بقلم: عبد الله الطنطاوي
تمهيد :
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) منهم ، فيما أحسب ، ولا أزكى على الله أحداً ، العالم الرباني ، والشيخ التقي النقي الداعي الله على بصيرة ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، علامة الشام وواعظها وباعث نهضتها العلمية في النصف الأول من القرن الماضي ، الشيخ علي الدقر ، والد الشيخين العالمين الجليلين : أحمد وعبد الغنى الدقر ، رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.
نشأته :
ولد الشيخ علي في دمشق عام 1294هـ - 1877م لأب تاجر صالح محسن ، ومن أسرة دمشقية عريقة ، ولأم صالحة محسنة ، تنفق من مالها ، كما ينفق زوجها التاجر الثري عبد الغني الدقر من ماله الكثير.
وقد ورث الشيخ علي من أبيه خصلتي الصلاح والكرم ، فقد كان الولد سر أبيه في هاتين الخصلتين اللتين سارت الأحاديث بهما فملأت ديار الشام ، فقد كانت له مزرعتان في المزة وداريا ، يؤمهما الفقراء والمحتاجون ، ليأخذ كل واحد منهم ما يحتاجه منهما ، من دون استئذان ، فقد أذن الشيخ مسبقاً لمن يريد أن يأخذ منهما ما يريد ، كما كانوا وطلبة العلم الفقراء يزورونه في بيته ، وكانوا عندما يخرجون ، يأخذون حاجتهم من أكياس الحنطة ، والدقيق ، والسكر ، والزبيب ، والعدس ، والأرز ، والشاي ، ومن السمن ، والزيت ، وعندما يمد الموائد يفرح بازدحام المساكين عليها.
وكان لا يدخل إلى جيبه شيئاً من المعاش ، الراتب ، الذي يأتيه من الأوقاف ، ولا يخلطه بماله ، بل كان ينفقه على طلابه الفقراء بأريحية تذكرنا بأجواد العرب في بوادي العرب ، وكانت أيام الحرب الكونية الأولى وما تلاها من سنين عجاف أشبه بتلك البوادي القاحلة ، وكان فيها الجواد.
صفته :
وصفه الشيخ علي الطنطاوي الذي رآه وتتلمذ عليه ، وأعجب به ، بقوله : (وكان الشيخ علي الدقر – كالشيخ بدر الدين الحسنى – جميل الصورة ، ناصع البياض، أزرق العينين ، حلو التقاسيم ، له لحية بيضاء كبيرة تزيده جمالاً ، وكان كلاهما يتخذ العمامة التجارية من القماش الهندي المطرز ، لا العمامة البيضاء ، عمامة العلماء) وهذه العمامة يسمونها في الشام : ( لفة لام - ألف) وهي التي كان يتخذها ولداه من بعده : أحمد وعبد الغني ، مع أنها عمامة التجار ، وليست عمامة العلماء البيضاء التي يلف شاشها الأبيض ، على طربوش أحمر.
تعليمه :
كدأب الناس في زمانه (القرن الرابع عشر الهجري) تعلم في (الكتاب) القراءة والكتابة وشيئاً يسيراً من القرآن الكريم ، ثم انتقل إلى مدرسة الشيخ عيدالسفر جلاني ، وأمضى فيها بضع سنين ، أفاد منها شيئاً من علوم اللغة العربية ، وعلوم الدين ، ثم لازم الشيخ محمد القاسمي ، وقرأ عليه من علوم العربية والدين ما أهله لتدريس شيء من علم النحو ومن الفقه الشافعي ، وشيخه سعيد بما يراه من نجابته وعلمه وورعه.
وصحب المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني ، وكان من أحب تلاميذه إليه ، وأقربهم منه ، وقرأ عليه الكتب الخمسة ، كما قرأ على غيره من علماء الشام كالشيخ آمين سويد ، ما جعله عالماً فقيهاً يشار إليه بالبنان.
وعظه :
وقد جمع الشيخ بين العلم والعمل ، فكان نشاطه الدعوي مشهوداً حيثما حل وارتحل ، في مساجد دمشق وغيرها من المدن والقرى والسورية ، وكان له تأثير كبير فيمن يلقاه من الناس ، فازدحم على دروسه العلمية والوعظية كبار تجار دمشق وصالحوها ، وكان يدعوهم إلى التعاون والتحابب والإيثار ، ويحرم عليهم وينهاهم عن الغش والاحتكار ، ويرسخ قواعد التعامل بينهم في سائر علاقاتهم الأسرية والاجتماعية والتجارية ، ويحضهم على التمسك بتعاليم الإسلام العظيم كل ذلك بأسلوب فريد من نوعه ، وصفه الشيخ علي الطنطاوي بقوله: (الرجل الذي هز دمشق ، من أربعين سنة ، هزة لم تعرف مثلها من مائتي سنة ، وصرخ في أرجائها صرخة الإيمان ، فتجاوبت أصداؤها في أقطار الشام ، واستجاب لها الناس ، يعودون إلى دين الله أفواجاً ، يبتدرون المساجد ، ويستبقون إلى حلقاتها).
وهو علامة الشام ، بل هو في الشام علم الأعلام ، أعطي من التوفيق في العمل ، والعمق في الأثر ، ما لم يعط مثله الشيخ بدر الدين ولا غيره من مشايخ الشام في تلك الأيام.
كان المسجد الذي يدرس فيه الشيخ علي الدقر ، (يمتلئ كله ، ويقف الناس على أبوابه وأمام نوافذه ، ولم يكن في الدرس علم غزير ، ولكن كان فيه شيء لا يجده سامعه عند ذوي العلم الغزير. فيه الموعظة التي تخرج من القلب ، لتقع في القلب، فتحرك فيه خامد الشعور ، وتثير فيه كامن الإيمان ، فيه ما يملأ بالدموع المآقي ، ويبكي من الخشوع العيون ، فيه ما يقيم ويقعد ، ويلين أفئدة كانت أشد من الصخر ، ويستخلص من أيدي الشيطان نفوساً كان قد تملكها وتحكم فيها الشيطان. فيه ما يشعره حاضره أنه انتقل من هذه الدنيا ، إلى مجالس الجنان.
فيه ما لا أستطيع أن أعرف القارئين به ، لأنه شيء يرى ولا يوصف ، ويذاق ولا يعرف ، وكان الشيخ يسأل : من أين يأتي بهذا الكلام الذي يلقيه على الناس ؟ ومن أي كتاب ينقله ؟ فما كان يجيب ، ولو أجاب لقال : (إنه ينقله من الصلاة في ظلمات الليالي ، ومن المناجاة في هدآت الأسحار ، ومن حلاوة الإيمان التي يذوقها في ساعات الخلوة بالله ، والتوجه إليه ، والقيام بين يديه)
(إنه، إن وعظ لم يأت بألفاظ حلوة تقرع الأذن ، ثم لا تتجاوزها ، بل بمعان تصل إلى القلوب ، قبل أن تصل الألفاظ إلى الأذان)
عندما يقرر الدرس ، ما كان يقتصر على عبارة الكتاب الذي يدرسه ، بل كان ينطلق لسانه بكلمات ترقق القلوب ، وتذكر بالآخرة ، كان فيها روعة من التذكير ، وشدة التأثير ، ما ليس له نظير.
كان يخشع هو ، فيخشع السامعون ، ويبكي فيبكون.
وكان يرى إقبال الناس عليه فيعجب ويتساءل : نحن نحن ، ما تبدل فينا شيء فما الداعي لهذا الإقبال والازدحام ؟
ويعجب تلاميذه وإخوانه من كلامه هذا ، ولسان حالهم يقول : إنه الإخلاص.. إنه الورع والتقوى.. إنه صفاء القلوب والعقل والنفس.. إنه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، الذي ملك عليه أقطار قلبه وعقله .. إنه الخشية التي جعلتك تقول : إن كل علم لا يورث خشية ، لا يزيد صاحبه إلا بعدا من الله تعالى ، فوازنت بين العلم والعمل ، وكنت مخبتاً لله ، زاهداً ، متقشفاً ، وقد أورثك هذا وسواه ، إقبال الناس عليك ، وازدحامهم على دروسك ، وتأثرهم بمواعظك ، وامتثالهم لأوامرك ، وتعليماتك المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ، البعيدة عن الهوى ، العاملة على سرد الخرافات والبدع من حياة المبتدعين وأتباعهم الجهلة ، حتى لا يفسدوا على الناس دينهم وعقيدتهم.
النهضة العلمية :
أستطيع أن أؤكد أن الشيخ علي الدقر هو صاحب أضخم نهضة علمية في بلاد الشام في القرن الرابع عشر الهجري ، العشرين الميلادي.
وسبب هذه النهضة التي دعيت بنهضة العلماء ، أن الشيخ علياً كان محباً للعلم ، شغوفاً به شغفاً جعل أباه التاجر الكبير يأسى لحاله ، ويشكو إلى بقال صديق ما قد يؤول إليه مصير ولده علي الذي ترك التجارة ، ولحق المشايخ ودروسهم في المساجد ، وترك المال والعز والجاه الذي يرتع هو وأولاده الآخرون في نعيمه ، فيما الشيخ علي زاهد في كل ذلك ، مقبل على طلب العلم ، والجلوس بين أيدي المشايخ.
وشاء الله أن يمتد العمر بذلك البقال ، ليرى ما وصل إليه الشيخ علي من العز ، وهو يراه من دكانه ، وقد حف به أصحاب العمائم ، فيتذكر شكوى أبيه الحاج عبد الغنى ، وخوفه الفقر والعوز على ولده ، يتذكر هذا فيهتف بأعلى صوته: (أين أنت يا أبا صادق ، لترى العز الحقيقي لابنك الشيخ علي)
وثمة سبب آخر ، وهو ما كان عليه التعليم الرسمي من بعد عن الله وعن تعاليم الإسلام ومبادئ الأخلاق ، وتأثر بالغرب وعلومه.
فكر الشيخ علي ملياً فيما يعمل ، واستخار الله تعالى ، ثم هداه تفكيره إلى البديل عن تلك المدارس ذات المناهج العلمانية ، والبديل في إنشاء مدارس ومعاهد شرعية ، تعلم العقيدة ، وأحكام الإسلام ، والعلوم الشرعية ، والعلوم العربية التي هي مفتاح العلوم الشرعية .
ولا بد لإنشاء المدارس والمعاهد من أموال ، ورجال ، ونظام ، وهذا يتطلب إنشاء جمعية ، فقرر ، بالتعاون مع التجار الذين يحبونه ، ويثقون به ، وبصلاحه ، وبسداد رأيه ، وبتوفيق الله إياه لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها ، وبالتعاون مع بعض العلماء أيضاً ، كالشيخ هاشم الخطيب ، وبمباركة محدث الشام الشيخ بدر الدين الحسنى قرر إنشاء (الجمعية الغراء لتعليم أولاد الفقراء) ثم انطلق يحشد الطلاب لدارسة العلم الشرعي من أولاد الفقراء في حوران ، والأردن ، وبعض المدن والقرى السورية.
الجمعية الغراء :
كان لهذه الجمعية التي تأسست عام 1343هـ - 1924م آثار في النهضة العلمية في بلاد الشام ، وقبل أن تتخذ لها مقراً تجتمع فيه إدارتها ، ويرتاده الناس ، أنشأت مدرسة في بناء المدرسة السميساطية لطلاب المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية ، وصار مقر إدارة المدرسة مقراً لإدارة الجمعية ، وانطلق تلاميذ الشيخ علي إلى قرى حوران ، يأخذون من كل قرية واحداً أو أكثر من أبنائها الذين يتوسمون فيهم الذكاء والنجابة ، حتى كثر الطلاب من الجنسين ، وضاقت بهم المدرسة السميساطية ، فبادرت الجمعية إلى اعتماد مراكز للتدريس في جامع العداس ، والتكية السليمانية ، والمدرسة الخيضرية ، والمدرسة السباهية ، وقد توزعت على عدد من أحياء دمشق القديمة ، من الباب الشمالي للجامع الأموي ، إلى باب الجابية ، إلى سواهما.
( وفي سنة 1353هـ تقريباً – أواخر أيام الانتداب الفرنسي – استولت الجمعية على جامع تنكز بشارع النصر ، فصار مقراً لها ، وفيه أسست ثانوية شرعية سميت معهد العلوم الشرعية الإسلامية تكفلت الجمعية لطلابها بالطعام ، والكساء ، والمبيت وقامت بتعليم الفقراء مجاناً ، واهتمت بتعليم علوم الدين ، والدنيا ، والتوجيه الخلقي العام.
وكان يتبع لها من المدارس الابتدائية التي أنشأتها :
1- مدرسة سعادة الأبناء للذكور ، فيها مئات الطلاب.
2- مدرسة وقاية الأبناء للذكور ، فيها مئات الطلاب.
3- مدرسة هداية الأبناء للذكور، فيها مئات التلاميذ.
4- مدرسة روضة الحياء للإناث ، فيها مئات التلاميذات.
5- مدرسة زهرة الحياء ، للإناث ، فيها أكثر من مئة تلميذة.
كما أسست من المدارس الثانوية ست مدارس ومعاهد للذكور والإناث منها :
1- معهد العلوم الشرعية للذكور ، فيه مئات الطلاب.
2- ثانوية السعادة للذكور، فيها مئات الطلاب.
3- معهد العلوم الشرعية للإناث ، فيها مئات الطالبات.
قال الشيح الطنطاوي في ذكرياته 1/168 : ( لقد أثمرت – الجمعية الغراء – خيراً كثيراً ، وخرجت علماء ودعاة وأحيا بها الله أرض حوران والبلقاء – الأردن). بل خرجت مئات الدعاة والعلماء والخطباء ، والأدباء ، والوعاظ ، والمعلمين ، والمدرسين ، وأساتذة الجامعات ، والمفكرين ، أذكر منهم بعض العلماء الذين علمونا في معهد العلوم الشرعية وكانوا من فطاحل العلماء الذين سعدت بهم في دمشق :
1- الشيخ حسن حبنكة (العلامة المجاهد المربي)
2- الشيخ عبد الوهاب الحافظ (دبس وزيت) (مفتي الأحناف بدمشق).
3- الشيخ نايف عباس (علامة التاريخ والفرائض)
4- الشيخ أحمد الدقر (مدير المعهد)
5- الشيخ عبد الغني الدقر (الأديب النحوي ، الفقيه ، المحدث)
6- الشيخ عبدالكريم الرفاعي (العالم الرباني)
7- الشيخ أحمد منصور المقداد (الشافعي الصغير).
8- الأستاذ محمد الدقر (محام وقاض).
9- الشيخ خالد الجباري (سيبويه الصغير)
10- الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق (الخطيب المفوه)
11- الدكتور الشيخ محمد أديب الصالح.
12- الشيخ عبدالرحمن الزعبي (الطيبي) - المفسر والمحدث.
13- الدكتور محمد خير عرقسوسي.
14- الشيخ عز الدين الحايك.
15- الشيخ عبدالوهاب الصلاحي.
16- الشيخ محمد كامل الخطيب.
17- الشيخ محمد السيد.
18- الشيخ عبد الله الراشدي.
19- الشيخ محمد علي المصري.
20- الشيخ عبدالرحمن بركات.
21- الدكتور فتحي النحلاوي طبيب المعهد.
وأما مئات العلماء الذين تخرجوا في معاهد الجمعية الغراء ، فأكثر من أن يحصوا ، وهم منتشرون في المدن والأرياف السورية والأردنية والفلسطينية والتركية واللبنانية ، وتخرجوا في معاهد الجمعية الغراء ومدارسها ، وملأوا الآفاق ، منذ أوائل القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا.
وقد شاركت الجمعية الغراء في الحياة الاجتماعية والسياسية والجهادية ، وكان مقرها يغص برجال السياسة وعلماء الدين ووجهاء دمشق وكانت قوائم المرشحين للانتخابات النيابية يتفق عليها فيها ، وقد حققت نجاحات باهرة في الحياة العامة والعلمية خاصة ، فأثارت نجاحاتها حسد الحاسدين ، وتآمر العلمانيين، ومن يسير في ركابهم من أدعياء التدين والدين فاتهموها باستغلال الدين من أجل مصالح سياسية ومالية ، واتهموا مؤسسها بما ليس فيه ولا في تلاميذه ومريديه ، وأظهروا أشياء وأبطنوا أشياء ، وكان الله لهم بالمرصاد ، ففضح ما بيتوا وتأمروا ، وبرأ الرجل الصالح ، والعالم الرباني الشيخ علي الذي كان ينفق من حر ماله ، وينأى بنفسه عن المناصب والأضواء ، فقد كان أزهد الناس بها إلى أن وافاه الأجل عام 1332هـ - 1934م ، وكذلك استمرت جمعيته تسير على خطاه ، حرباً على الفساد والمفسدين ، وحرباً على البدع والخرافات والمبتدعين ، وتصدياً لمدارس التبشير والتنصير التي وفدت مع الجيش الفرنسي المحتل ، وحرباً على التعصب المذهبي.
لقد أسسها الشيخ علي وأرسى دعائمها على أسس قويمة من الإسلام الصحيح ، من أجل النهوض بالعلم الشرعي ونشر الدين الحنيف كما جاء في الكتاب والسنة ، وكان له ما أراد ، بفضل الله المطلع على نية الرجل الصالح ، وعلى إخلاصه وتقواه وورعه.
بقي أن نعرف ونتأمل هذه الحادثة :
قلنا : إن الجمعية الغراء تأسست عام 1343هـ - 1924م ولم يكن لها مقر معروف ، سوى ذلك الذي اتخذته مقراً في أول مدرسة أسستها ، وبقي الأمر هكذا إلى أن جاءت سنة 1353هـ فاستولت الجمعية على مدرسة جامع تنكز في شارع النصر ، قلب دمشق ، فصارت مقراً لها ، وأسست في رحاب المسجد وبنت معهد العلوم الشريعة الذي تخرج فيه عدد كبير من العلماء ، وثانوية السعادة.
كانت هذه المدرسة (مدرسة صف الضباط) مدرسة عسكرية يشغلها الفرنسيون المحتلون ، فتحينت الجمعية فرصة غياب الطلاب (ضباط الصف) في رحلة خارج المدينة ، وأوعزت إلى طلابها أن يحتلوها ، ووضعت لهم خطة محكمة يجري تنفيذها بعد صلاة العشاء فجمع الطلاب حوائجهم وكتبهم ، واقتحموا المدرسة ، واحتلوها ووضعوا المسؤولين من الفرنسيين المحتلين تحت الأمر الواقع.
المجاهد :
أكثر الذين أرخو للكفاح الدامي ، والثورات المتلاحقة لتحرير سورية من الاستعمار الفرنسي (1946 – 1920) أغفلوا دور علماء الدين والمشايخ وطلاب العلم الشرعي في تلك الثورات ، والحقيقة أن الدور الأكبر كان للعلماء وتلاميذهم ومريديهم في تحميس الناس ، وحضهم على الجهاد بالأنفس والأموال ، والخروج على المحتلين المستعمرين ومقاومتهم في ميسلون ، والغوطة ، وحمص وحماة وحلب وجبل صهيون وسواها.
ولنستمع الآن إلى ما كتبه الشيخ علي الطنطاوي (رجال من التاريخ) عن دور المشايخ عامة ، والشيخ بدر والشيخ علي الدقر خاصة قال : (وأنا أحب أن أعرض صفحة مطوية من تاريخ الشيخ بدر الدين ، هي رحلته في سنة 1924 مع الشيخ علي الدقر ، والشيخ هاشم الخطيب ، من دمشق إلى دوما ، إلى النبك ، إلى حمص ، إلى حماة حلب ، هذه المرحلة التي طافوا فيها بلاد الشام (سورية) كلها ، وكانوا كلما وصلوا بلدة أو قرية خرج أهلها على بكرة أبيهم ، لاستقبالهم بالأهازيج والمواكب ، ثم ساروا وراءهم إلى المسجد ، فتكلموا فيه ووعظوا وحمسوا ، وأثاروا العزة الإسلامية في النفوس ، وذكروا بالمجد الغابر ، وحثوا على الجهاد لإعلاء كلمة الله ، فكانت هذه الرحلة هي العامل الأول والمباشر لقيام الثورة السورية التي امتدت سنتين ، وأذهلت ببطولتها أهل الأرض.
والثورة قد قامت في الغوطة – غوطة دمشق – قبل أن تقوم في الجبل – جبل الدروز – وقد بدأت بخروج طلبة العلم ، بدافع الجهاد. كانت تلك الجولة في المدن السورية ، هي الشرارة التي أشعلت الثورة ، كما جاء في تقرير رسمي لمندوب المفوض السامي الفرنسي ، نشرته جريدة (الأحرار) في بيروت ، في العدد 678 الصادر في الثاني من شهر شعبان 1354هـ . وقد بدأت الثورة في الغوطة عقب دعوة عودة المشايخ من حلب ، فقد خطب الشيخ علي الدقر في مسجده (مسجد السنانية) بدمشق ، وكان ممن قال : (يا إخواننا : اللص دخل الدار ، وهو يطلب منكم ثلاثة أشياء : دينكم ، ومالكم ، وعرضكم). ولما سئل الشيخ : من هو هذا اللص يا شيخنا)؟ أجاب : إنه فرنسا .
وعرف الفرنسيون المستعمرون دور الشيخ علي الدقر وتلاميذه في اندلاع الثورة فأحرقوا مقر الجمعية الغراء ، وجامع تنكز معاً ، قبيل جلائهم عن سورية انتقاماً وإجراماً ، ولكن الجمعية أعادت بناء مقرها ، مع معهد العلوم الشرعية ، وثانوية السعادة التابعين لها ، على طراز حديث ، وجمعت في هذه المعهد سائر طلابها الشرعيين ، كما عملت على إعادة بناء جامع تنكز بناء حديثاً جميلاً.
رحم الله الشيخ علي الدقر ، فقد كان منارة علم ، وفضل ، وكرم ، كما كان عالماً عاملاً بما علم ، ساعياً إلى نشر العلم الشرعي الذي يورث الخشية من الله ، فيبني الرجال ، ويدفعهم إلى الجهاد في سائر ميادين الحياة لينشروا نور الإسلام ، وتعاليمه الخالدة ، وأخلاقه الكفيلة ببناء المجتمعات على أسس سليمة ، وتنفي منها الخبث والدنس.
لقد كان الشيخ علي شيخ شيوخ الشام ، وعلم أعلامها الكبار ، ولئن ندر الكاتبون عنه ، فلم تتجاوز شهرته بلاد الشام إلا قليلاً ، فإنه لفي مقام كريم في قلوب العلماء الصالحين ، ونحسبه عند الله مع المجاهدين ، والعلماء والعاملين ، وحسن أولئك رفيقاً.
المرجع : مجلة المنار، العدد 69 ، ربيع الثاني 1424هـ
التعليقات
من طلاب الشيخ علي الدقر والدي الشيخ محمد سعيد الكردي أحد علماء السنة (1307هـ-1980م) والشيخ محمد الصمادي، مفتي جرش،والشيخ سليمان المصري، والشيخ بركات الحريري مفتي اربد، والشيخ سليمان الطيبي والشيخ علي السلمان القضاه والد مفتي الاردن الشيخ نوح والسيخ يوسف العتوم وهم من نشروا العلم شرقي الاردن . قصدالجمعية الغراء، فانتظم في حلقات الشيخ صاحب النهضة العلمية في جامع تنكز بدمشق، فنهل منه العلوم الشرعية المتنوعة، فمنحه إجازة في التدريس والخطابة، فأرسله الدّقر ليكون إماما وخطيـبا في قرية دوما، ثم في الهيجانية، ثم في قريــة داعل في حـوران ومن ثم أمره بالعودة إلى الأردن ليكون أحد علمائها الذين يشار إليهم بالبنان. والجمعية الغراء بمدارسها، كانت تسير على المناهج التي رسمها الشيخ علي الدقر، فتأثروا بحال الشيخ والتقى بكثيـر من علماء الشـام كالشيخ بدر الديــن الحسني محدث الديار الشامية ومفجر الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي
يرجى تسجيل الدخول