أذيعت من حلب صباح السبت 28 من ربيع الأول سنة 1378، جعلها الله مقبولة لديه، آمين.
أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فعنوان حديثي اليوم: الصبر عند المصيبة
إنَّ الله تعالى جل شأنه جعل هذه الدار دار ابتلاء واختبار، فأوجد فيها للإنسان ما يحب وما يكره، وخلق فيه القدرة التي تمكنه أن يكون صابراً عند حلول مقادير الله تعالى، ووعده أفضل الجزاء وأطيب الثواب على الصبر.
وحقيقةُ الصبر: حبسُ النفس عن الجزع واللسانِ عن التشكي والجوارحِ عن المخالفات، وهو من أفضل الأخلاق التي يتحلى بها العاقل اللبيب، وقد قسَّمَ العلماءُ الصبر إلى ثلاثة أقسام: صبرٌ على الأوامر والطاعات حتى يؤديها العبد كما طُلِبَتْ منه، وصبرٌ عن المحرمات والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبرٌ على الأقدار والمصائب حتى لا يتسخطها، وحديثي اليوم عن هذا القسم الثالث.
إن المصائب التي تنزل بالإنسان كثيرة ومتتابعة، فهو لا ينفُذُ من مصيبة في بدنه حتى يَقَعَ في مصيبة في ماله، ولا ينفكُّ من مصيبة في ماله حتى يقع في مصيبة في ولده، ولا ينفك من مصيبة في ولده حتى يقع في مصيبة من زوجه وأقاربه، وهكذا يودِّعُ مصيبة ليستقبل مصيبة، وقد تتصل الحلقة بين المصيبتين وقد تتباعد، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد﴾، أي خلقناه محاطاً بمتاعب ومشاق تواجهه من كل جانب، فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها وما بعده.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره عند تفسير الآية المذكورة: قال علماؤنا: أول ما يكابِدُ قطعَ سُرَّته، ثم إذا قُمِط قِماطاً وشُدَّ رِباطاً يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته والمؤدب وسياسته والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأحفاد، ثم يكابد شغل الدُور وبناء القصور، ثم الكِبَر والهرم وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغمِّ الدَيْن، ووجع السِّن، وألم الأُذن، ويكابد محناً في المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مُساءلة الـمَلَك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار.
فإذا لم يكن الإنسان متدرعاً بالصبر متحصناً بالنباهة والعقل ضَعُفَ وجَزعَ، وكان منه ما لا يَرُدُّ عليه فائتاً ولا يدفع عنه واقعاً مؤلماً.
ولهذا حض الإسلام على الصبر حضَّاً كثيراً وقرنه بأفضل الجزاء والمثوبة وجعل للصابرين أطيب التكريم، قال تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تُعرِّف بفضيلة الصبر على المصيبة وتبين ثوابها عند الله تعالى، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن إذا قبضتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتَسَبَهُ إلا الجنة. وروى البخاري أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل قال: إذا ابتلَيَتُ عبديَّ بحبيبتيه - يعني عينيه – فصبر، عوضته عنهما الجنة. وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيبُ المؤمنَ من نَصَبٍ ولا وَصَب - أي من تعب ولا مرض - ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذىً ولا غَمّ، حتى الشوكةُ يُشاكها، إلا كفَّرَ الله بها من خطاياه.
وقد علَّمنا رسول الله ما ينبغي أن نقول عند نزول المصيبة فقال فيما رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها. قالت أم سلمة: فلما مات زوجي أبو سلمة: قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة: أولُ بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتُها، فأخلف الله ليَّ خيراً منه: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد جاء في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الصبر على المصائب والتمسك بآداب الشرع الحنيف عند نزول الفاجعات والكوارث، وأنا أذكر هنا بعض الحوادث التي جاءت عنهم في الصبر لتكون قدوة ومنهاجاً للصابرين.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً كان أرحمَ بالعيال - يعني الأطفال والضعفاء - من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه إبراهيم مُستَرضَعاً له في عوالي المدينة، فكان ينطلق - أي يذهب إليه - ونحن معه، فيدخل البيت فيأخذه فيقبله ثم يرجع، ولما مرض إبراهيم دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذَ إبراهيمَ وقبَّلَه وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تدمعان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنتَ يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة، إنَّ العينَ تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، لولا أنه أمرُ حق، ووعدُ صدق، وسبيلٌ نأتيه، وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزِنَّا عليك حزناً هو أشد من هذا. ثم قال: إنَّ إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي - يعني في سنِّ رضاع الثدي - وإن له لَظِئرين تُكمِلانِ رضاعه في الجنة. وقد كانت وفاة إبراهيم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وعمره ثمانية عشر شهراً رضي الله عنه.
وأفاد هذا الحديث الشريف أن ما يكون على الميت من دمع العين ورِقَّة القلب من غير سَخَط لأمر الله تعالى لا ينافي الصبرَ الممدوحَ فاعلُه، فإنَّ طبيعة الإنسان تتأثر بالفجيعة، وتحزن بالمصيبة.
وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان لأبي طلحة الأنصاري غلامٌ صَبيحٌ اسمه أبو عمير، وكان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، فعاش حتى تحرك، فمرض فحزن أبو طلحة عليه حزناً شديداً حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح روحة في آخر النهار، فمات الصبي وأبو طلحة خارج البيت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثت أم سُليم، زوجةُ أبي طلحة وأمُ الصبي، بعثت أنس بن مالك يدعو لها أبا طلحة زوجها، وأمرته أن لا يخبره بوفاة ابنه، وكان أبو طلحة صائماً، وقامت أم سُليم فغسلت الغلام وكفنته وحنطته وسَجَّت عليه ثوباً ونَحَّتُه في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: هو هدأت نفسُه، وأرجو أن يكون قد استراح. وتبادر إلى فهم أبي طلحة أن الغلام قد استراح بذهاب المرض عنه وحلول العافية له، ثم قرَّبَت له العَشاء فأفطر من صيامه، ثم تَصنَّعت له أحسن ما كانت تصنَّع فأصاب منها، ولما أصبح وأراد أن يخرج قالت له يا أبا طلحة: أرأيتَ لو أن قوماً أعاروا أهلَ بيت عَارِّيةً فطلبوا عارِّيتَهم، ألَـهُمْ أن يمنعوهم؟ قال: لا، إنَّ العارِّية مؤداةٌ إلى أهلها. فقالت: إن الله أعارنا الغلام ثم أخذه منا، فاحتَسِبْ ابنك. فغضب أبو طلحة واسترجع - أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون - ثم قال لها: تركتِني حتى تلطختُ ثم أخبرتِني بابني. ثم ذهب فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لهما. فولدت أم سليم غلاماً سمَّتُه عبد الله، قال عَبَايةُ بن رِفاعة: فلقد رأيت لذلك الغلام تِسع بنين كلَّهم قد ختم القرآن.
إنَّ في هذه الحادثة أروعَ مثلٍ لما ينبغي أن تكون عليه المرأة الحصينة العاقلة من الصبر والتجلد، وجودة الرأي وقمة العزم، ورعاية مصالح الزوج والاجتهاد في تسليته إذا نزلت به مصيبة، فلقد برعت أم طلحة كل البراعة في ضربها المثل بالعارِّية حتى استلت الحزن من نفس أبي طلحة استلالاً، وليَّنت عليه المصيبة فجعلته يسكن لوقوعها ويصبر لنزولها.
وجاء في سيرة التابعي الجليل عُروة بن الزبير، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة رضي الله عنه، أنه قَدِمَ على الوليد بن عبد الملك إلى الشام، ومعه ابنه محمد، وكان من أحسن الناس وجهاً وأكبرَ ولد له، فدخل دار الدواب فضربته دابةٌ فَخَرَّ ميتاً، ثم إن الأَكِلة - داءٌ يقع في العضو فيأْتَكِلُ منه- وقعت في باطن قدم عروة فبعث إليه الوليد الأطباء، فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك. فعزم على قطعها، فنشروها بالمنشار، فلما صار المنشار إلى القصبة، وضع رأسه على الوسادة ساعة فغَشيَ عليه ثم أفاق والعَرَقُ يتحدر على وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر. فأخذها وجعل يقلبها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية، ولا إلى ما لا يرضي الله عز وجل. ثم أمر بها فغُسِّلَت وطُيِّبَت وكُفِّنَت في قطيفة، ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين، فلما رجع من عند الوليد بن عبد الملك إلى المدينة تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يُعزُّونَه، فما زاد على أن قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَباً.
وقَدِمَ في تلك السنة على الوليد بن عبد الملك قوم من بني عَبْس فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد بن عبد الملك عن عينيه فقال: يا أمير المؤمنين، بِتُّ ليلة في بطن وادٍ ولا أعلم عَبْسياً يزيدُ مالُه على مالي، فطرَقَنا السيلُ فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غيرَ بعير وصبي مولود، وكان البعير صعباً فَنَدَّ فوضعت الصبي وتبعت البعير، فلم أجاوز قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهب بعينيّ، فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر. فقال الوليد بن عبد الملك: اذهبوا به إلى عُروة بن الزبير ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً!
فالصبر عند المصيبة صفة المسلم العاقل المؤمن بقضاء الله تعالى وقدره، الذي قدَّرَ اللهُ وما شاء فعل، وكل شيء عنده بمقدار، جعلني الله وإياكم من المؤمنين الصابرين المكرمين بالأجر والثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول