الصابر المصابر حتى يلقى الشهادة مُخطئ، ولا المعطي لما يطلب منه من كفر في ساعات العسرة مَلوم ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان، فهذه سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة على الإسلام وهي تأبى غيره حتى قتلوها وهي آخذة بالعزيمة صابرة ثابتة محتسبة لا تحيد عن ذلك حتى لقيت ربها.

وبالمقابل نرى عمارا رضي الله عنه أخذ بالرخصة وقلبه مطمئن بالإيمان فلم يُلَمْ على ذلك، وفي كلا الموقفين درس لمن ابتلي بالظالمين، فمن صبر وظفر ونال الشهادة فبها ونَعِمَت، ومن أعطى ما يراد منه وقلبه مطمئن بالإيمان فقد أعذر، والله جل جلاله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفي كلا الأمرين فسحة لعباد الله المؤمنين المحتسبين.
إن صبر عمار بن ياسر رضي الله عنه لم يقتصر على ساحات الابتلاء والتعذيب في بطحاء مكة ووديانها، بل إن هذا الثبات والصبر، وتلك الشجاعة والبطولة والتضحية امتدت وتألقت لتظهر في المشاهد والمعارك مع رسول الله في حياته، ثم في حروب الردة مع إخوانه من الصحابة الميامين، ثم في المواقف المشهودة مع الحق إلى جانب سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلعمار رضي الله عنه ذكر في الغزوات بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان، ذكر ابن إسحاق في تسمية من شهد بدراً من بني مخزوم فقال: "عمار بن ياسر وكذا أحداً". وإن من أروع مواقف الشجاعة والبطولة التي ذكرت عنه كانت في يوم اليمامة، وذلك أن عماراً رضي الله عنه شهد قتال مسيلمة الكذاب، فروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة قد أشرف يصيح: "يا معشر المسلمين أَمِنَ الجنة تفِرُّون، إليَّ إليَّ أنا عمار بن ياسر هلمُّوا إليَّ، قال وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال"،

وكان بعد ذلك رضي الله عنه ممن صاحب عليا، وشهد معه الجمل وصفين، فأبلى فيهما بلاء حسنا، قال أبو عبدالرحمن السلمي: شهدنا صفين مع علي رضي الله عنه، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعونه، كأنه علم لهم. قال: وسمعته يوم إذن يقول لهاشم بن عتبة بن أبي وقاص: يا هاشم تفر من الجنة، الجنة تحت البارقة، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا شعاب هجر، لعلمت أنا على الحق وأنهم على الباطل. وقال أبو البختري (وهو ممن حضر الموقعة) قال عمار بن ياسر يوم صفين ائتوني بشربة ماء، فأتي بشربة لبن، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. وشربها ثم قاتل رضي الله عنه حتى قُتل وكان عمره يومئذ أربع وتسعون عاما ودفنه علي رضي الله عنه في ثيابه ولم يغسله، وذلك تنفيذا لوصيته حيث قال لما أصيب: "ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم" –يريد بذلك فئة معاوية-.

إن الغرابة في هذه القصة ليست في الثبات تحت بارقة السيوف، ولا الصمود أمام هجمات وضربات العدو بقلب لا يعرف الخوف ولا الوجل، فإن هذا في الرجال موجود وعند الأبطال معروف، ولكن الغرابة والدهشة تعقد اللسان وتأخذ بالقلوب عندما نعلم أن هذا الأسد الهصور والبطل المقدام كان قد بلغ من العمر يومئذ أربعا وتسعين عاما، فلله درك من صحابي ولله درك من صاحب حق يثبت ويجاهد من أجله وقد بلغ من الكبر عتيا.

نعم إنها وقفة مع الحق والتضحية في سبيله كان قد أعد نفسه لها، ولِمَ لا يكون كذلك، وهو الذي خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم وإجازة له بأنه على الحق، وهي كذلك شهادة له بالشهادة في سبيله، وقد روي مثل هذا القول عن أم سلمة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وحذيفة بن اليمان، وأيد ذلك وقواه أن عماراً تقتله الفئة الباغية، ما رواه عمارة بن خزيمة بن ثابت، قال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفاً، وشهد صفين ولم يقاتل، وقال: "لا أقاتل حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية"، فلما قتل عمار قال خزيمة: ظهرت لي الضلالة ثم تقدم فقاتل حتى قُتل. وقال عمرو بن العاص يوم قتل عمار: وَدِدتُ أنِّي مِتُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقال في رجلين سمعهما يختصمان في قتل عمار كل يقول: أنا قتلته، إن يختصمان إلا في النار.

وكما كانت بدايته رضي الله عنه درسا في الثبات على الحق كانت نهايته علما على الموقف الحق والإمام الحق الخليفة الحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ومن مكارم
ه أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الحريص على مصلحة الأمة، والأمين على ما ينفع الرعية ويصلح لهم أمور دنياهم وأخراهم أنه نظر في صحابة رسول الله ليختار منهم من يوليه أمر الكوفة وهي يومئذ حاضرة من حواضر الإسلام، وثغر من ثغورهم الهامة على أبواب فارس، فما إن وقعت عيناه على عمار بن ياسر حتى اختاره لهم وكُلُّه ثقة بأنه وقع على القوي الأمين الذي يؤدي الأمانة ويقوم بالمهمة خير قيام، ولم يتركه وحده بل آزره وسانده وشد عضده بالصحابي الجليل والعالم القدير سيدنا عبدالله بن مسعود فجعله خازنا على بيت مالها، وكتب إلى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، ويمن عليهم فيه، فقال:

"إني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وابن مسعود معلما ووزيرا، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"، وقد ظهر من تقواه وورعه في تلك الولاية والإمارة ما يعجب منه المرء، يقول بن أبي الهذيل وهو من معاصريه في الكوفة في أثناء هذه الولاية: "رأيت عمار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها إلى داره.

وقد عيره أحدهم وهو يومئذ أمير فيها فيقول له: "يا أجدع الأذن"، فلا يزيد على أن يقول له: "خير أذني سببت" في إشارة إلى أذنه التي قطعت يوم اليمامة.

وكما كان رضي الله عنه مدافعا عن الحق صابرا عليه، فقد كان كذلك عند صحابة رسول الله علما على الحق ودليلا ومرشدا إليه، يقول أمين سر رسول الله حذيفة بن اليمان لما سئل بمن توصينا إذا اختلف الناس، فقال: عليكم بابن سمية فإنه لن يفارق الحق حتى يموت.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما". وهو الذي استأذن على رسول الله فقال: "ائذنوا له، مرحبا بالطيِّب المطيَّب".

وبلغ من تباهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمار أنه قال فيه: "إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه"، وقال أيضاً رعاية لمكانته ومكانة والديه رضي الله عنهم أجمعين ومحذرا من معاداتهم والإساءة إليهم والنيل منهم: "من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً لاحى عمارا وغاضبه قال: "ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار...إن عماراً جلدة ما بين عيني وأنفي".

فحري بنا أن ندعو ونقول: اللهم حبب إلينا عماراً وأرضه عنا واجعلنا ممن يحبه ويكرمه ويجله، كما كان يحبه ويجله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أن قال بعد أن استرضى عماراً واستسمحه بعد خلاف كان بينهما: "فما كان شيء أحب إليَّ من رضى عمار فلقيته فرضي عني".

وله رضي الله عنه فضله في العلم وجهده وحظه في رواية الحديث النبوي الشريف والسيرة، فقد روى عنه من الصحابة علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وجابر، وأبو أمامة وأبو الطفيل وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وروى عنه من التابعين ابنه محمد بن عمار، وابن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن، ومحمد بن الحنفية، وأبو وائل وعلقمة وزر بن حبيش وغيرهم. وله رضي الله عنه في كتب الحديث ثلاثة وستون حديثاً.

فرضي الله عنك يا سيدي يا عمار بن ياسر، شابا مسلما في السابقين الأولين، ومجاهداً في الغزوات والفتوح وقتال المرتدين، وعلما للحق في أوقات المحن والفتن، وراوياً ومعلماً وأمينا على حديث سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين