الصحابة ينسلون من الأجداث

عبد العظيم عرنوس

لا أدري لماذا لا تسعفني ذاكرتي لأسطر شيئا من مكنونات ذات صدري ما يوفي بعض مآثر هذه القمم التي تضاهي بعليائها الجوزاء وهي ترسم بدماء وجراحات وآلام رجالها وخنساواتها وأطفالها ملحمة نادرة من ملاحم المجد والبطولة والفداء تتضاءل أمام تحديها الصارخ الصاخب اللجبكلالعذاباتوالآلاموالجراحاتفي وجه سفاح الشام.. أجدني قزما وأنا أرى هذه القمم الباسقة والنماذج الناضرة المفعمة بالحيوية والدأب والمكابدة والمصابرة التي أخرجت لنا جيلا جديدا من الصحابة ينسلونمن الأجداث يلقنون البشرية معاني الفداء والبذل لنصرة الدين والعقيدة.. فإذا بالصحابة أحياء بعد موات بعد أن ظننا أنهم غابوا تحت أطباق الثرى ؛ بل إن هذا الجيل الصحابي الجديد يضاهي ويباهي بثوابه وأجر جهاده وصبره أجر الصحابة .. ولا غرو في هذا ولا عجب بعد شهادة النبي صلى الله عليه وسلم ، روى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن من ورائكم زمان صبر ، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا "!! فقال عمر : يا رسول الله ؛ منا أو منهم ؟ قال : منكم .. وكأني بالنبي صلى الله عليه وسلم يشير من وراء السديم إلى وميض هذا الجيل حديث الولادة ، مكتمل الخصال والفضائل ، الذي جاء على أمر قد قُدر ، ليزيل به ركام الباطل ، ويجدِّد الله به شباب الدين ، بعد أن ارتوت شجرته بدماء الشهداء الزاكية ، فبدا هذا الدين أكثر جدة وبهاء وجمالا .. وتفتقت من أكمام هذه الشجرة الثمار والأزاهير تعطر الجو بمسكها الأذفر وتطل بألوانها الزاهية، وهي على أفانين الأغصان فتجذب إليها أعين الناظرين ، حتى لتكاد العيون تخرج من أحداقها من قوة جذب منظر الثمار وهي تخرج سافرة من أكمامها بكل ما تبديه من زينة وفتنة .. فإذا كان هذا شأن العيون فكيف تثبت النفوس إذن أمام طلاوة وحلاوة المذاق والطعوم ..
في ثبات وثقة وقف أبو جعفر الحمصي الناطق الإعلامي لمدينة حمص في مهرجان الدوحة لنصرة الشعب السوري الذي تحمَّل المشاق وكابد الآلام في رحلة مضنية للخروج من سوريا - وهو الذي لم يتم المرحلة الابتدائية - ليقول أمام الأحرار : أنا ما جئت لقطر لأستقر بها ، أنا جئت لأنقل المعاناة في سوريا بشكل عام وفي حمص بشكل خاص ، أبو جعفر وإخوانه الذين كشفوا ظلم وجرائم سفاح الشام وزبانيته بالصوت والصورة ، يذكرنا بجعفر بن أبي طالب عندما وقف أمام النجاشي يلقي فيه خطابا مهيبا جليلا كشف به عورات النظام الجاهلي ، وأماط اللثام عن أخلاقيات الدين الجديد الذي جاء به محمد بن عبد الله .. أبو جعفر الحمصي الذي وقف شامخا على المنصة يزين علمَ الاستقلال بهامته الشامخة جعل الذاكرة ترمق من وراء القرون أبا دجانة رضي الله عنه الذي ابتدع بدعة التحدي بعصابته الحمراء - ونعمت البدعة - أبو دجانة الذي سنَّ سنة الكبرياء والخيلاء بمشيته بين الصفين ليغيظ الكفار بتلك المشية التي يبغضها الله إلا في هذا الموضع ، فكان أول من ابتكر سنة إغاظة أعداء الله .. أبو دجانة الذي تقدم حيث أحجم الآخرون وهم صحابة خيار أبطال ؛ لكن للبطولة طعم ومذاق آخر عند أبي دجانة ..
 روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد، فقال : من يأخذ هذا مني ؟ فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول : أنا أنا . قال : فمن يأخذه بحقه ؟ فأحجم القوم . فقال سماك بن خرشة أبو دجانة : أنا آخذه بحقه . فأخذه ففلق به هام المشركين !!
بنفسي أبو جعفر - وإخوانه الصابرون المرابطون - الذي قال للحاضرين : كلكم مدعوون على عرسي بعد سقوط الأسد إن شاء الله ، إنها صرخة التحدي الواثقة في وجه الباطل .
هذا الصحب الجديد من ذاك الصحب القديم .. ذريَّة بعضها من بعض .. هذا الصحب الجديد ابتعثه الله على قدر ؛ بل هو قدر من أقدار الله يزيح الله به ركام الباطل وعفونة الاستبداد والطغيان ، فإذا الباطل ينعق فاغرا فاه مشدوها من هول الصدمة : يا ويلنا من بعث هؤلاء من مرقدهم ، فيأتيه الجواب : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .
وكأني بهؤلاء قد لبوا نداء ابن الجوزي رحمه الله وهو يهتف على شاطئ دجلة : أول قدم في الطريق بذل الروح ، هذه الجادة ، فأين السالك ؟
واختر لنفسك منزلا تعلو به ** أو مت كريما تحت ظل القسطل
فالموت لا ينجيك من آفاته ** حصن ولو شيدته بالجندل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين