الصَّبْرُ


كتبه د. طه محمد فارس
 
الصبر نقيض الجزع، وأصله حبس أو إمساك في ضيق، والصبور: القادر على الصبر، والصبَّار: يقال إذا كان فيه ضرب من التكلف والمجاهدة([1]).
أما اصطلاحاً: فهو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه([2])،
وقيل: هو حبس النَّفس عن الجزع والسّخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش([3])، وقيل: الصبر قوة مقاومة الأهوال والآلام الحسية والعقلية([4])، وقيل: الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله([5]).
فالصبر بمجمل أنواعه ومجالاته تعبير عن قوة إرادة الإنسان، وكمال عقله، وبعده عن التسرع والطيش والرعونة، وتعامله مع أمور الحياة ومشكلاتها بحكمة وتحمل ومسؤولية([6]).
وقد أمر الله تعالى به الأنبياء والمرسلين، وخصَّ بالأمر سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، فقال له: ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [الأحقاف: ٣٥]، وقال: ( فاصبر لحكم ربك) [القلم: ٤٨]، وقال: (ولربك فاصبر) [المدثر: ٧]، بل أَمَرَهُ بالصبر الجميل فقال: ( فاصبر صبراً جميلا)[المعارج:٥]، وهو الصبر الذي لا يصحبه جزع ولا شكوى([7]).
وأمر المؤمنين بالصبر والمصابرة، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: ٢٠٠]، والمصابرة فيها معنى المغالبة والمعالجة، التي تستلزم من المؤمن الثبات على منهج الصبر وملازمته في كل الأحوال([8]).
وقد خصَّ الله تعالى الصابرين بجملة من الخصائص والمزايا، من ذلك:
أولاً: محبة الله تعالى لهم ورضاه عنه، قال تعالى: (والله يحب الصابرين) [آل عمران: ١٤٦]، وإذا كان من أشكالِ الصبرِ وأنواعِه الصبرُ عند البلاء، فإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَن صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَن جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ»([9])، وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« إنَّ اللهَ يحبُ ثلاثةً ويبغضُ ثلاثةً »، ..وذكر من الثلاثة الذين يحبهم الله، فقال:« رجل له جار سوء يؤذيه فيصبر على إيذائه حتى يكفيه الله إياه إما بحياة أو موت»([10]).
ثانياً: معية الله لهم بالعون والتأييد والنصرة، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) [البقرة: ١٥٣]، و ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)  [الأنفال: ٤٦]، ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) [الأنفال: ٦٦]، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس رضي الله عنه مخاطباً له:« وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»([11]).
ثالثاً: توفيتهم أجورهم بأحسن ما عملوا، وبدون حدٍّ وحساب، قال تعالى:نما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: ١٠]،  وقال: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) [النحل: ٩٦].
رابعاً: البشرى الربانية لهم، قال تعالى: (وبشر الصابرين) [البقرة: ١٥٥].
 
خامساً: صلوات الله ورحمته عليهم، وشهادة الله لهم بالهداية والاهتداء، قال تعالى: ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)[البقرة: ١٥٥- ١٥٧]، فهم يفهمون عن الله تعالى، ويتدبرون حكمته في تصريف الأمور، فيرضون بما قضاه وقدَّره عليهم، فلا يزال صاحب الصبر المحمود مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب([12])، لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصبر بالضياء، فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ ..» ([13]).
 
سادساً: مغفرة ذنوبهم وإثابتهم بالجنة، قال تعالى: ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) [هود: ١١] والأجر الكبير: الجنة([14])، وقال: ( ولا يلقاها إلا الصابرون) [القصص: ٨٠]، وقال:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد: ٢٢ – ٢٤]، وقال:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: ٣٥]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم أجر المؤمن عندما يقابل أصناف الابتلاء بالصبر والاحتساب، فعن َأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:« مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ»([15])، وعَنْ صُهَيْبٍ بن سنان رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِن أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»([16])، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:« إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» يُرِيدُ عَيْنَيْهِ([17])، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ»([18]).
سابعاً: العاقبة بالسعادة والنصرة والغلبة لهم، قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: ٤٩]، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: ١٣٧].
ثامناً: شهادة الله لهم بالتوكل عليه، فهم اثقون بما عنده، آيسون مما في أيدي الناس، قال تعالى:{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: ٤٢].
 وقد ضرب الله لنا في كتابه أمثلة رائعة لنماذج الصابرين المحتسبين، من ذلك صبر سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما ابتلاه الله بذبح ولده إسماعيل في رؤيا منامية، وصبر إسماعيل عليه السلام على ما قدره الله عليه من الذبح، فلما علم الله منهما صدق الامتثال لأمره، والخضوع والتسليم لقضائه وقدره، جاء الفرج والإكرام الرباني من الله، قال تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: ١٠٢ – ١٠٧].  
ومن الأمثلة القرآنية في الصبر على البلاء والمكاره: سيدنا أيوب عليه السلام، فبعد صحة البدن، وسعة الرزق، ونعمة الولد، يفقد كل ذلك، وتعتل صحته، ويمسه الضر بكل أنواعه، بل وينتابه الشيطان بوساوسه ليخرجه عن صبره واحتسابه، ثم يوسوس لزوجته كذلك([19]) .
فما كان منه عليه السلام إلا قابل البلاء الذي أصابه بصبر واحتساب، ولجأ إلى ربه داعياً مبتهلاً أن يكشف عنه ضره وبلاءه، فاستجاب الله له، وكشف عنه ما به، وعوضه من الدنيا والولد ما فقد، جزاء صبره وحسن تأدبه مع ربه، قال تعالى:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: ٨٣ - ٨٤]، وقوله تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: ٤١ – ٤٤].
 
ولا تثمر شجرة الصبر إلا إذا سقيت بماء التقوى لله، والعمل الصالح، والاتباع لمنهج الحق، قال تعالى:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [يونس: ١٠٩]،وقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، وقال جل جلاله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران: ١٢٠]، وقال:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: ١ – ٣].
أما مجالات الصبر وميادينه فكثيرة، تتلخص في الصبر على فعل المأمور، والصبر على ترك المحظور، والصبر عند حلول الضر والمكروه، من ذلك:
 
ـ الصبر عند القيام بالعبادات: فما من عبادة إلا وهي بحاجة للصبر، لما فيها من مخالفة النفس وإرغامها على ما تكرهه، وهجر للراحة والدعة والإلف المحبوب، ولذلك كان لا بد للعابد من أن يُوطِّن نفسه على الصبر وتحمل المشاق لأداء العبادات على الوجه الأكمل الذي يرضي الله، قال تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: ٦٥]،  وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بأنه نصف الصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: «... وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ...»([20]).
ـ الصبر في الدعوة إلى الله تعالى: فالداعي إلى الله تعالى لا بد أن يتحلى بالصبر عند دعوته، ولذلك أمر الله تعالى نبيه بالصبر، فقال له:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }[طه: ١٣٢]، كما يحتاج إلى الصبر عند التعرض لأذى الناس وتكذيبهم، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حافلة بصفحات من الصبر على أذى كفار قريش من أهله وقرابته، وكذلك الدعاة الصادقون على مرِّ الزمان، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ }[طه: ١٣٠]،
 
وذكر الله لنا في كتابه على لسان لقمان عليه السلام نصيحته لولده، فقال له:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: ١٧]، فكل آمر بالمعروف وناه عن منكر لا بد أن يتعرض لأذى الناس، فلا بد لكل داع أن يوطِّن نفسه على أذاهم، وأن يعلم أنه لم يخل عن الأذى أحد مهما عظم خيره ونفعه، بل إن الناس آذوا ربهم وخالقهم مع ما أسبغه من نعمه عليهم، فلم يقطع نعمه عنهم، ولم يعجل لهم العقاب لسوء فعلهم، بل أمهلم وأملى لهم، فعَن أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« لَيْسَ أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِن اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»([21]).
 
ولا ينبغي للداعي إلى الله أن تحمله إساءة الناس عند دعوتهم أن يهجرهم ويترك دعوتهم، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، فعَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»([22]).
ـ الصبر على المصائب والمكاره: فالدنيا دار ابتلاء واختبار، ولا بد للمؤمن أن يفهم حقيقتها، وأن يعلم أنه ما من أحد فيها إلا وهو مبتلى بنوع من البلاء، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: ٣٥]، وإظهار صبر الصابر لا يكون إلا عند وقوع البلاء، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }[محمد: ٣١].
وفقد الأولاد هو من البلايا والمحن الشديدة على النفس، ولذلك وعد الله من صبر عند البلاء على ذلك بالأجر العظيم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِنِسْوَةٍ مِن الْأَنْصَارِ:« لا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِن الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبَهُ إِلَّا دَخَلَت الْجَنَّةَ»، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوْ اثْنَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ :« أَوْ اثْنَيْنِ»([23]).
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ، قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ»([24])، ولا ينبغي للمؤمن أن يجزع لحظة مصابه، فالمصائب تبدأ كبيرة، ثم لا تفتأ حتى تصغر شيئاً فشيئاً، وكمال الصبر لا يتجلى إلا في لحظة وقوع المصيبة عند الصدمة الأولى، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ:«اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي»، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ:«إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى»([25]).
 
ومن البلايا التي تصيب الناس في الدنيا ظلم ولاة الأمر وجورهم، فما لم يصل الحدُّ في ظلمهم إلى التعدي على حقوق الناس، وانتهاك حرمات الله، فعند ذلك ينبغي الصبر على ما يظهر منهم مما نكرهه، فعن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« مَن رَأَى مِن أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَن فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»([26]).
 
ولا يعنى ذلك السكوت عن الحق وعدم المطالبة به، وإلا لَطغى الحاكم على محكومه، واغتر بسلطانه ومنصبه، ونسي الواجب الذي أناطه الله به، ولذلك حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أفراد المجمعِ المسلم على قول كلمة الحق والعدل لكل من ولي أمراً من أمور المسلمين، وبيَّن بأن من أعظم الجهاد عند الله أن تُقال كلمة الحق بين يدي حاكم ظالم جائر، فقال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»([27])، وعندما سأل أحد الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أحب إلى الله عز و جل؟ أجابه قائلاً:«كلمة حق تقال لإمام جائر»([28])، وجاءه آخر وقد وضع رجله في الغرز فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:« كلمة حق عند سلطان جائر»([29]).
 
ـ الصبر عند لقاء العدو: فساحات الوغى تستوجب رجالاً أشداء على عدوهم، صُبُرَاً عند اللقاء، فإذا ما قدَّرَ الله على المؤمن أن يلقى عدوه، فلا بد أن يتسلح بالصبر، فعن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ:« أَيُّهَا النَّاسُ: لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»..([30]).
وقد يشكو البعض من قلة الصبر، والمسارعة إلى الجزع، وعلاجه: هو أن يوطن نفسه على الصبر، وينظر في عواقب الأمور، ويعلم حقيقة الدنيا وما فيها، عند ذلك تقوى إرادته، وتهون عليه فجأة المصيبة وأثرها، فما من خير يعطاه العبد أعظم وأوسع من الصبر، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« .... وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِن الصَّبْرِ»([31]).
 
ومما يعين على الصبر: أن يدعو المؤمن ربه بأن يصبره على ما ابتلاه به، ولكن لا ينبغي للعبد أن يسأل الله الصبر في دعائه ابتداء، لأن سؤاله الصبر هو طلب للبلاء، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ، فَقَالَ:«سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ، فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ»([32]).
فاللهم إنا نسألك العافية من كل بلية، ونسألك اللطف فيما جرت به المقادير..
 
 


([1]) انظر: تهذيب اللغة 4/201؛ ومفردات ألفاظ القرآن للراغب 1/565؛ ومقاييس اللغة 3/256.
([2]) انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب 1/565.
([3]) انظر: بصائر ذوي التمييز 3/223.
([4]) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص447.
([5]) انظر: التعريفات ص172.
([6]) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لحبنكة 2/307.
([7]) تفسير القرطبي 18/284؛ البحر المديد 8/199.
([8]) ذكر القرطبي في تفسيره 4/322 من معاني المصابرة: مصابرة الأعداء، وكذلك الاستمرار على القيام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات، ولعل حمل اللفظ على عمومه في كل ما أُمر بالصبر عليه أو فيه أو عنده، والله أعلم.
([9]) أخرجه أحمد في المسند 5/427 برقم 23672؛ والبيهقي في الشعب 7/145برقم 9784؛ وذكره الهيثمي في المجمع برقم 3736 وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات .
([10]) أخرجه الحاكم في مستدركه 2/88ـ89 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
([11]) أخرجه أحمد في المسند 1/307 برقم 2804 قال محققه: إسناده صحيح؛ والطبراني في الكبير11/123 برقم 11265؛ والبيهقي في الآداب 1/462 برقم 758.
([12]) شرح صحيح مسلم للنووي 3/101.
([13]) أخرجه مسلم في الطهارة برقم 223؛ والترمذي في الدعوات برقم 3517؛ وابن ماجه في الطهارة وسننها برقم 280.
([14]) انظر: تفسير البغوي 4/164.
([15]) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب برقم 2573.
([16]) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق برقم 2999.
([17]) أخرجه البخاري في المرضى برقم 5329.
([18]) أخرجه البخاري في الرقاق برقم 6060.
([19]) وما يذكر من تزيد ومبالغة في وصف البلاء الذي أصابه عليه السلام، إنما هو من الإسرائيليات التي لا يجوز التعويل عليها أو ذكرها، ونكتفي في وصف البلاء ما أشارت إليه الآيات القرآنية. ينظر تفسير ابن كثير وما فيه من قبيل ذلك 5/359، 7/74.
([20]) أخرجه أحمد في مسنده 5/363 برقم23123؛ والترمذي في الدعوات برقم 3519 وقال: حديث حسن؛ وعبد الرزاق في مصنفه 11/296 برقم 20582.
([21]) أخرجه البخاري في الأدب برقم 5748؛ ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار برقم 2804.
([22]) أخرجه أحمد في المسند 2/43 برقم 5022 قال محققه: إسناده صحيح؛ والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع برقم 2507؛ وابن ماجه في الفتن برقم 4032 واللفظ له؛ وابن أبي شيبة في مصنفه 8/564 برقم 26744.
([23]) أخرجه البخاري في العلم برقم 102؛ ومسلم في البر والصلة والآداب برقم 2632 واللفظ له.
([24]) أخرجه أحمد في المسند 4/415 برقم 19740؛ والترمذي في الجنائز برقم 1021 وقال: حديث حسن غريب؛ وابن حبان في صحيحه 7/210 برقم 2948. قال الألباني: حسن.
([25]) أخرجه البخاري في الجنائز برقم 1223؛ ومسلم في الجنائز برقم 926.
([26]) أخرجه البخاري في الفتن برقم 6646؛ ومسلم في الإمارة برقم 1849.
([27]) أخرجه أبو داود في الملاحم برقم 4344؛ والترمذي في الفتن برقم 2174 وقال: حديث حسن غريب؛ وابن ماجه في الفتن برقم 4011.
([28]) أخرجه أحمد في مسنده36/482، والطبراني في الكبير، وذكره السيوطي في الجامع الصغير وحسنه، وقد قال الشيخ الأرناؤوط: حسن لغيره.
([29]) أخرجه النسائي في البيعة بإسناد صحيح برقم 4209.
([30]) أخرجه البخاري في الجهاد والسير برقم 2804؛ ومسلم في الجهاد والسير برقم 1741.
([31]) أخرجه البخاري في الزكاة برقم 1400؛ ومسلم في الزكاة برقم 1053.
([32]) أخرجه أحمد في المسند 5/231؛ والترمذي في الدعوات برقم 3527 وقال: حديث حسن؛ وابن أبي شيبة في مصنفه 10/269 برقم 29968؛ والطبراني في الكبير 20/55 برقم 16854.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين