الطائفيّة أحقاد وجذور

 

من لم يقرأ التاريخ لن يفهم الواقع ، ولن يحسن التخطيط للمستقبل ..

إنّ أهل السنّة منذ فجر الإسلام لا يعرفون الحقد ولا الضغينة ، ويتعاملون مع الناس كلّ الناس بروح طيّبة ، سِمَتُها : حبُّ الخير للناس جميعاً ، واصطناع المعروف معهم .. لأنّهم يريدون الهداية للخلق كلّهم .. ويعلمون أنّ رحمة الله تعالى وسعت عباده ، وأنّ جنّته عرضها السموات والأرض ، وهو سبحانه أعلم بعباده ، وبيده هداية الخلق .. 

محنة الإمام القشيريّ وما فيها من العبر

« لم يسلم الإمام عبد الكريم بن هوازن ، زين الإسلام القشيريّ ( 376 هـ ت 465 هـ ) رحمه الله خلال حياته من المحن والآلام ، وربّما كان أشدّها جميعاً ما حدث له إبّان حكم السلطان طغرل ، ووزيره اللعين الكندري . 

كان السلطان طغرل سنيّاً حنفيّاً ، ووزيره أبو نصر الكندريّ معتزليّاً رافضيّاً ، خبيث العقيدة ، ذا آراء مسرفة فى التشبيه وخلق الأفعال ، والقدر ، وكان متعصّباً فى ذلك أشدّ التعصّب . 

وفى هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذّة لها فى أوساط العامّة والخاصّة نفوذ كبير ، ومحبّة فائقة ، ذلكم هو الأستاذ أبو سهل بن الموفّق أحد رجال الطبقة الرابعة الشافعيّة ، وكان كثير المال جواداً ، وكان مرموقاً بالوزارة ، وداره مجتمع العلماء ، وملتقى الأئمّة ، ونظراً لما عرف عنه من تعلّق بالمذهب الأشعريّ ، وذود عنه ، وسعي حثيث لنشره فقد ألهب ذلك حقد الكندريّ ، خاصّة وقد كان يخشى أن يقع اختيار السلطان عليه للوزارة من دونه ، فمضى يلفّق لدى السلطان عنه التهم . 

ولم يكتف بذلك بل لجأ إلى حيلة دنيئة حين حصل من السلطان على تفويض بسبّ المبتدعة على المنابر ، فلم يجد السلطان فى ذلك بأساً ، فوافق عليه ، ولكنّ الكندريّ استغلّ هذه الموافقة فأقحم اسم أبى الحسن الأشعريّ رحمه الله ضمن المبتدعة الواجب سبّهم ، وكلّ من كان يرفض الانصياع لذلك من الوعّاظ والخطباء يفصل من عمله ، ويطرد من البلاد ، فنجم عن ذلك شرّ خطير ، وفتنة كبرى امتدّ شررهما إلى سائر المشرق ، وبات الأشاعرة فى حزن مقيم .

وفى وسط هذه المحنة ، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيريّ وإمام الحرمين والرئيس الفراتيّ وأبى سهل الموفّق ، ونفيهم ، ومنعهم من المحافل ، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتيّ وعلى القشيريّ وأخذوا يجرّونهما في الطرقات ، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهم والاستخفاف ، حتّى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر .

أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان ، واتّجه إلى الحجاز ، وهناك جاور ، وأمّا أبو سهل فقد كان لحسن الحظّ غائباً فى بعض النواحي . 

وبقي السجينان الجليلان في المحبس ، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما ، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان ، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما ، ولكنّ كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أنّ جهاز الحكم لن يهدأ له قرار ، وأنّ الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق . 

فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته ، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة ، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل ، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالاً عظيماً ، حتّى لقد خصّص الخليفة العباسيّ - القائم بأمر الله - له مجلساً خاصّاً في مسجد قصره ، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه ، ويكرمه ، ويحظى ببركته .

و قد وصف الخطيب البغداديّ (صاحب تاريخ بغداد) مقدار إعجاب الناس بالقشيريّ ، وكان هو نفسه أحد تلاميذه حيث يقول : (حدّثَنا ، وكتبنا عنه ، وكانَ ثقة ) . ( تاريخ بغداد ج 10 ص 83) .

وذهب القشيريّ إلى الحجّ ، وهناك التقى بصديقه الجوينيّ وبعدد كبير من الأئمّة ، الذين شرّدتهم المحنة طوال سنوات عديدة ، فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم ، واستقرّ رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة ، حتّى يتمّ الاتفاق على مبدأ ثابت يسري عليهم جميعاً ، ولم يكن ذلك الذي وقع عليه اختيار الجمع غير عبد الكريم القشيريّ .

فصعد المنبر ، وظلّ يتكلم ، وهم يجدون لكلامه وقعاً مؤثّراً في قلوبهم وعقولهم ، ثمّ مرّت لحظات صمت ، بعدها شخص القشيريّ ببصره إلى السماء ضارعاً ، ثمّ أطرق ، والناس من حوله يتابعون أمره ، ويتفرّسون ملامحه ... ثمّ قبض على لحيته وصاح بصوت عال : « يا أهل خراسان .. بلادكم بلادكم ، إنّ الكندريّ غريمكم يقطّع الآن إرباً إرباً ، وإنّي أشاهده الساعة ، وقد تمزّقت أعضاؤه ثمّ أنشد :

عميد الملك ساعدك الليالي * * * على ما شئت من درك المعالي 

فلم يك منك شيء غير أمر * * * بلعن المسلمين على التوالي 

فقابلك البلاء بما تلاقي * * * فذق ما تستحق من الوبال

(تبيين كذب المفترى لابن عساكر ليدن ص 93) ويقول السبكيّ فى طبقاته : ( وضبط التاريخ فكان ذلك اليوم بعينه ، وتلك الساعة بعينها قد أمر السلطان بأن يقطّع الكندريّ إرباً إرباً . وأن يرسل عضو منه إلى كلّ مكان) . السبكيّ فى «طبقات الشافعيّة» ج 2 ص 272 . 

وانظروا سماحة أهل السنّة : « السلطان طغرل كان سنيّاً حنفيّاً ، ووزيره أبو نصر الكندريّ معتزليّاً رافضيّاً ، خبيث العقيدة ... وكان متعصّباً فى ذلك أشدّ التعصّب » . 

وانظروا عبرة أخرى أيضاً : « فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم ، واستقرّ رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة ، حتّى يتمّ الاتفاق على مبدأ ثابت يسري عليهم جميعاً .. » ، وهذا سرّ تأييد الله تعالى لهم وانتصارهم . 

ومن جذور الحقد الطائفيّ سلوك الفاطميّين في مصر .. وتاريخهم الخبيث يعجّ بذلك .. وأخبارهم تشيب لها الولدان ، وممّا جاء في ذلك : « أنّهم لما جاءوا إلى مصر أمسكوا بكبير علماء المصريين وحفّاظهم أبو بكر بن النابلسيّ ، فقال له المعز لدين الله الخليفة الفاطميّ : بلغنا أيّها الرجل أنك تقول : لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً للرافضة وتسعة لليهود والنصارى .؟!

قال : ما هكذا قلت ، ولكن قلت: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً لليهود والتسعة الباقية للرافضة..!! فقال له المعزّ : لماذا ؟

فأجابه : لأنكم غيرتم دين الأمّة ، وأطفأتم نور السنّة، وادّعيتم ما ليس لكم..!! 

فأمر بسلخه حيّاً ، وأمر أن يقوم بسلخه يهوديّ ، فسلخه اليهوديّ حتّى وصل السلخ إلى منطقة القلب فرقّ له فطعنه بخنجر فقتله » ، كما في (سير أعلام النبلاء ) للحافظ الذهبي . 

فهل التاريخ يعيد نفسه .؟ نعم إنّه يعيد نفسه بسنن الله الغلاّبة ، وهذا يعني أنه ينتج رجاله .. {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ...}[آل عمران:140] . والعاقبة للمتّقين 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين