الشهيد الذي لم يجدوا له كفناً يكفيه

 

روى الشيخان في صحيحيهما بسندهما عن خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: (هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريدُ وجهَ الله، فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عُمير قُتل يوم أحد، وترك نَمِرة فإذا غطَّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطَّينا رِجْليه بدا رأسُه فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطِّي رأسَه ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها).

تخريج الحديث:

رواه البخاري في مواضعَ عِدَّة من كتابه: كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفناً إلا ما يُواري رأسَه، أو قَدَميه غطي رأسه، ثم في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وفي كتاب المغازي، باب غزوة أحد مُوجزاً عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وباب من قتل من المسلمين يوم أحد، وفي كتاب الرقاق، باب فضل الفقر.

ورواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب تكفين الميت.

الشرح والبيان:

خبَّاب بن الأرتّ: هو الصحابي الجليل خَبَّاب (1) بن الأرت – بفتح الهمزة، والراء وتشديد التاء – ابن جندلة، ابن سعد بن خزيمة ابن كعب من بني تميم، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبو محمد، وقيل أبو يحيى، وهو عربي لحقه سباء في الجاهلية، فبيع بمكة، وكان خبَّاب رضي الله عنه حدَّاداً يصنع السيوف بمكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألَّفه ويأتيه، فلما علمت بذلك مولاته كانت تعذِّبه بوضع أسياخ الحديد على رأسه، فما صرفه ذلك عن دينه رضي الله عنه.

وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن عُذِّب في الله تعالى، فصبر على البلاء، وكان سادس سِتَّة في الإسلام، وقد تحمَّل هو وإخوانه من الموالي والأعبد من التعذيب ما ينوء به الجماد.

روى البخاري في صحيحه عن خبَّاب رضي الله عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِّدٌ ببرد له في ظلِّ الكعبة فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟ فجلسَ محمراً وجهه فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يجاء بالميشار (2) فيجعل فوق رأسه ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليُتِمنَّ الله هذا الأمرَ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله – عزَّ وجل – والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون) فيرجعون وقد ازدادوا إيماناً وثباتاً على الإسلام، وعزماً على الصمود وتحمُّل العذاب. 

شَهِد بدراً وأُحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما هاجر آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين تميم مولى خراش بن الصمة، وقيل: آخى بينه وبين جبر بن عتيك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه ابنه عبد الله، ومسروق ابن الأجدع، وشقيق، والشعبي، وأبو ميسرة سرور بن شرحبيل، وقيس بن أبي حازم وغيرهم. وكانت وفاته رضي الله عنه سنة سبع وثلاثين فرضي الله عنه وأرضاه (3).

(هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة).

بيَّنت رواية البخاري في كتاب الرقاق أنه قال ذلك لما عادوه وهو مريض، فعن أبي وائل قال: (عدنا خباباً فقال) والظاهر أنَّ ذلك كان في مرض موته، فقد طال عليه حتى منعه من حضور صفين مع سيدنا علي.

والمراد بالمعيَّة المشاركة في الهجرة لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر كان معه الصديق وعامر بن فهيرة من أصحابه أو المراد هاجرنا بأمره وإذنه.

(نريد وجه الله ) وفي رواية (نبتغي) والمعنى واحد، والمراد بوجه الله: قصد رضائه، والفوز بما عنده من الثواب والأجر الأخروي لا نريد شيئاً من الدنيا، وإنما هجرتنا كانت مُتمحِّضة لوجه الله تعالى (فوقع أجرنا على الله).

وفي رواية للبخاري ومسلم (فوجب أجرنا على الله)، والوجوب هنا ليس على ظاهره وحقيقته؛ لأنَّ الله عزَّ وجل لا يجب عليه شيء، وإنما المراد تأكيد الأجر وثبوته لهم فعبَّر عن ذلك بالوجوب.

أو المراد بالوجوب هنا أنَّ الله سبحانه هو الذي أوجب ذلك على نفسه بنفسه بمقتضى وعده الصادق الذي لا يتخلَّف، والمراد بالأجر الثواب والجزاء الأخروي.

(فمنَّا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً).

مضى: أي: مات حتف أنفه أو استشهد. 

(أجره): المراد بالأجر هنا ما حصل لهم من الغنائم والأموال من الفتوحات، وما فتح لهم من خيرات الدنيا، وإطلاق الأجر على الدنيوي من قبيل المجاز، وعلى هذا لا يتنافى هذا مع قوله: (نبتغي به وجه الله) لأنَّ ما جاءهم من ثمرات الدنيا ما كان مقصوداً وإنما جاء لهم عفواً وفضلاً، فاستحلوه بتحليل الشرع له.

(منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد):

يعني من هؤلاء الذين وقع أجرهم على الله تعالى الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه شهيد أحد، وكان حامل اللواء في هذا اليوم، قتله عبد الله بن قمئة – أقمأه الله ولعنه – ظناً أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّه كان من الذين باعوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، ولما قتله ابن قمئة أذاع أنَّه قتل رسول الله، مما سبَّب الاضطراب والذهول في نفوس المسلمين. ومن أمثاله أيضاً عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - فقد مات بعد الهجرة إلى المدينة بعد بدر.

من هو مصعب بن عمير:

ويقتضينا عرفان الفضل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نذكر كلمة موجزة عن هذا الصحابي الجليل الذي آثرَ الفقرَ والضنك في ظلال الإيمان، على النعيم في حياة الكفر.

هو مصعب بن عمير بن هشام بن عبد مناف، بن عبد الدار، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده (قصي) وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه فتى مكة شباباً وجمالاً وتيهاً، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون الثياب، وكان أعطر أهل مكة يلبس الحضرمي من النعال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حقه: (ما رأيت بمكة أحسن لمة (4)، ولا أرق حلة (5) ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير ) ولم أعلم فيما قرأت تصويراً لما كان يتقلب فيه مصعب من النعيم من هذا الكلام النبوي البليغ.

ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله سراً ذهب إليه في دار الأرقم وأسلم، ولكنه كتم إسلامه خوفاً من عشيرته، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، فوشي به إلى أمه وقومه أحد بني عبد الدار، فما كان منهم إلا أن أخذوه فحبسوه، وأوثقوه، ولم يزلْ محبوساً حتى لاحتْ له فرصة الإفلات من الحبس فخرج مُهَاجراً إلى الحبشة، وتحمَّل في هجرته ما تحمَّل من شظف العيش، وألم الغُربة حتى نسي ما كان فيه من النعيم وآثر الفقر على الغنى، والخشن من الثياب على اللين والحرير.

ولما أسلم الكثيرون من الأنصار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم من يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام فوقع اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقد نجح في مهمته خير نجاح، وكان الأنموذج الكامل الصادق للدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة، وعلى يديه أسلم سيدان شريفان أسلم بإسلامهما أناس كثيرون، وهما سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير من بني عبد الأشهل.

ولو أنَّ مُصعباً رضوان الله عليه نشأ في غير مطارف النعيم لقلنا: ربما هان عليه ما تحمله بعد الإسلام والهجرة من بؤس الحياة، وخشونة الملبس والمطعم، أما وقد ترعرع في النعيم فقد كان من البطولة النفسيَّة حقاً أن يلبس ثوباً مرقوعاً بفروة شاة، ونعلاً مخصوفة مرقعة! 

فلا تعجب إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم، الرقيق القلب كان إذا رآه بكى رثاءً لحاله، روى الترمذي في سننه بسنده عن علي رضي الله عنه قال: (بينما نحن في مسجد إذ دخل علينا مصعب بن عُمير وما عليه إلا بُردة له مرقوعة بفروة، وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه للذي كان فيه من النعيم، والذي هو فيه اليوم) نعم والله، إنَّه لموقف يستحقُّ البكاء ممن أرسله الله رحمة للعالمين.

وتأتي غزوة أحد، وتكون الجولة الأولى للمسلمين، ثم تدور الدائرة عليهم، ويختل نظام جيش المسلمين ويفر من يفر، ويذهل من يذهل، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم كالطود الشامخ وحوله ثلة من أصحابه الأبطال منهم مُصعب بن عمير رضي الله عنه يدافعون عنه ويفدونه بأنفسهم، وفي هذا الموقف الشجاع وفي ساحة الكرامة والاستشهاد استشهد مصعب بن عمير وهو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك كتب في سجل الخلود في الإسلام، سجل الشهداء والصديقين، من أتباع الأنبياء والمرسلين فرضي الله عنك يا سيدي مصعب بن عمير وأرضاك.

(قتل يوم أحد وترك نمرة...) 

النمرة: إزارٌ من صوف مخطَّط أو بُردة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد أن يُدفنوا حيث ماتوا، وأمر بدفنهم بدمائهم، وثيابهم التي عليهم، ولم يغسلوا، ولم يصلَّ عليهم (6) وذلك لتكون دماؤهم، وجراحاتهم شاهدة لهم يوم القيامة بفضلهم ومنزلتهم.

وكان على الصحابة من الثياب ما قام مقام الكفن، أما سيدنا مصعب رضي الله عنه فلم يكن على جسده! إلا هذا الثوب الغليظ القصير الذي ضاق عن أن يكون كفناً، فكانوا إذا غطَّوا رأسَه بدت رجلاه، وإذا غطَّوا رجليه بدا رأسه، فأمرهم المشرع الحكيم صلوات الله وسلامه عليه أن يغطوا رأسه لأنه أولى، ويضعوا الإِذْخِر على قدميه: و(الإذْخِر) – بكسر الهمزة، وسكون الذال، وكسر الخاء – نبت طيب الرائحة كانوا يستعملونه في فرض قبورهم، فقام الإذخر مقام الثوب للضرورة، إذ كان المسلمون في حال ضنك وتعب ومشقة.

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (وفيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس، وجعل النقص مما يلي الرجلين ويستر الرأس، فإن ضاق عن ذلك سُترت العورة، فإن فضل شيء جُعِل فوقها، فإن ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم، وهما الأصل في العورة) فإن لم يوجد ثوب قط لُفَّ في الإذخر أو ما يشاكله.

(ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها):

أينعت: أي نضجت وكثرت، ثمرته: ما أخذ من الغنائم ولا سيما زمن الفتوحات العظيمة يهدبها: بفتح الياء المثناة، وسكون الهاء، وضم الدال، وكسرها، وقيل بالفتح أيضاً – أي: يجنيها، وينتفع بها.

وهذا من التعبيرات المجازيَّة البديعة فقد جعل ما فتح لهم من الدنيا بمنزلة البستان الحافل بشتى الثمار، فلما نضجت وطابت انتفع وتلذذ بما فيها.

وهؤلاء الذين عاشوا حتى فتحت عليهم الدنيا أصناف: فمنهم من عاش إلى أن فتح الله عليهم، وهؤلاء منهم من أعرض عن المال وواسى به المحاويج أولاً فأول بحيث بقي على تلك الحالة الأولى، وهم قليل مثل: أبي ذر رضي الله عنه، وهؤلاء ملحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسَّط في بعض المباح فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري أو الخدم، والملابس، ونحو ذلك ولم يستكثر وهم كثير، منهم ابن عمر، ومنهم من زاد واستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة، وهم كثير أيضاً منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وإلى هذين القسمين أشار سيدنا خبَّاب رضي الله عنه.

فالقسم الأول وما التحق به توفَّر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مُقتضى الحديث أنهم يحسب عليهم ما وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة.

وقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أنَّ عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام (7) وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه (8) قال: وقتل حمزة وهو خير مني: ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) فمن ثم كان يَميل كثيرٌ من السلف الصالح إلى التقلُّل من الدنيا وزينتها حتى لا يذهب ببعض أجرهم في الآخرة.

(وبعد) فهذا سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه مثلٌ عالٍ من أمثلة المؤمنين الصادقين الذين سخروا من الحياة وشدائدها، وترفَّعوا عن أن يكونوا أسراء لشهواتها وزخارفها، وأول داعية إلى الإسلام على بصيرة وحكمة وبفضله وكياسته، وصدقه دخل الكثيرون من الأنصار رضي الله عنهم في الإسلام.

ثم هو مثال للتضحية بالنفس في سبيل الله ورسوله، ومثال للبطل المجاهد المكافح المنافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قدَّم نفسه فداء له عن عقيدة وطيب نفس.

ومثال للفقير العزيز الصابر الذي آثر الفقر في رحاب الإسلام، على الغنى والجاه العريض في ضيق الكفر، وها هو الآن يرفل في عرصات الجنة، ويجول في مغانيها وقصورها، فهل نحن بمصعب وأمثاله مقتدون؟ وعلى آثارهم سائرون؟ ذلك ما نرجو، والله الموفق والمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، السنة الخامسة والأربعون، ذو القعدة 1393 - الجزء 9).

-------------------------------

(1) خباب بفتح الخاء وتشديد الباء الأولى.

(2) الميشار بالميم والياء هو المنشار بالنون وهما لغتان

(3) أسد الغابة ترجمة خباب بن الأرت

(4) الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن (قاموس).

(5) حلة: ثياباً

(6) صحيح البخاري كتاب المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد.

(7) كان لحماً وخبزاً كما في سنن الترمذي

(8) بضم الهمزة بمعنى: لعله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين