الشيخ محمد المهدي بن أحمد الكردي

أولا) حياته الشخصية:
 ولادته ونسبه:
 هو والدي العلامة الفقيه المحقق الشيخ محمد المهدي بن أحمد بن محمد عساف الكردي، ولد في مدينة حلب في عام /1915/م، وأمه المرأة الفاضلة التقية الصالحة الحافظة لكتاب الله تعالى السيدة الحاجة عائشة بنت محمد كرزون، وهو الوحيد لأبويه من الذكور، والمحبب إليهما، وكان له أخت شقيقة واحدة فاضلة هي عمتي فاطمة وحيدة، وقد عاش -رحمه الله تعالى- حياته كلها مع زوجته وأولاده في مدينة حلب في كنف والده وبيته في حي جب قرمان ثم في حي البياضة بعد ذلك، ولم يبتعد عنه حتى وفاته.
 تزوج -رحمه الله تعالى- في حلب من سيدة فاضلة هي والدتي أميرة بنت سامي هدى، وذلك في عام /1937/م، وأنجبت منه ثلاثة عشر ولدا، سبعة من الذكور أنا أكبرهم سنا، وستة من الإناث، وقد تزوجوا جميعا وأنجبوا حتى بلغ عدد أفرادهم مع أولادهم ما يزيد على الستين نفسا والحمد لله تعالى.
 صفاته الخَلقية والخُلقية:
 كان -رحمه الله تعالى- متوسط القامة، حنطي اللون، أسود الشعر، كوسج  اللحية، اجتماعيا بفطرته، يحب الضيوف والاجتماع بالأصدقاء، وكان مرحا، يحب النكتة ويحسن إيرادها، ويحب الخروج إلى البساتين والربا ومضارب الأعراب، وكان يصحب أصحابه وطلابه أسبوعيا إلى مثل هذه النزهات طيلة حياته، وكان شديد الذكاء، حاد الذهن، حاضر البديهة، يحسن الحساب الذهني، لطيف الحديث لا يجابه إنسانا بما يكره، وكان ودودا جدا لأصدقائه، يحفظ غيبتهم ويدافع عنهم، ولا يرضى أن يذكر إنسان أمامه بما لا يسره، وكان -رحمه الله تعالى- في لباسه متوسطا، فلا هو بالمغرق في التزين، ولا بالمتساهل فيه، وكان سريع المشية، ذا همة عالية، فلا يألوا جهدا في مساعدة من يندبه لمهمة مهما شقت، وقد شهدت بنفسي له موقفا يندر أن يقع لمثله، فقد زاره أحد أصدقائه مرة، وطلب منه قرضا، فأجابه بالموافقة، وواعده دفع المبلغ له في الغد، ولم يكن لديه هذا المبلغ في ذلك اليوم، فاقترض المبلغ من صديق آخر له، ودفعه لصديقه، دون أن يخبره بذلك، ولما كلمته في الأمر متسائلا عن ذلك، قال لي: يا بني : لم أعتد رد من قصدني في مساعدة.
 وقد كان يحب السمر في الليل إلى قرب منتصفه، وكان يسمر يوميا تقريبا مع مجموعة له من التجار وطلاب العلم في دار أولاد الشيخ وحيد حمزة في حي حمزه بك في حلب، وربما اصطحبني معه في بعض هذه الجلسات عندما كنت صغيرا، وكانت جلساتهم تملأ بالشعر والدروس الدينية وبعض المدارسات والمذاكرات في بعض أمور التجارة.
 حياته العلمية:
 تلقى -رحمه الله تعالى- أول تعليمه لدى أحد الكتَّاب في حلب، فتعلم عنده القرآن الكريم، وأصول الكتابة والقراءة، ثم انتقل إلى إحدى المدارس الابتدائية، ولما تخرج فيها انتسب إلى المدرسة الرضائية (العثمانية) في حلب، وهي أكبر مدارس حلب العلمية إذ ذاك، فدرس فيها على والده -المدرس الأول في هذه المدرسة- وباقي مدرسيها وعلمائها علوم: الفقه، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والمنطق، واللغة العربية نحوا وصرفا، وبقي فيها -على وفق نظامها- إلى أن توفاه الله تعالى، وكان بين زملائه فيها متميزا يشار إليه بالبنان، لشدة ذكائه وحبه للعلم.
 وقد استفاد كثيرا من والده في الدروس وفي الفتوى، فقد كان يجلس مع والده في غرفته في دائرة الفتوى، فيستمع إلى ما يلقى عليه من الأسئلة، ويسمع الإجابات على هذه الأسئلة، وذلك كنز فقهي كبير استفاد منه كثيرا، وكان كثيرا ما يكتب لوالده الفتاوى ويسجلها في السجلات المعدة لذلك -كما تقدمت الإشارة إليه في حياة والده-.

 أساتذته:
 أول شيوخه في حياته العلمية وأكثرهم تأثيرا فيه والده الشيخ أحمد الكردي، فقد درس عليه الفقه، وأصول الفقه، والمنطق، واللغة العربية، في المدرسة الرضائية (العثمانية)، وفي المدرسة الإسماعيلية، مع مجموعة من طلاب العلم، إلى جانب ما كان يخصه به والده من الدروس الخاصة في البيت وفي دائرة الفتوى، وما كان يندبه إليه من البحث عن نصوص معينة لوقائع معينة كانت تعرض عليه في الفتوى، وقد كان بحق ساعد والده الأيمن في الفتوى طيلة حياته، مما أكسبه خبرة علمية نادرة، وإذا ما تذكرنا شدة ذكائه وفطنته وحرصه وحبه للعلم، علمنا المستوى العلمي الرفيع الذي وصل إليه.
 إلا أنه لم يقتصر في أخذ العلم عن والده، ولكنه أخذه عن شيوخ عدة، منهم الشيخ إبراهيم الترمانيني، والشيخ جميل الصابوني، والشيخ سعيد الإدلبي، والشيخ محمد الحكيم، وغيرهم.
 أقرانه وطلابه:
 لقد كان والدي الشيخ محمد المهدي الكردي -رحمه الله تعالى- كثير الأقران والزملاء والأصدقاء في الدراسة وفي العمل، لأنه -كما تقدم- كان اجتماعيا يحب الزملاء والأصحاب، ويتمنى لو يعيش معهم يومه كله، إلا أنه مع ذلك كان له زملاء مميزون يحبهم حبا مميزا، ويقضي بينهم أكثر ساعات يومه، منهم الشيخ قدرى سنجقدار، والشيخ عمر مكناس، والشيخ عبد القادر الحمصي، والشيخ كامل منصور، والشيخ عبد الله ريحاوي، والشيخ ناجي أبو صالح، والشيخ عبد القادر الكوراني، والشيخ أحمد معوَّد، والشيخ طاهر القضيماتي، والشيخ زين العابدين الجذبة، والشيخ عبد الوهاب الجذبة، والدكتور محمد فوزي فيض الله، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وغيرهم، وكان له طلاب كثر أيضا، أخذوا عنه الفقه، واللغة العربية، وأصول الفقه، في المدرسة الإسماعيلية، وأولهم وأكثرهم استفادة منه أنا، فقد كنت أرجع إليه في الملمات والمهمات العلمية، وكان يقف إلى جانبي فيها وقفة الأخ مع أخيه، لتواضعه وحبه العميق لي، ولصغر الفارق العمري بيني وبينه، وكان كثير من الناس يظنون لذلك كله أنه أخي الأكبر، فقد كنت أصحبه في دروسه في المدرسة الإسماعيلية، وأستمع إليه بروية، وأناقشه في كل ما يورده من المعلومات، وكان يصغي إلي، ويحتمل شططي، مما أكسبني خبرة علمية مميزة، كما كنت أرجع إليه في البيت وأسأله عن كل صغيرة وكبيرة، وكان يصغي إلي أيضا، وما وجدته مرة امتعض مني أو تضايق، وهذا ما كان يغريني بالاستزادة منه، وبخاصة أثناء تحضيري لدرجة الماجستير، ثم البدء بالتحضير للدكتوراه، إلا أنه -رحمه الله تعالى- توفي قبل أن أحصل على الدكتوراه.
 المناصب والوظائف العلمية التي شغلها في حياته:
 بقي -رحمه الله تعالى- منذ انتسابه إلى المدرسة الرضائية( العثمانية) متفرغا للدراسة وطلب العلم تفرغا كاملا، على يد والده وكثير من العلماء الآخرين -كما تقدم-، وكان يساعد والده في كتابة الفتوى وتسجيلها في سجلات رسمية في كثير من الأحوال، وفي عام /1950/م -حيث عين والده رحمه الله تعالى مفتيا بعد أن كان أمينا للفتوى- عرض عليه والده أن يقترح تعيينه أمينا للفتوى مكانه، فاعتذر له عن قبول هذا المنصب، قائلا: أنا دون هذا المستوى يا والدي، فأجابه: ولكنني أعلم أنك أفضل من يشغله الآن، فأصر على اعتذاره وطلب منه اختيار غيره له، فاختار الشيخ أحمد الكردي لأمانة الفتوى طالبه الشيخ عبد الوهاب سكر، ولكن شروطا قانونية حالت يومها دون تنفيذ هذا الاقتراح، فاقترح تعيين طالبه الآخر الشيخ عمر مكناس، وتم تعيينه أمينا للفتوى، وبقي في ذلك المنصب حتى وفاته، ثم عرض الشيخ أحمد الكردي على ابنه الشيخ محمد المهدي بعد ذلك أن يقترح تعيينه كاتبا للفتوى، فوافق على ذلك، وتم تعيينه منشئا للفتوى، ومن يومها كان ينشئ الفتوى ويكتبها ويسجلها في السجلات الرسمية بخطه لوالده، ثم للمفتين بعده حتى وفاته.
 وقبل ذلك في عام /1945/م شغر مكان مدرس الفقه الحنفي في المدرسة الإسماعيلية في حلب، وأُعلن عن مسابقة للتعيين في هذه الوظيفة، فتقدم والدي الشيخ محمد المهدي الكردي لهذه المسابقة، فنجح وعين مدرسا لهذه المدرسة، وبقي في هذه الوظيفة يدرس الفقه الحنفي حتى وفاته -رحمه الله تعالى-.
 وكان -رحمه الله تعالى- إلى جانب عنايته العلمية يشرف على أراضي والده الزراعية في قريتي تلعرن وتلحاصل، فقد كان لوالده الشيخ أحمد الكردي أراض زراعية في قريتي تلعرن مسقط رأسه وقرية تلحاصل المجاورة لها، وكان فيهما كروم عنب وأراضي لزراعة الخضروات، وكان يشرف هو على هذه الأراضي ويديرها، وكان ماهرا في ذلك.
 وفاته:
 توفي - رحمه الله تعالى- في ضحوة اليوم الرابع من شباط (فبراير) من عام/1967/م في حادث سيارة بين مدينة حلب ومدينة الرقة، حيث استدعي لأداء شهادة أمام محكمة في مدينة الرقة لنصرة جماعة من الفلاحين اعتدى عليهم أحد المتنفذين، فطلبوا شهادته في أمر شاهده هو بنفسه، فقبلت المحكمة طلبهم واستدعته لأداء الشهادة، وكان اليوم شديد البرودة وكثير الثلوج، فانزلقت السيارة التي كان يستقلها وانقلبت، فتوفي هو ومن بجانبه، بعد أن نقل إلى المستشفى، فعد لذلك رسميا شهيدا، لوفاته بحادث أثناء قيامه بواجب كلف به رسميا، وقد كنت أنا يومها في القاهرة أتابع التحضير للدكتوراه فيها، فاستدعيت فحضرت، ولكن بعد ما تم تشييعه ودفنه.
 وقد دفن -رحمه الله تعالى- في مقبرة (كرز داده) في حي قاضي عسكر في مدينة حلب، إلى جانب قبر والده الشيخ أحمد الكردي، وقد شارك في تشييعه عامة علماء حلب وطلاب العلم فيها وكثير من أهالي حلب من أقاربه ومحبيه، وعامة أهالي قريتي تلعرن وتل حاصل، وقد ناهز عدد مشيعيه خمسة آلاف مشيع، وقد ألقى العديد من الأصدقاء على قبره كلمات ذكروا فيها علمه وأخلاقه وتدينه وشهامته ومكارم صفاته، وقد نظم أحد أصدقائه وهو الشيخ عبد الغفور السرميني بعض أبيات من الشعر ضمنها تاريخ وفاته، وطلب كتابتها على قبره، فكتب منها على شاهدة القبر:
 هنا ثوت الأخلاق والدين والندى  وبات سليل العلم فردا موسدا
 فيا حسرة الدنيا به ومصابهــا  فأظلم جو الأرض فيه وأربدا
 فيا دمعي الهطال فلتبك ماجـدا  ويا قلبي الخفاق فلترث سيدا
 وقال جريح القلب أرخ بذلــة  بمحمد يارب ارحم محمــدا
 وكتب على جنبي القبر الأبيات التالية:
 فجع العلم فيا عين اسكبي  دمعك الغالي ويا شمس اغربي
 وهوى عرش على أركانه  بعد أن كان مثار العجـــب
 أسه الدين تقيا صافيــا  وأعاليه لبــــــاب الأدب
 من كريم لكريم أصلــه  وكذا أصل هداة العــــرب
1386هـ     1967م
 فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عنا جميعا أسرته وأصحابه خير الجزاء، إنه سميع مجيب.
 وقد كتب على شاهدة قبر جدتي أم والدي عائشة كرزون الأبيات التالية:
 أيها السارح في غفلتــه  لم تكن سهم المنايا طائشـة
 هذه الدنيا سراب كـاذب  ويد الأقدار فيها طائشــة
 قلت والدمع سجام أرخو  بين حور العين ملقى عائشة
1370هـ
 وكتب على جنبي القبر:
 قل لمن قد غره حب الدنا  هاهنا الدنيا ثوت في حفرتي
 كنت في الدنيا نقاء وتقى  مثله الطل ثوى في الزهـرة
9/شوال/1422هـ  و  23/12/2001م
كتب الترجمة ابنه
أ.د.أحمد الحجي الكردي