الشيخ علي هيكل وتجارة الصدق

 

هذا حديثٌ إذاعيٌّ لشيخنا الزرقا أذاعه في 15 رمضان 1369 تكلم فيه عن تاجر صدوق أمين من تجار حلب اسمه علي هيكل رحمه الله ، وهذا الحديث الإذاعي وغيره من عشرات المقالات والمحاضرات  سينشر في الكتاب الذي قاربت على الانتهاء من تصحيحه و جمعت فيه محاضرات ومقالات الزرقا ، والشكر موصول للأخ الكريم طارق عبد الحميد قباوة الذي يقوم على طباعة هذه المقالات المكتوبة في مسودات ، ويتعب نفسه في فك رموزها وصفها . أرجو ممن يطلع على هذا المقال أن يرشدني إلى ترجمة هذا العبد الصالح والتاجر الصادق علي هيكل الحلبي رحمه الله تعالى وأدعكم الآن مع المقال :

الشيخ علي هيكل وتجارة الصدق

صورة من صور التجارة التقية:
لا تزال تعاودني منذ صباي بين الحين والحين، وفي كثير من المناسبات في الخلوات والجلوات صورة من صور التجارة التقية والأمانة النقية لم أدرك صاحبها فقد عاش قبل تسعين عاماً في عالم التجارة من مدينة حلب، وكان شيخاً كبيراً منذ أن كان جدي شاباً ناشئاً.
ولكن تلك الصورة نُقشت في قرارة نفسي بما سمعته من الحديث المتسلسل عنها من أبي عن جدي رحمهما الله تعالى.
ولعل إخلاص صاحبها هو الذي يبعث هذه الذكرى الصالحة لقصته وينفخ بالإذاعة روح الحياة في اسمه بعد أن أصبح نسياً منسياً.
الأسواق المركزية يوم الجمعة:
كان يوم الجمعة في حلب يوماً موسمياً في الأسواق المركزية التي يطلق عليها اسم (المدينة)، فقد كانت المدينة أي تلك الأسواق المركزية الكبرى في حلب تعجُّ عجيجاً يوم الجمعة بالناس، ومنهم صغار الباعة الذين لهم دكاكين في الأسواق الفرعية وفي المحلات المتطرفة من البلد.
ففي يوم الجمعة إذ ذاك ترى المتاجر الكبرى لكبار التجار من سائر الأصناف تستقبل وتودع أفواج أولئك الباعة الصغار المتفرقين في البلد، يقفلون حوانيتهم بعد صلاة الجمعة، ويتوجه كلٌّ منهم إلى المدينة نحو السوق المركزية، التي فيها تجار الجملة للصنف الذي يريده فيشتري ما يموّن به دكانه طيلة الأسبوع
شيخٌ وقور في سوق العطارين:
وكانت سوق العطارين كالبُزورية في دمشق هي السوق المركزية التي تموِّن البلد كله بسائر ما يدخل في اختصاص العطارة من الأبزار والأفاويه والسكاكر والصابون والعقاقير والعطور وما إليها.
وكان في سوق العطارين هذه شيخ وقور يطفح وجهه بالبِشْر والنور، إذا نظرتَ إليه شعرت في نفسك كما يصفه جدي رحمه الله تعالى: أنك أمام صورة مما تسمع عن السلف الصالح تخلفت إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
فترى صغار العطَّارين يوم الجمعة صفوفاً أمام حانوته، ينتظر المتأخر منهم فراغ مكان الذي أمامه ليحتل محله ويأتيه الدور. وفي يد كل من هؤلاء قائمة فيها ما ينقص دكانه من بضاعة العطارة، جاء ليستكملها ويتموَّن بما يكفيه أسبوعاً على الأقل.
فإذا قَرُبَ وقت أذان العصر وطاف المنادي في السوق مذكّراً بالصلاة إذا بذلك الشيخ يصرف من أمامه الباعة المتسوقين فجأة فلا يمكن أن يمسك عندئذ قائمة للتعبئة أو يشتغل له ميزان، أو يلتفت إلى مبايعة مهما كان ربحها وعَظُم شأنها، فيرد الشبك على حانوته، ويبادر إلى الجامع الأموي الكبير بجانب السوق، فإذا قُضيت الصلاة عاد إلى حانوته وعاد الزحام عليه حتى يحين الغروب.
سبب ثقة الناس بالشيخ علي هيكل:
كان ذلك الشيخ التاجر الصالح يدعى بالشيخ علي هيكل. ومعظم العطارين المتفرقين بحلب قلما يتسوَّق أحدهم شيئاً لدكانه من عند غيره إلا إذا لم يكن موجوداً مطلوبه عند الشيخ علي.
فما الذي ألقى على الشيخ علي هذه الثقة، وأضفى عليه هذا الرواج، وساق إليه معظم المتسوقين يفرغون في يديه أكياسهم المحشوة بالدنانير، ويملؤون جعابهم من بضاعته؟!.
مثال التاجر الصدوق:
لقد كان الشيخ علي هيكل مثالاً لتجارة الصدق والتاجر الصدوق: كان يقنع بأدنى ربح معقول، ولا يحتكر صنفاً مفقوداً ليُغلي سعره، وإذا غلا سعرُ شيء مما عنده يثابر على بيعه لزبائنه الراتبين بالسعر السابق، حتى ينفد من عنده ويشتري غيره بأغلى فيبيع بأغلى.
وكان لا يكتم عيباً في بضاعة، ولا يطعن في بضائع غيره من جيرانه، ولا يُعمِّي في صفة ولا يدلّس، ولا يستسنح غفلة المشتري أو جهله بالسعر ليتصيده، بل هو الذي ينبه مشتريه إلى ما يغفل عنه من أحوال البضاعة التي يريدها وأسعارها.
وكثيراً ما كان يطلب منه الشيء وهو موجود عنده، فيقول للطالب: يا بني إن فلاناً من تجار هذا الصنف عنده صنف أجود ممَّا عندي فانظره.
جاء جدي مرة في صباه قبل انصرافه إلى طلب العلم ليشتري من عنده شيئاً، فقال له: يا بني، إن فلاناً الفلاني قد أتته بضاعة جديدة من هذا الصنف، كلَّفته أقل مما كلفتني، فلعلك تجد عنده سعراً أرخص، فراجعهُ قبل أن تأخذ من عندي.
وهكذا كان الشيخ علي ينظر في مبايعاته إلى مصلحة المشتري قبل مصلحة نفسه، ويُرشده إلى الأجود والأرخص عند غيره، فيحبه زملاؤه في الصنعة وزبائنه فيها معاً، ويجلونه ويحترمونه.
ويرى أن التجارة والعمل تسخير لصاحبهما في تسهيل حوائج الناس، وتيسير مصالحهم، لا شباكة لاصطياد الغافلين والمحتاجين، وبذلك يصبح عمل الإنسان في مكسبه عبادةُ في نظر الإسلام.
شعار الشيخ علي هيكل:
وشعار الشيخ علي ثلاث لوحات يزيِّن بها أركان قلبه لا جدران دكانه: قد كتب في إحداها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء) ، وفي الثانية: (الرزق على الله)، وفي الثالثة: (القناعة كنز لا يفنى.(
وبذلك ألقى جميع صغار التجار من أهل هذه الحرفة مقاليد ثقتهم إلى الشيخ علي هيكل واحترمه كبارها، واعتمدوا عليه، وكان كل من يعرفه في التعامل يثق أنه لو أغمض عينيه في معاملته فلن يكون إلا منصوحاً غير مغشوش في جنس ولا سعر، وكان الشيخ علي بهذه الثقة التي لبس ثوبها أميناً، واتخذ عواملها ديناً، يبيع ويربح بمفرده أضعافاً لا تبلغها أرباح جماعة من جيرانه بمجموعهم، وهو لا يزداد بذلك إلا قناعة وصدقاً وتحرياً للأمانة وبعداً عن الشبهات.
هذه خلاصة سيرة تجارية، نرى فيها قصة الصدق والأمانة حقيقة واقعة، لا رواية قديمة عن الأسلاف في عصر النبوة وما قرب منه، بل في عصر قريب سبق عصرنا هذا، تبين لنا ثمرة تطبيق قواعد الصدق والأمانة في الحياة العملية وأثرهما في النجاح، قد رأيت فيها صورة التجارة كما رسمتها الشريعة لا الشراهة، وصورة الأمانة كما اقتضتها الديانة لا الدعاية، فحفرت في صفحات نفسي أثراً ينطق وينادي بي دائماً: أن الفضيلة والأمانة لا تنقطعان، ولكنهما تحتاج حياتهما إلى غذاء روحي، يمده الدين الصحيح بتوجيهه، ويجعل النظر للآخرة أساساً للحياة الدنيا.
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جعل اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ).
طغيان المادية وقلة الأمانة:
أذكر هذا بمناسبة ما يشكو منه في هذا الزمن كل واحد من طغيان المادية والاستباحة، وقلة الأمانة وانتشار الغش في البضائع والأعمال، فكأنما الأسواق شباك لصيد المطمئنين الغافلين، والأيْمَان الكاذبة عبارات مطبوعة توزعها الألسنة على الآذان لتخدير الأفكار. فكثير من الباعة أخطر من سارق، وقليل من العاملين من يتقن عملاً يستأجر عليه، بل يجد أن المهارة هي في أن يعمل عملاً فاسداً في مظهرٍ سليمٍ، ويفتش على صيد آخر يضحك عليه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد المتقن عمله) ، وقال: (إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه).
تفشِّي الغش:
حدثني البارحة صديق لي أنه اشترى من مكان علبة بأربع ليرات ونصف، ثم احتاج إلى غيرها وهو في مكان آخر فاستامها عند بائع ثان فطلب منه تسع ليرات، فلما أفهمه أنه يعرف سعرها الحقيقي أظهر له استعداده لبيعها بخمس ليرات.
فالغشُّ قد تفشَّى في كل شيء، وهذا مفسد لسمعة التجارة الداخلية والخارجية.
وقد صادف أن رفضت من بلدان لنا محاصيل مصدرة إلى خارج البلاد لأنها مغشوشة بأصناف رديئة.
فالأمانة و الصدق أساسُ الثقة، والاطمئنان في حركة المعاملات، ولو فكر الغشاشون لعلموا أن ما يفوتهم بظهور غشهم أعظم من الربح العاجل غير المشروع، وأن ما يحصدونه بالصدق متى عُرفوا به ووثق بهم المتعاملون هو الربح الحقيقي الدائم، لو كانوا يعلمون وينظرون إلى المستقبل.
وقد مر النبي عليه السلام برجل يبيع طعاماً أي قمحاً، فضرب فيه يده، فوجد باطنه مبتلاً، فقال له:(ما هذا)؟ قال أصابته سماء - أي : مطر- يا رسول الله قال: (فهلا جعلته في أعلاه ليُرى: من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين