الشكر لله تعالى

 

هل معنى الكلام عن الصبر أن الإنسان يعيش في حلقات متصلة من الآلام؟ لا يحتاج معها إلا إلى المواساة والتعزية!.

 لا، فالحياة الإنسانية أضوأ من ذلك وأرحب، إن البشر لا يعيشون كما يعيش الأولاد في كنف أب قاس القلب، أو كما تعيش الرعية في سلطان أمير غليظ الرقبة.

 وما أغزر النعم التي تنهمر على الناس ليلهم ونهارهم من المهد إلى اللحد، وهي نعم لو قدروها قدرها، أو أحسنوا استغلالها لملأت قلوبهم بالحمد، وأطلقت ألسنتهم بالثناء.

بل لو غلغلنا البصر في التكاليف التي تستدعى الصبر لاستبان لنا أنها إلى النعمة أدنى منها إلى المحنة.

فالمحرمات المحظورة، والواجبات المطلوبة، والأعباء المفروضة، والآلام العارضة، تلك جميعاً ليست ضرائب يقدمها الإنسان لمن يحتاج إليها أو يستكثر بها، كلا بل تلك مدارج للكمال الإنساني، وحصانات للفطرة السماوية أن تتلوث أو تستمرئ الحضيض.!!

 أما رب العالمين تعالى فهو يعطي ولا يأخذ، وهو يُطعم ولا يطعَم، وهو يُجير ولا يجار عليه.

[قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ] {الأنعام:14} 

 والقرآن الكريم في شتى سوره أحصى أصول النعم، وذكر أمثلة شتى لما غمر الناس منها، وارتقب من أصحاب الضمائر الحيَّة أن يشكروا صاحبها، وأن يعرفوا حقه فيها، بعد ما بسطها بأروع أسلوب.

 وفى هذا القرآن سورة باسم الرحمن عدت جُملة من نعم الدنيا والآخرة؟ وفى ثنايا هذا العد الموقظ المذكر توجه للإنس والجن بهذا السؤال.

[فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] {الرَّحمن:13} 

 توجه إليهم عشرات المرات، يحمل التقريع بقدر ما يحمل التعليم والتذكير إن شُكر الله تعالى على أنعمه حق، ولكن ما اكثر النعم وأقلَّ الشاكرين!!

 والكلمة الشائعة في الترجمة عن شكر الإنسان لربه هي الحمد.

 والحمد كلمة تعنى مع الشكر الثناء على الله تعالى ، وتمجيد ذاته، ومن ثم كانت أرجح وأذيع.

 والمهم أن يرددها المسلم، وهو شاعر بالمنَّة والجميل، مقر من أعماقه بأن الله سبحانه مصدر ما اندفق عليه من خير، وأهل ما صعد إليه من شكر...

 في كل طرفة عين، ونبضة قلب، يتعرف الله تعالى إلى عباده عن طريق ما يمنحهم من بركاته، وينزل عليهم من خيراته.

 وهي بركات وخيرات متجددة على اختلاف الليل والنهار، فلا غرو إذا استقبلها الناس بمعرفة من أسداها وشكره!.

[وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا] {الفرقان:62} 

 وقد أمر الله تعالى الناس أن يشكروه لأن قلَّة الشكر خسة يجب التنزه عنها، إنك لو أطعمت امرأ شهراً أو شهرين، أو قضيت عنه ديناً أو دينين، أو رفعته درجة أو درجتين، ثم تجهم لك بعد هذه الأيادي وأعرض عنك لرأيت أن فراغ الحياة من مثله واجب، وأن بقاءه على ظهر الأرض قذى يتحرك!.

 فما ظنك بمن خلق من عدم، وأطعم وستر، وأغدق وأمد الأعوام بعد الأعوام؟ عندما يرى عبده قد حاز كل هذه النعم ثم عادى مسديها؟.

[خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ] {النحل:4}

[قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ] {الأنعام:63-64}

إنَّ الله تعالى أمر الناس أن يشكروه لأن الكنود نذالة، ولأن الإصرار عليه يجعل حق صاحبه في الحياة الكريمة صفراً، ولأنه ما يليق بإنسان أن يستقبل فضل مولاه بكرة وأصيلا ثم يدير له ظهره ويتولى عن إجابة أمره.

 إن الأمر بالشكر ليس تكليف مشقة يصبر الناس على أدائه، بل هو طريق كمال ينبغي أن يسير الناس فيه بهمة وقدرة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] {البقرة:172} 

 والإقرار بالجميل، وركون الفؤاد إلى صانعه يجعل المرء أهلاً للمزيد، لأن النعمة تثمر فيه، كما يثمر الماء في الأرض الخصبة، ولذلك لا يضن عليها بالقليل والكثير، أما الأرض السبخة فإن انعدام الأمل في ريها يجعل إرسال الماء إليها عبثا، ولذلك يقطع عنها...

 قال تعالى: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] {إبراهيم:7} 

وشدة العذاب كفاء لخباثة الجحود!.

 وماذا على الناس إذا مرحوا في نعمة الله تعالى أن يطووا ضمائرهم على عرفان الجميل والاعتراف بالفضل، وأن يقولوا لله المنعم: نشكرك.

 أهذا كثير أم هذا ثقيل؟؟

 إن الله سبحانه قصَّ علينا قصة سبأ لنعرف منها عقبى الكنود، وكيف أنها كانت زاهرة ثم صارت خراباً أتى على ما سبق من سعة ورفاهية.

 [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ(15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ(16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ(17) ]. {سبأ}..

 والشكر شعور في النفس قبل أن يكون حركة لسان، وقد وضع الإسلام صوراً ورسم طرقا للترجمة عن هذا الشعور المكنون...

 ونحن واجدون في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مظاهر الشكر وآيات الحمد لله رب العالمين، ما يثير الدهشة، وما يسري في القلوب شوقاً ورقة...

 كان صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من النوم يقول: (الحمد لله الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره).

 وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من الطعام يقول: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين).

 وكان صلى الله عليه وسلم إذا عاد من الخلاء يقول: (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيَّ قوته، وأذهب عني أذاه) .

 وكان صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً يقول: (الحمد لله الذي كساني هذا ورزقني إيَّاه من غير حول مني ولا قوة).

 وكان صلى الله عليه وسلم إذا عاد من سفر يقول: (آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون).

 وفى الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك).

 وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر على، وامكر لي ولا تمكر علي، وأهدني ويسر الهدى لي، انصرني على من بغى على رب اجعلني لك شكاراً، لك ذكاراً، لك رهاباً، لك مطواعاً، لك مخبتاً، إليك أواها منيباً رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري).

 وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى ترم قدماه!

 فقيل له أي رسول الله، أتصنع هذا، وقد جاءك من الله أن قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال!: أفلا أكون عبدا شكورا ) .

 وفى رواية عن عائشة رضى الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه فقلت له: لم تصنع هذا؟ وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. قال!: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا ).

 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما شيء أحب إلى الله من الحمد) .

 إنَّ هذا الشعور العميق بفضل الله تعالى، والإحساس الواضح بنعمته والرغبة الحارة في إكباره وإجلاله والاعتراف بخيره، إنَّ هذا كله انتقل من فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أفئدة صحبه، فهم يتبارون في تحية ربهم وحمده وقدره حق قدره.

 عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال أُبى بن كعب: لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد.

 فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثنى عليه، فإذا هو بصوت عال من خلفه يقول : اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، لك الحمد، إنك على كل شيء قدير اغفر لي ما مضى من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالاً زاكية ترضي بها عني، وتب على.

 فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقص عليه، فقال: (ذاك جبريل عليه السلام) .

 وعن ابن عمر رضى الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم (أن عبداً من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندرى كيف نكتبها قال الله وهو أعلم بما قال عبده ـ: ماذا قال عبدى؟، قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما، اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها).

 وعن أبي أيوب رضى الله عنه قال: (قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صاحب الكلمة؟ فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء يكرهه فقال رسول الله: من هو، فإنه لم يقل إلا صواباً؟ فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله أبغي بها الخير  فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (والذى نفسي بيده، لقد رأيت ثلاثة عشر ملكاً يبتدرون كلمتك: أيهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى).

 وعن علي رضى الله عنه: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، إذا سرك أن تعبد الله ليلة حق عبادته، أو يوماً، فقل: (لك الحمد حمداً كثيرا خالداً مع خلودك، ولك الحمد حمداً لا منتهي له دون علمك، ولك الحمد حمداً لا منتهي له دون مشيئتك، ولك الحمد حمداً لا أجر لقائله إلا رضاك) .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين