الصِّدق والكذب (1-3)

هذه خطبة قديمة، قبل أربعين عاما، كنت حضَّرْتها وكتبتها وأمثالها في المسجد الحرام، عندما كنت خطيبا في جامع النور بأحد أحياء جدة القديمة، وبقيت ضمن أوراقي الكثيرة التي تكرَّم بإحيائها وتذكيري بها الأخ الحبيب طارق عبد الحميد. 

وقد راجعتها هذا اليوم وأضفت عيها إضافات كثيرة، لتنشر في ركن روضة المنابر في موقعنا، وجعلتها في ثلاثة أجزاء، فجزى الله الأخ الكريم الأستاذ طارق على متابعته وحسن ظنه، ونفع بما كتبت وخطبت، وتقبل منا بأحسن القبول. 

مجد مكي

بسم الله الرحمن الرحيم

الصِّدق رأس الفضائل والأخلاق، وعنوان الاستقامة والصلاح، وهو ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني، وفضيلة من فضائل السلوك الحضاري، به تحفظ الحقوق، وتصان النفوس.

والكذب عامل إفساد كبير للمجتمعات الإنسانية، وسبب هدم لأبنيتها الحضارية، ورذيلة من رذائل السلوك... ولذلك أمر الإسلام بالصِّدق، ونهى عن الكذب، وبيَّن أنَّ الصِّدق أحد الأسس التي يقوم عليها بناء الشخصية المسلمة، والمجتمع الإسلامي، ووضع قواعد تربية الإنسان والمجتمع على الصدق، واتخذ كل الوسائل الكفيلة بغرس هذا الخُلق العظيم في نفوس الناس جميعاً، صغاراً وكباراً، ورجالاً ونساءً، حكاما ومحكومين.

معنى الصدق:

والصدق خلاف الكذب، وهو يدل على قوَّة القول وصاحبه، فالصادق يثق بما يقول، لأنه يتكلم بالحق، بخلاف الكاذب، فإنه ضعيف الشخصية، لا قوة له لأنه يستند على الباطل الذي لا أساس له ولا قوة.

والصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه، وأما الكذب فهو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. 

فالصدق في القول معناه: الإخبار بما يطابق الواقع والاعتقاد جميعًا، فإذا طابق الواقع مع مخالفته لما يعتقد كان كاذبًا، يقول بلسانه ما ليس في قلبه: شأن المنافقين. وفي هذا يقول الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. كذبهم الله تعالى في شهادتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، مع مطابقتها للواقع، لمخالفتها لاعتقادهم، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

الصِّدق أحد أركان بقاء العالم: 

الكذب ضدُّ الصدق، ونقيضه، والصدق خُلقٌ من أخلاق الإيمان، وهو كما قال الإمام الراغب: «والصدق أجدر أركان بقاء العالم حتى لو توهم مرتفعًا لما صحَّ نظامه وبقاؤه، وهو أصل المحمودات وركن النُّبوات، ونتيجة التقوى، ولولاه لبطلت أحكام الشرائع.. والاختصاص بالكذب انسلاخ عن الإنسانية، فخصوصية الإنسان النطق، ومَن عُرف بالكذب لم يُعتمد نطقه، ومَن لم يُعتمد نطقه لم ينفع، وإذا لم ينفع نطقه صار هو والبهيمة سواء، بل يكون شرًّا من البهيمة؛ فإن البهيمة وإن لم تنفع بلسانها فإنها لا تضرُّ، والكاذب يضرُّ ولا ينفع» «الذريعة إلى مكارم الشريعة» صـ193.

لأنَّ أهمَّ ما ميَّز الله به الإنسان النطق والبيان، {خَلَقَ الإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ البَيَانَ(4) } [الرحمن: 3، 4]، فإذا كان بيانه كذبًا، لم يصبح له قيمة، وفقد النَّاس به الثقة، ولم يعُد للكلام معنى، ولم يعُد للالتزامات والارتباطات معنى، فالصدق أحد أركان العالم وبقاء الدُّنيا. 

أما الكذب فبه خرابُ العالم، لا يمكن أن يثق النَّاس في تعاملهم بعضهم ببعض إلا بالصدق، أما شيوع الكذب فيفسد الحياة على النَّاس. 

مكانة الصدق: 

ذكر الله تعالى كلمة الصدق في كتابه الكريم (155) مرة. ومن أبرز فضائل الصدق أن اسنده الله إلى نفسه، ووصف به ذاته المقدَّسة، فقوله سبحانه صدق، ووعده صدق.

قال سبحانه: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:]، وكل ما جاء في القرآن هو الحق والصدق، وقد نزل مصدِّقا لنفسه ولغيره من الكتب السماوية المنزلة قبله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 48]

وهو سبحانه صادق في وعده ووعيده: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات: 5، 6]، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} [المرسلات:7]، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} [الطور: 7].

والصدق من أعظم صفات الرسل؛ لأنهم المبلغون عن الله تعالى. {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].

كان رسولنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مشهورًا بالصِّدق في الجاهليَّة والإسلام، وحينما جمع النَّاس عند الصَّفا وقال لهم: «أرأيتَكم لو أخبرتُكم أنَّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقيَّ؟» قالوا: ما جَرَّبْنا عليك كذبًا. رواه البخاري في التفسير (4971)، ومسلم في الإيمان (208)، كما رواه الترمذي في التفسير (3363)، والنَّسائي في «الكبرى» في كتاب عمل اليوم والليلة (10753)، عن ابن عباس.

وقال هرقل: لم يكن ليَذَرَ الكذب على النَّاس ويكذب على الله. رواه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد والسِّيَر (1773).

الأنبياء من أوَّل أوصافهم: الصدق والأمانة؛ كلُّ الأنبياء صادقون أمناء، وينبغي أن يكون أتباع الأنبياء صادقين في أفعالهم، صادقين في أمور حياتهم كلِّها.

الصِّدق يصل بالعبد إلى مرتبة الصِّدِّيقيَّة: 

روى البخاري [في الأدب (6094)]، ومسلم [في البرِّ والصِّلة (2607)] عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصِّدق؛ فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدق، حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا.

وإيَّاكم والكذبَ؛ فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النَّار، وما يزال العبد يكذب ويتَحرَّى الكذب، حتى يُكتب عند الله كذَّابًا)

الحرص على الصِّدق وتحرَّيه يجعلك – أيها المؤمن- مِن الصِّدِّيقين الذين هم في المرتبة التالية من النَّبيِّين، قال - تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا } [النِّساء: 69].

الرتبة التالية للنبوَّة هي رتبة الصدِّيقية، بل وصف الله الأنبياء بهذه الصدِّيقيَّة، { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 56]. 

الصدق يهدي إلى البر:

إنَّ الصِّدق يهدي إلى البر، والبر كلمة جامعة لكلِّ وجوه الخير والأعمال الصالحة.

ونتساءل: كيف يهدي الصدق إلى البر؟ 

والجواب: أنَّ الإنسان إذا كان صادقاً لابدَّ أن يذعن للحق، ويؤمن بالله عزَّ وجل، فالصدق يهدي إلى الإيمان، والايمان من أعظم أنواع البر وأجلها، وقد هدى إليه خُلق الصدق.

أما الكذب فإنه يهدي إلى الفجور... والفجور يهدي إلى النار.

ونتساءل أيضا: كيف يهدي الكذب إلى الفجور والآثام والمعاصي؟ 

الجواب: أن من كان الكذب خلقاً أصيلاً فيه هان عليه أن ينكر الحق، فإذا عرف أن أركان الإيمان حق، لم يجد حرجاً في نفسه أن ينكرها كذباً وبهتاناً، ولا شك أن الكفر بأركان الإيمان من أفجر الفجور، وقد ساعد عليه وهدى إليه خلق الكذب.

ولذلك ذكر الله سبحانه أن الكذب من صفات الذين لا يؤمنون بآيات الله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ} [النحل:105].

الصدق فيه النجاة: 

يجب أن نتحرَّى الصدق وإن رأينا فيه الهَلَكَة؛ فإنَّ فيه النَّجاة، وأن نتجنَّب الكذب وإن رأينا فيه النَّجاة، فإنَّ فيه الهَلَكَة.

يقول الشاعر: 

عليك بالصِّدق ولو أنَّه=أحرقك الصدق بنار الوعيد

فإنَّ أغبى النَّاس في دينه=مَنْ أسخط المولى وأرضى العبيد

هذا هو أغبى النَّاس، وأجهل النَّاس، مَنْ يرضي النَّاس بسخط ربِّه - عزَّ وجلَّ.

عُرض رجل على الحجَّاج، وقد زعم أهله أنَّه مجنون، كان قد انتقد الحجَّاج فأُخذ إلى السجن، فذهب أهله وقبيلته وقالوا: يا أيُّها الأمير، هذا رجل مجنون تأتي إليه نوبات.

وكانوا قد اتَّفقوا مع صاحبهم هذا أنَّه إذا لقي الحجَّاج يتظاهر بالجنون، ولكنَّ الرجل حينما لقي الحجَّاج كلَّمه كلام العاقل اللبيب الحكيم، فقال له الحجَّاج: إنَّ قومك يزعمون أنَّك مجنون!

فقال: ما كنت لأزعم أنَّ الله ابتلاني وقد عافاني.

فقال الحجَّاج: خلُّوا عنه، هذا رجل صادق نجَّاه الصِّدق. "وَفَيَات الأعيان" لابن خلِّكان، (2/38).

والصادق مستجاب الدعاء، وأجره محقق، وإن عجز عن العمل.

روى مسلم في الإمارة (1909)، وأبو داود في الصلاة (1520)، والنسائي في الجهاد (3162)، عن سهل بن حنيف: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ».

والصَّادق تحصل له البركة في بيعه وشرائه: 

روى البخاري (2082)، ومسلم (1532) عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»

ميادين الصدق: 

إنَّ الصدق مطلوبٌ من المسلمين في أقوالهم وأعمالهم، والله سبحانه أمرنا أن نكون مع الصادقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. والصادقون هم الذين صدقوا في إسلامهم، وصدقوا في إيمانهم، وصدقوا في أقوالهم، وصدقوا في أعمالهم.

والصدق مع الله تعالى: أن نتعامل مع الله بكلِّ صدق، فهو لا يخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سرٌّ ولا علانية، وهو يعلم باطنك كما يعمل ظاهرك، فهو قادر على أن يكشفك ويفضحك بين أقرب الناس إليك.

والصدق مع النفس: أن تواجهها بالواقع، ولا تفتري عليها، أو تقول لها غير الحق، فقد يخدع الإنسان غيره، ولكنه من الصعب أن يخدع نفسه.

فأنت مطالب – أيها المؤمن- بالصدق في كل ميادين الحياة، وأمور الدنيا والدين، مطالب به أولا في نيتك وإرادتك، وابتغائك مرضاة الله في كل أقوالك وأعمالك، وأن يتوافق ظاهرك مع باطنك، وأقوالك مع أفعالك. 

فالصدق يشمل القول والفعل والنيَّة جميعًا، كما أنه يشمل الصدق مع الناس، والصدق مع النفس، والصدق مع الله، وإن كان الصدق أشهر ما يكون في الأقوال.

والمؤمن أيضا صادق في إتقان العمل وأداء الحقوق.

والمؤمن الصادق لا يخفي الحقيقة، ويستر المعايب التي يجب بيانها. 

جاء أن بلالاً وأخاه صهيباً أتيا أهل بيت من العرب، فخطبا إليهم، فقيل لهما: من أنتما؟ فقال بلال: أنا بلال وهذا أخي صهيب، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا مملوكين فأعتقنا الله، وكنا عائلين فأغنانا الله، فإن تزوِّجونا فالحمد لله، وإن تدونا فسبحان الله.

فقالوا: بل تزوجان والحمد لله، فقال صهيب لبلال: لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقال: اسكت فقد صدقت فأنكحك الصدق." الإحياء" 2/40.

الصدق في القول وتحري نقل الأخبار الصادقة:

من أعظم ميادين الصدق: الصدق في القول، فلا ينطق المؤمن إلا بالصدق، ويتحرَّى الصدق في نقل الأخبار، ويتجنب الظنون والأوهام.

وكثير من النَّاس لا يتحرَّى في نقل الكلام، يسمع كلمة من هنا ومن هناك فيطير بها في الآفاق، وقد يكون في هذا الكلام ما يضرُّ بفرد معين، أو يضرُّ بأسرة معينة، أو يضرُّ بفئة في المجتمع، أو يضرُّ بالمجتمع كلِّه، ولذلك حذَّر الإسلام من هذا، فالله تعالى يقول: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} [الحُجرات: 6].

فلا ينبغي أن نسارع إلى تصديق الإشاعات، بل علينا أن نتحرَّى فيما نقوله وفيما نسمعه، فإذا كان الكاذب آثما، فإن مشيع الكذب يشارِكه في الإثم، بل ربما كان أكبر إثمًا منه؛ لأن الذي يقول الكلمة الكاذبة يقولها في نطاق محدود، والذي يشيعها ينشرها في الآفاق.

والتبيُّن والتثبيت هو صفة الإنسان المسلم الذي لا يدور مع كلِّ دائر، ولا يطير مع كلِّ طائر، بل شأنه التثبت، ومراعاة الصدق، واتِّباع قول الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ} [التَّوبة: 119].

الصدق في الوعد:

كما أن الصدق في القول مطلوب منك – أيها المسلم- وكذلك الصدق في الفعل: ألَّا يخالف عملُك قولَك، فإذا قلتّ كلمة احترمتها، وإذا وعدت بشيء أنجزته في ميقاته الموعود، وإذا تعهَّدت بشيء حرصت على أدائه كما ينبغي.

وقد ذمَّ الله ورسولُه مَن يقول ولا يفعل، ومن يعد ولا يفي، ومن يتعهد ولا يلتزم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].

روى البخاري (33)، ومسلم (107)، كلاهما في الإيمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان".

أما المؤمنون فقد وصفهم الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].

وأثنى القرآن على نبيِّ الله إسماعيل فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54].

وجعل الله سبحانه الوفاء بالعهد من البر، وبيَّن أنَّه مِنْ صفات البررة كما قال تعالى: {وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177]. 

وأثنى الله تعالى على المؤمنين الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه، فقال تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

ومن أمثلة التربية النبوية على صدق الوعد، ما رواه أبو داود [7/343] وأحمد في المسند [3/ 447] عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها، تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة).

فحين نَعِد أطفالنا بأن نعطيهم أشياء، ثم لا نفي لهم بما نعدهم به فإنَّنا نعلمهم على الكذب، ونعلمهم على عدم الوفاء بالوعد، ونغرس فيهم أيضاً عدم الثقة بنا، وبأقوالنا..

حاجتنا إلى الصدق: 

ما أشدَّ حاجة المجتمع الإنساني إلى خُلق الصدق... إن العلاقات الاجتماعية والمعاملات الإنسانية، تعتمد على شرف الكلمة، ولولا الثقة بشرف الكلمة وصدقها لتفكَّكت الروابط الاجتماعيَّة بين الناس.. ويكفي أن نتصور مجتمعاً قائماً على الكذب، لندرك مبلغ تفككه، وانعدام صور التعاون بين أفراده.

كيف يكون المجتمع قويًّا متماسكا وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق؟!!

كيف يكون لمثل هذا المجتمع رصيد من ثقافة أو علم...كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم... وكيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ... كيف يوثق بالوعود والعهود ما لم يكن الصِّدق أحد أسس التعامل بين الناس؟!! 

ما هو مصير مجتمع قائم على الكذب؟! أليس مصيره الانحلال والتفكك ثم الخراب والدمار؟

إن الشخصية الإسلامية تتصف بالصدق، وإن الحياة الإسلاميَّة تقوم على الصدق، ولا تقوم على الكذب والزَّيف.

والمسلم الصادق، هو صادق في نفسه، وصادق مع أهله، وصادق مع النَّاس أجمعين، صادق؛ فإنَّ الصدق خصْلة من خصال الإيمان.

الأمَّة تحتاج إلى أن تصدق، يصدق حكَّامها، يصدق علماؤها، يصدق مُربُّوها، يصدق تجَّارها، يصدق كلُّ إنسان فيها: التلميذ في مدرسته، والموظَّف في مكتبه، والعامل في مصنعه، والفلاَّح في مزرعته، والقاضي في محكمته، والرئيس في ديوانه، وكلُّ إنسان في مكانه.

على الجميع أن يلتزموا الصدق؛ فليس هناك أفضل من أن يشيع الصدق في أمَّة من الأمم.

أما إذا شاع الكذب فليس وراءه إلا الشرُّ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61].

فالزموا الصدق - أيها المسلمون-، وكونوا صادقين في أحوالكم كلِّها: الصدق في القول، والصدق في العمل، والصدق في مقامات الدين، كما قال - عزَّ وجلَّ - في وصف أهل البرِّ والتقوى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحُجرات: 15].

وكتب في الحرم المكي الشريف ليلة الخميس ربيع أول 1401.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

ثم راجعته وصححته وأضقت عليه كثيرا من الزيادات، وأعددته للنشر 

في يوم الأحد 8 من جمادى الآخرة 1441.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين