الصامت الناطق

صمتك يا سليل العرب العرباء! أبلغ من بيان فرسان البيان من معد بن عدنان، وسكوتك يا غرة مضر! أفصح من كلام قس بن ساعدة وسحبان، أعيا أصحاب ذرابة اللسان والذلاقة أن يساموا أوج صمتك، إن شرفك يا معروف النسب الماجد! ينادي بعظمتك، يا مترددا في السؤدد! ويا متناسقا في العز! أنى لأشراف بني آدم أن يدانوا العلو الذي تبوأت عرشه، لقد جلَّلْتَ قومك مفاخر ما جلَّلها أحد قومه، وإذا عُدَّ الأطايب من ولد نوح وإبراهيم كنت أطيبهم طيبا وأمدحهم فعالا.

وجهك يا من لم تلد النساء مثله! ينادي يجمالك الوسيم الباهر، وقدُّك يا معتدل الخلق القويم! يشهد بحسنك البهي الزاهر، منع كمالُك العالمين أن يتزعموه بدعاويهم، لِيسأل السائلون الحسانَ الملاحَ الوجوه والمشرقي الجباه، يخبروا الخبر اليقين بأنك يا بكر آمنة المبارك بكرها! أنت الأغر والأزهر الأنضر، عليك للنبوة خاتم، مضموما اسمك إلى اسم الإله، أنت السراج المستنير، والبدر المضيئ على البرية كلها، ومن يهد للنور المبارك يهتد.

شهد الورى أنك سعيد ميمون، بر رحيم، شيمتك الوفاء، وما أخلاقك إلا من إرهاصات نبوتك، أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها في قصة أول اتصالك بروح القدس، قالت: فرجع بها (أي بالآيات) رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال لخديجة: أي خديجة! ما لي وأخبرها الخبر، قال: لقد خشيت على نفسي، قالت له خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.

وقرأت اليهود وسائر الكفار والمشركين في كتاب جبينك أنك صادق أمين، ولا يستوي الصدق عند الله والكذب، وشتان ما بين أمانة وخيانة، أخرج الترمذي وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت في الناس لأنظر إليه فلما استثبت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وكان أول شيء تكلم به أن قال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.

دلتنا حنيفيتك على مدى حبك لربك، تعبده في ساعات العبادة، وتسجد له آناء الليل وآناء النهار، أحببت ربك فأحببت كل ما متَّ إليه بصلة قريبة أو بعيدة، أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه.

رأيناك يا ثبت الجنان ورابط الجأش! شجاعا في الحروب أخا ثقة في النائبات نجيبا، أين فرسان قريش منك؟ أين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة؟ وأين أبناء الوليد بن المغيرة؟ وأين بنو عبد شمس؟ وأين أسود بني النجار؟ وأين السيوف الصوارم؟ وأين الأسنة الشهب؟ وأين الرماح الصم؟ خضعت لبسالتك وصمودك الجبابرة، وانقادت لشدتك وصلابتك الصماصم القواطع، وآنسناك في سلمك يا سوي الفؤاد ومعافى الصدر! ودودا نصوحا، وجوادا كريما، لا يكذب فعلك قولك، ولا يباين باطنك ظاهرك، سريعا إلى الخيرات غير قطوب.

ما شهدت بطحاء مكة ولا لابتا يثرب أناسا قاربوك في البذل والعطاء، تناقلت قبائل تهامة ونجد أخبار حاتم طيء مبهورة بها، وأنت يا أندى العالمين بطون راح فتناقلت بنت حاتم وخواصه أعاجيب صلتك ومواهبك، روى الأثبات الثقات عن سفانة بنت حاتم رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلتُ، ثم ارتحلت حتى قدمت على أخيها عدي بالشام، فلما وصلت إليه أخبرته بما لقيت من رسول الله من كرم وحسن معاملة، فيقول عدي: فقلت: لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذباً لم يخْف عليَّ، وإن كان صادقاً اتبعته، فقدم عليه وأسلم.

هديك يا إمام المهديين! هُدى، وطريقك يا عَلَم المستقيمين! رشد، وسنتك يا واضح السنة! أمن ونجاة، علم التَّالُون للمحكمات أنك قرآن صامت، وإن صمتك يا ممهدا لك الصواب ويا مجنبا مواقف الزلل! بحر لا تكدره الدلاء، ما أعفَّك وأوفاك ذمة بعد ذمة، وما أوفرك بذلا للطريف والتالد.

إني حلفت يمينا غير كاذبة أن الأنام تعلموا من صمتك يا من يواتيه الكلام ويتابعه! أكثر مما تعلموا من الخطباء المصاقع، والكتَّاب المبادع، فصُلي عليك يا ابن الخليل، وبوركتَ يا حبيب رب العالمين، وبورك قبرُك الذي ضَمَّ علما وحلما وهدى ورحمة، وبوركتِ المدينة التي ثويت فيها يا أحمد المسدد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين