الضراعة: واجب الوقت نماذج

 

لغة: مصدر: ضرع يضرع ضراعة مأخوذ من مادة (ض ر ع) الدَّالّة على لين في الشّيء، ومنه ضرع الشّاة، سمّي بذلك لما فيه من لين ،يقال: جاء فلان يتضرّع ويتعرّض بمعنى إذا جاء يطلب إليك حاجة، وفى التنزيل- تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً"[1]  تدعونه مظهرين الضّراعة وهي شدّة الفقر والحاجة إليه - عزّ وجلّ- وحقيقته الخشوع [2] قال ابن منظور: ضرع إليه يضرع ضرعا وضراعة: خضع وذلّ وفى التنزيل"فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا"[3]  أي: تذلّلوا وخضعوا، وقوله "لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ"[4]  فى البصائر: معناه يتذلّلون في دعائهم إيّاه والضّارع المتذللّ للغنيّ وفي حديث الاستسقاء «خرج مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا »[5] والدّعاء تضرّع؛ لأنّ فيه تذلّل الرّاغبين.

 

وفى الاصطلاح:قال المناويّ: الضّراعة: أن تدعو الله- عزّ وجلّ- بخضوع وتّذلّل. [6] طلب كشف البلاء من القادر عليه[7]. فلم يخرج الفقهاء عن المعنى اللغوي للضراعة

 

فى القرآن الكريم الأمر والتوجيه بالضراعة : فى موضعين بالأعراف  "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"[8] "وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ"[9] والأمر فى هذين الموضعين للوجوب ولا صارف له إلى الندب.وبه تقرر حكم الضراعة، و الأخذ بالبأساء والضراء رجاء التّضرع: فى أربعة مواضع من كتاب الله ، اثنان فى الأنعام + واحد فى الأعراف + واحد فى المؤمنون

 

1* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "[10]  وَالتَّضَرُّعِ:عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَتَرَكِ التَّمَرُّدِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ إِلَى أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْقَسْوَةِ إِلَى أَنْ أُخِذُوا بِالشِّدَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَخْضَعُوا وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا، وسبب ذلك قسوة فى القلوب وتزيين الشيطان لأعمالهم..

 

2*"قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ"[11]

 

3"وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ"[12]

 

4" وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ * .."[13]

 

قال وهب بن منبه :إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَعْطِفُهُ عَلَى النَّاسِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَّا التَّضَرُّعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْحَمَهُمْ، وَلَا يَسْتَخْرِجُ أَحَدٌ مِنَ اللهِ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ بِحِيلَةٍ، وَلَا مَكْرٍ، وَلَا مُخَادَعَةٍ، وَلَا أَوْبَةٍ، وَلَا سَخَطٍ، وَلَا مُشَاوَرَةٍ، وَلَكِنْ يَأْتِي بِالْخَيْرِ مِنَ اللهِ رَحْمَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْخَيْرَ مِنْ قِبَلِ رَحْمَتِهِ لَا يَجِدْ بَابًا غَيْرَ ذَلِكَ يَدْخُلُ مِنْهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ الْخَيْرُ مِنْهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا يَعْطِفُ اللهَ عَلَى النَّاسِ شَيْءٌ إِلَّا تَعَبُدُّهُمْ لَهُ وَتَضُرُّعُهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْحَمَهُمْ، فَإِذَا رَحِمَهُمُ اسْتَخْرَجَتْ رَحْمَتُهُ حَاجَتَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ يُنَالُ الْخَيْرُ مِنَ اللهِ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ"[14] الناظر لأحداث الأمة من حوله يجد توالي النكبات ، وتتابع النوازل ، وتعاقب الشدائد ، ولا سبيل لكشف هذه الكربات وإزالة هذه الغمة إلا باللجوء إلى الله تعالى تضرعا وخفية

 

نماذج من الضراعة وثمرتها

 

 

1-فى الصحيح كان الخليل وولده يرفع قواعد البيت وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يتضرعان ويقولان فى تضرعهما : رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ .."[15] وقد استجاب الله تضرعهما" لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ "[16]

 

2-والحبيب - صلوات الله وسلامه - يوم بدر بعدما صف الصفوف وأعلن التعبئة ...اسْتَقْبَلَ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَلاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ أَبَدًا، قَالَ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، وقد حقق له ما وعده : "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ...)[17]

 

3-أصحاب الغار الثلاثة فى الصحيح " انْطلق ثَلَاثَة نفرٍ مِمَّن كَانَ قبلكُمْ حَتَّى أواهم الْمبيت إِلَى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الْجَبَل فَسدتْ عَلَيْهِم الْغَار، فَقَالُوا: إِنَّه لَا ينجيكم من هَذِه الصَّخْرَة إِلَّا أَن تدعوا الله بِصَالح أَعمالكُم. – وحصر كل واحد منهم ذهنه فيما أخلص فيه النية من بر الوالدين وتقديمهما على من سواهما ، ومن ترك المعصية مع القدرة عليها استحياء من الله ، وسد حاجة المرأة لوجه الله ، ومن المحافظة على حقوق العمال واستثمارها وعدم أكل عرق الأجيروكان تضرع كل منهم اللَّهُمَّ فَإِن كنت فعلت ذَلِك ابْتِغَاء وَجهك فافرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ، فانفرجت الصَّخْرَة، فَخَرجُوا يَمْشُونَ[18] ".

 

4- وأصحاب الجنة الذين تمردوا على الشريعة التي كان عليها أبوهم وبيتوا النية على حرمان الفقراء والمساكين حقهم الذي قسمه الله فى أموالهم ، ودعتهم قدرتهم إلى ظلم الفقراء بمنع الثلث ، فذهب الثلث بالثلثين ، وكانت قدرة الله إليهم أسرع " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * ..فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ *عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ"[19] فلما تضرعوا وذلوا أبدلهم الله خيرا مما عاقبهم به للقانون " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "[20]" إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ "[21]

 

5-(قال يحيى الغسّانيّ- رحمه الله تعالى-:

 

«أصاب النّاس قحط على عهد داود- عليه السّلام- فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتّى يستسقوا بهم، فقال أحدهم: اللهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعفو عمّن ظلمنا، اللهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا فاعف عنّا، وقال الثّاني: اللهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقّاءنا، اللهمّ إنّا أرقّاؤك فأعتقنا، وقال الثّالث: اللهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن لا نردّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا، اللهمّ إنّا مساكينك، وقفنا ببابك فلا تردّ دعاءنا، فسقوا»[22] ) *  .

 

والضراعة : دلّيل سمة التّوحيد الخالص إخلاص الطّلب من الله ودوام الصّلة بين العبد والرّبّ. وضعف العبد وقوّة الرّبّ وسبيل النّجاة في الدّنيا والآخرة ودفع البأس ورفعه وكشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدّنيا. ويثمر النّجاة من الضّرّ والتّخفيف عند القضاء وترك التّضرّع حينئذ أمارة قسوة القلب.واستحواذ الشيطان.

 

 

[1] الأنعام/ 63

[2] المقاييس (3/ 396) ، تهذيب اللغة للأزهري (1/ 470) ، والصحاح (3/ 1249) ، ولسان العرب «ضرع» (2580) ط، دار المعارف، والمفردات للراغب (295) ، وبصائر ذوي التمييز (3/ 473) .

[3] الأنعام/ 43

[4] الأعراف/ 94

[5] مشكاة المصابيح (1/ 476)

[6] التوقيف على مهمات التعاريف (222) .

[7] تفسير ابن فورك (1/ 89)

[8] الأعراف : 55 مكية

[9] الأعراف : 205 مكية

[10] الأعراف: 42+43

[11] الأنعام : 63

[12] الأعراف: 94

[13] المؤمنون : 74-77

[14] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 40)

[15] البقرة :127- 129

[16] آل عمران:164

[17] أحمد (1/ 30- 31) رقم (209) . وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (1/ 244- 245) .

[18] الجمع بين الصحيحين (2/ 156)

[19] القلم : 17-32

[20] الأنفال:53

[21] الرعد: 11

[22] الأذكار، للنووي (612) .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين