الصحوة الإسلامية وقواها بين مطارق قوم وسندان آخرين

 

 

 أولاً: الصحوة الإسلامية : الحقيقة والظاهرة

الصحوة الإسلامية

تميز الربع الأخير من القرن العشرين بتقدم ما اصطلح على تسميته ( الصحوة الإسلامية ) . وقد تمثلت هذه الصحوة بتحول لافت في بوصلة الجماهير والنخب العربية نحو الإسلام : العقيدة والشريعة ومنهج الحياة . وكان لهذا التحول أبعاده : السلوكية والثقافية والاجتماعية والسياسية . فظهرت هذه الصحوة في مناحي شتى من عالم السلوك والالتزام والخطاب والاختيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وشمل هذا التحول طبقات من الهرم الاجتماعي العربي والإسلامي فتغشّى كل مدرجات المجتمعات ، غير مقتصر على مفهوم الطبقة الماركسية القائم على البعد الاقتصادي وحده ..

جمهور الصحوة الإسلامية

فكان من عديد جماهير هذه الصحوة على امتداد الساحة العربية  كثير ممن يطلق عليه الطبقة المجتمعية المخملية من أصحاب الثروات ورؤوس الأموال ، كما كان من عديدها جماهير من أبناء الطبقة الوسطى بمختلف مفاهيمها ، و كذا من طبقات العمال والفلاحين والمهمشين ، على خلفيات التهميش المختلفة : الاقتصادي أو السياسي وأحيانا الديني أو المذهبي أو العرقي ، كما كان من عديد جماهير هذه الصحوة نخب علمية وأساتذة جامعات وعائدون من الغرب بشهادات أكاديمية متميزة وخريجون ودارسون وطلاب ومثقفون وتجار ومهنيون وأوساط متعلمين وشبه أميين.

وكان من عديد جماهير هذه الصحوة متفقون مختلفون منهم من يرى في الإسلام بعده الأخلاقي والتربوي ، ومنهم من يراه في بعده الاجتماعي ، ومنهم من يراه في أبعاده  الفكرية والثقافية ومنهم من يراه في أبعاده السياسية أو الاقتصادية ومنهم من يراه منهجا شاملا يشمل فيما يعتقدون ( العقيدة والعبادة والشريعة ومنهج الحياة ) . وكان واضحا أن عديد جماهير هذه الصحوة قد شكلت تيارا كبيرا متشعبا غير منظم توجهه ، دون أن تحكم السيطرة عليه عمليا قيادات دينية علمية محلية ، وتنظيمات سياسية ، ومدارس ورموز تاريخية ، وأن هذا التيار الضخم المتشعب يتوزع على مدارس ومناهج في التفكير وفي الموقف منها ما يجنح بما يطلق عليه في الإسلام مناهج ( الغلو والتشدد ) على خلفيات مختلفة ، ومنها ما ينحو إلى التساهل والانضباط العاطفي بما تيسر ، ومنها ما يتجه إلى التمسك بظاهر النص مما سمي تاريخيا من أهل السلف ، ومنها ما يرغب في الروحيات الإشراقية مما عرف بالمدرسة الصوفية ، ومنها ما ينحو إلى الوسطية والاعتدال والجمع بين المناهج والطرائق على تفاوت كبير بين أبناء هذا التيار في فهم الوسطية والاعتدال ومدلولات تفسيرها والالتزام بها أيضا ..

خلفيات التحول إلى الصحوة الإسلامية ودوافعها 

يحار الكثير من المفسرين للظواهر الاجتماعية والفكرية في تفسير العوامل الحقيقية التي ساهمت في بروز الصحوة الإسلامية . في عصر يؤرخ فيه المؤرخون الاجتماعيون لغروب الفكر الديني عالميا وتقدم الفكر المادي في حمى قوانين الانتاج والاستهلاك والرغبة والإشباع . يتساءلون: وكيف يمكن أن تكون مخرجات التجارب التعليمية والإعلامية والثقافية في العالم العربي والإسلامي مناقضة لمدخلاتها التي يظن المشرفون عليها من مستعمرين ووكلاء أنهم أحكموا أمرها جيدا بحيث تدفع المجتمعات العربية والمسلمة في اتجاه تيار معولم يتدفق في بحر المادية وما يسمى الحداثة بكل أبعادها ..؟!

ثم يتبارى القوم في اقتناص هذه الأسباب بما يسمونه : الفشل العام للدول القطرية ، وما تعيشه المجتمعات العربية من تخلف وفقر وبطالة وهزائم سياسية واستبداد وتهميش ..

لن نكون مضطرين إلى مناقشة تفاصيل الكثير من هذه الادعاءات ولكن يبقى من حقنا أن نؤكد أن هذا التقديرات هي كلام أشخاص يجهلون عمليا حقيقة ( ما يعد به الإسلام ) وهذا العنوان مقتبس من المفكر الفرنسي الكبير ( روجية غارودي ) وهو عنوان كتاب له .

إن من بعض معالم إعجاز القرآن الكريم قدراته الذاتية المبهرة في مخاطبة  قدرات متفاوتة على مدارج الوعي الإنساني . وقدرته الفائقة على الوصول إلى شغافها وتلبية تطلعاتها وأشواقها على كل صعيد . العالم المحقق ، والمفكر المجلّي ، والأستاذ الجامعي ، وطالب العلم ونصف المتعلم ونصف المثقف والأمي كلهم في الانبهار بهذا القرآن سواء وكلهم يجدون في هذا الدين الحسنَ والجميلَ الذي يعدهم به ..

ولن ننسى ونحن نسرد العوامل التي شاركت في إبراز هذه الصحوة الإسلامية ما تعرض له دعاة الإسلام على مدى قرن مضى من ظلم واضطهاد واستئصال وإقصاء ومحاولة تجفيف الينابيع من روسية القيصرية إلى روسية الستالينية إلى يوغسلافيا إلى تركية الكمالية إلى دول الشمال العربي الأفريقي الفرنسية والإيطالية إلى مصر الاستبدادية الناصرية والمباركية إلى العراق وسورية البعثيتين ,,,

حرب لم تتوقف على مدى قرن من الزمان تحت عناوين ومسميات شتى شنتها قوى وأحزاب وشخصيات عرفت عند الشعوب باستبدادها وفسادها وانحلالها وفشلها وهزائمها الكبرى فكانت حربها ومذمتها مذمة الناقص الذي يشهد لنقيضه بالكمال ..

لقد مضى قرن من الزمان وقيادة الصحوة الإسلامية ترزح  تحت مقصلة الاستئصال على أرض ، ويطحنون برحى الإقصاء على أرض أخرى ، ومحاولات التنميط المشوه في توجيه فكري وثقافي يخدمه إعلام معولم يمتلك كل وسائل الخداع والتضليل ..

ولقد أثمرت جملة تلك السياسات على إضعاف قدرات قيادات الصحوة الإسلامية . وشرذمتها ، ونمو أشكال من النباتات الغريبة في وسطها وعلى ضفافها ، فكان ما نتابعه ويتابعه معنا الآخرون من مدارس الغلو والتطرف والذهاب بالخطاب الإسلامي الحامل لمشروع الرحمة العامة ، والخير لكل الناس في تفسيرات وسياسات يبقى الإسلام ودعوته بريئا منها. حتى غدت مدارس الغلو هذه وتنظيماته خطرا ليس على وحدة مدارس الصحوة الإسلامية أو على جماهير هذه الصحوة ومجتمعاتها بل لقد أصبح خطر هذه الجماعات والتنظيمات مهددا بشكل أو بآخر لما يسمى قواعد الأمن والسلم الدوليين ....

ويقتضي المقام أن نعترف أن الانعكاسات النفسية والعقلية لأجواء الإرهاب والملاحقة والتضييق والتخويف قد تطرقت إلى خطابات وتقريرات ومغذيات سلبية في فكر العديد من المؤثرين الفكريين والقادة العمليين . لا شك من الناحية النفسية أن نميز بين النفس الإنسانية في حالة الاستواء الحر المطمئن وبين تلك التي تفكر أو تقدر تحت تأثير الاضطراب والقلق والهجرة والاستضعاف .

ولكن ومهما يكن حظ الصواب أو الخطأ فيما نقدر أو نواجه فإن الحقيقة التي لا يجوز لأحد أن يغفلها أو أن يتجاوز عنها هي أن جماهير الصحوة الإسلامية هم حقيقة واقعة على الأرض ، وأنهم بعد قرن من الحرب الكريهة المتعددة الأساليب التي شنت عليهم قد خرجوا أصلب عودا وأشد قناة وأكثر تابعا ..

والحقيقة الثانية ...

 هي أن ما عجز عنه ستالين وتيتو وأتاتورك وعبد الناصر وصدام حسين وحافظ وبشار الأسد لن يقدر عليه لا السيسي ولا داعموه ومشايعوه كما لن يقدر عليه خمنئي ولا حسن نصر الله ولا المالكي  ولا كل المتعهدين الجدد لمواجهة جمهور الصحوة الإسلامية . ..

والحقيقة الثالثة ...

أن المنهجية الإسلامية الحقيقية في رؤية أهل العلم والحكمة من رجال الإسلام هي منهجية عملية ملبية لتطلعات العصر محققة لمصالح الشعوب التي تؤمن بها ، بل إننا نؤمن أنها منهجية قادرة لو تسيدت الحكمة الموقف البشري العام أن تقدم الحلول العملية لكبرى مشاكل الإنسانية الغارقة في مستنقعات الاضطراب والظلم والفساد ..

ومن هذا الحقائق نخلص إلى الحقيقة الأخيرة بأنه يجب أن تأخذ التجربة الإسلامية كما يريدها أبناؤها فرصتهم . لا يجوز أن يحال بين المسلمين وبين مشروعهم ، كما لايجوز أن تستمر تحالفات أهل الشر على منهجية قطع الطريق عليهم كما يحدث في سورية وكما حدث في مصر وفي تونس ..

لأن البديل عن هذا المشروع لن يكون كما يتوقعه ويريده البلهاء . وبعد ثورات الربيع العربي فإن البديل عن هذا المشروع سيكون أشد قتامة بل بشاعة مما أنجزه ابن علي ومبارك وحافظ وبشار الأسد ..

 إن مجتمعاتنا بكل ما عانته و تعانيه ليست بحاجة إلى أن تعيش قرنا آخر من التجربة المرة بكل ثمارها.والمجتمع الدولي الغارق في عملية اضطهاد المسلمين واستئصالهم وإقصائهم وتسليط صغار الطغاة والمستبدين عليهم ليس بحاجة هو الآخر أن يدفع قرنا آخر على طريق الصراع الحضاري لا أحد يعلم إلا الله حجم أبعاده الكارثية ..

ستكون قوى الاعتدال الإسلامي في الفقه وفي الموقف وفي الاجتماع وفي السياسة هي الأقدر على تلبية تطلعات الشعوب وجماهير الصحوة الإسلامية الحقيقية بأسلوب يحقق مصالح هذه الشعوب بطرائق غير الصدام المضرج بدماء الأبرياء في الداخل والخارج ..

إن قوة الحكمة والمنطق الإسلاميين هي وحدها القادرة على إقناع جماهير الصحوة الإسلامية ضمن دوائر من الوسطية والرشد . وهي وحدها القادرة على تضييق دوائر الغلو ، وتصحيح فقهها وأطروحاتها ونهج سبيل الرفق والحكمة والتدرج في قراءة مجددة لمقاصد شريعة الإسلام ..

إن نجاح هذه القوى في مشروعها سيقطع الطريق بلا شك على مشروع الغلاة والمتطرفين وبالعكس فإن محاصرة هذه القوى والتضييق عليها لإجهاض مشروعها فسيعطي مشروع الغلو المزيد من الذرائع والمزيد من الجرعات المغذية ..

إن من يراقب المشهد المجتمعي الإسلامي اليوم يتلمس بجدية صعوبة المهمة التي تفرض تحدياتها على قوى الاعتدال الإسلامي ...

فهم بين مطارق سياسات دولية ذات أبعاد ثقافية وسياسية تاريخية ممنهجة تقوم على إقصائهم ونبذهم والتضييق عليهم ، ثم  بعض أصحاب السلطان الذين رأوا في الربيع العربي تهديدا لكراسي حكمهم ومستقبل بنيتهم التي ينخرها السوس ويعشش فيها الفساد ، ثم ثالثا تحت مطارق المنافسين الصغار الذين أفلست مشروعاتهم ودكاكينهم التي عجزت أن تتحول في أي لحظة إلى مستوى الشركات العامة حتى على المستويات القطرية . فلقد بارت بضاعتهم وكسدت تجارتهم ورغبت مجتمعاتهم عن أفكارهم ونظرياتهم .. تعيش تجربة الاعتدال الإسلامي اليوم ودعاتها ورعاتها بين مطارق كل أولئك وسندان أهل الغلو والتطرف الذين باتوا يهددون كل من حولهم بشر مستطير والذين تحولوا مع كل الحرب المفروضة عليهم أشبه بالشركات العابرة كالقارة ( الكولا ) أو ( المكدونالدز ) .

تحاربونهم وينجحون تدعمونهم فيفشلون لعلكم تتذكرون

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين