الشفاعة

هذه خطبة خطبتها قديماً في مسجد الرضا بجدة وقد قام الأخ العزيز طارق عبد الحميد قباوة بإحيائها وكتابتها لتنشر على الموقع فأرجو الله أن يعمم النفع بها ويجعلنا أهلاً لحمل أمانة العلم .

من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التي اختصَّ بها دون سائر الأنبياء والمرسلين، أنَّ الله عزَّ وجل أعطاه الشفاعة العُظمى يوم القيامة.

الشفاعة في الخلائق كلهم من هول الموقف يوم القيامة حتى يقضي الله بينهم بالحق، في اليوم الذي تقف فيه الخلائق خاضعين خاشعين لا يتكلم أحد إلا بإذنه سبحانه وتعالى: [يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا] {طه:108}.

وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويلجم العرق كثيراً من الناس، ويطول بالناس يوم الحشر ويبلغ بهم الهمّ والغمّ كل مبلغ فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟، ويتوسل الناس بآدم فمن بعده من المرسلين يطلبون شفاعتهم عند الله في أن يعجل لهم الحساب، فكل يمتنع عنها ويقول: لست بصاحبها حتى ينتهي الأمر إلى سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيذهب فيشفع عند الله ليفصل بين عباده ويريحهم من مقامهم ذلك. وتسمى هذه الشفاعة في أهل الموقف: بالشفاعة العظمى.

روى البخاري ومسلم وأحمد من حديث أنس بن مالك: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا. فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ويقول: ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا موسى الذي كلَّمه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته، ائتوا عيسى فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، فيأتوني فأستأذن على ربي فإذا رأيتُه وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك، سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني ثم أشفع فيحد لي حدا ثم أخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن). وكان قتادة يقول عند هذا أي وجب عليه الخلود».

وهذه الشفاعة العظمى خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهي أولى شفاعاته عليه الصلاة والسلام، وهي المقام المحمود الذي ذَكره الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في قوله عزَّ وجل: [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا] {الإسراء:79}.

أخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر».

ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة، وأن أهل الجنة يتشفعون بآدم، ثم بإبراهيم ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات الله عليهم جميعاً، فيقوم فيؤذن له.

روى مسلم عن أبي هريرة وحذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليماً، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم، فيقول: لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له».

وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مَالك رضي الله عنه قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: مَنْ أنت؟ قال: فأقول محمد. قال: يقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».

شفاعته صلى الله عليه وسلم لطائفة من المؤمنين بدخول الجنة بغير حساب:

في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخل من أمتي زمرة سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر».

وهذا الحديث إخبار منه صلى الله عليه وسلم بأنَّ سبعين ألفاً من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد سأل صلى الله عليه وسلم الزيادة على السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب.

روى أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عزَّ وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً".

شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بدخول الجنة:

المدينة هي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها قبره ومسجده الشريف صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة». وهذه الشفاعة لأهل المدينة لا تعمّ جميع ساكنيها فإنَّه فيها المنافقين والكافرين، وإنما تخضّ فئة من سكان المدينة آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا وهاجروا في سبيل الله وتحملوا أنواع المشاق والمتاعب... أما الذين يدنسون أنفسهم بالمعاصي ويَعتمدون على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل المدينة، إنما يَعتقدون خطأ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم توعَّد من يعيث فيها فساداً بسوء عاقبة مآلهم يوم القيامة، روى مسلم: «من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً».

الشفاعة لأهل النار، شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر بالخروج من النار:

يقول سبحانه وتعالى: [وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا] {النساء:64}. والآية تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم متى استغفر للعصاة والمذنبين فإن الله يغفر لهم.

وهذا يدل على أنَّ شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر مقبولة في الدنيا فوجب أن تكون مقبولة في الآخرة.

أخرج الترمذي وابن ماجه وأحمد وأبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

فالشفاعة التي أعطاها الله لنبيه، ووعد أمته بها، ادخرها لأهل الكبائر الذين استوجبوا النار بذنوبهم فيخرج بالشفاعة من أدخلته كبائر ذنوبه النار ممن قال: لا إله إلا الله.

روى البخاري من حديث عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين»، فالعصاة والمذنبون من هذه الأمة يخرجون من النار بعد دخولها، ثم إن مآلهم إلى الجنة بعد أن يأخذوا قسطاً من العذاب.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الشفقة والرأفة بأمته كما يقول سبحانه: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128}. ومن كمال شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم أن أخّر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم.

روى البخاري ومسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيبت فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة».

فالعصاة من الموحدين الذين أدخلوا النار بسبب ذنوبهم يخرجون من النار بشفاعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. أخرج البخاري عن أبي هريرة قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو من نفسه».

شروط الشفاعة:

لا يصح وقوع الشفاعة ولا يمكن قبولها، إلا بعد إذن الله عزَّ وجل بالشفاعة ورضاه عن المشفوع له. قال تعالى: [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ] {البقرة:255}. ويقول تعالى: [وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى] {النَّجم:26}. ويقول: [يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا] {طه:109}.

موانع الشفاعة:

إنَّ الشرك بالله والكفر به يمنعان من وقوع الشفاعة قال تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48}. وسيواجه الكفار يوم القيامة بأعمالهم ويسحبون في النار على وجوههم ولن تنفعهم شفاعة الشافعين، وقد سبق لهم من الله الإعذار والإنذار حين قال لهم: [وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ] {غافر:18}. وتشتد بهم الحسرة والحزن يوم القيامة، ويقولون: [فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ] {الشعراء:100}. فيتحسرون على ما آلت إليه حالهم، يقول تعالى مُصوراً حال الكافرين: [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلَّا أَصْحَابَ اليَمِينِ(39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40) عَنِ المُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46) حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ(47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)]. {المدَّثر}..

أقسام الشفاعة

1 ـ الأنبياء والمرسلون:

رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود، وصاحب الشفاعة العظمى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثبتت لهم الشفاعة فيمن يدخل النار من أهل الكبائر.

روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد: «فيقول الله عزَّ وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً».

2 ـ الملائكة:

يشفعون يوم القيامة بعد رضى الله تعالى وإذنه، قال تعالى: [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى] {الأنبياء:28}. وقال تعالى: [وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى] {النَّجم:26}.

وقد ذكر سبحانه أنَّ الملائكة يَستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم برفع الدرجات في الجنة. قال تعالى حكاية عن الملائكة: [رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {غافر:8}.

3 ـ الشهداء:

وممن جاءت الأحاديث بذكر شفاعتهم: الشهداء. والشهيد المقتول في سبيل الله. وقد جاء في الحديث أنَّ الشهيد يشفع في سبعين من أهله كما في سنن أبي داود: «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته».

وروى ابن ماجه: «إنَّ للشهيد عن الله ستّ خصال: يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من ا لحور العين، ويشفَّع في سبعين من أقاربه».

4 ـ الصالحون:

والصنف الرابع من الشفعاء، شفاعة صَالحي المؤمنين، فقد ثَبت أنَّ صالحين المؤمنين من أهل الجنة يشفعون لإخوانهم عُصاة المؤمنين، الذين طُرحوا في النار، فَيَقْبَل اللهُ شَفَاعتهم ويُشَفِّعهم في إخوانهم.

روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حديثاً طويلا ً في هذا المعنى: «...إذا خلص المؤمنين من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يَقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً.

وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: [إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:40}.

والله سبحانه يكرم الصالحين بالشفاعة حتى يدخل الجنة بشفاعتهم خلقاً كثيراً، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة.

روى الترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم. قيل: يا رسول الله سواك؟ قال: سواي».

وروى الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ من أمتي من يشفع للفئام - الجماعة الكثيرة - ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخل الجنة».

5 ـ الأولاد وشفاعتهم للأبوين:

ثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ المرء المسلم الذي يرزقه الله في هذه الحياة الدنيا الولد، ثم يموت ولده قبل سن البلوغ، فيصبر والده على قضاء الله وقدره... فإن الله يشفعه بهما في الآخرة.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسَّه النار إلا تحلَّة القسم».

وروى مسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة. فقالت امرأة منهم: أو اثنين يا رسول الله: قال: أو اثنين».

6 ـ شفاعة القرآن:

أخبرَ صلى الله عليه وسلم أنَّه من داوم على قراءة القرآن تدبراً وحفظاً وتلاوةً يَعمل بما جاء به فيحل حلاله ويحرِّم حرامه، فإنَّ القرآنَ يَشفع له يوم القيامة.

روى مسلم من حديث أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنَّه يأتي يوم القيامة شَفيعاً لأصحابه، اقرأؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان... تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» قال معاوية رضي الله عنه: بلغني أن البطلة: السحرة.

وروى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك».

من أسباب الشفاعة الخاصَّة

1 ـ سؤال الدعاء بالوسيلة والمقام المحمود عقب الأذان:

روى مسلم وأصحاب السنن عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنَّه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنَّها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة».

وروى البخاري وأصحاب السنن عن جَابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدتَه حلَّت له شَفَاعتي يومَ القيامة»، وزادَ البيهقي في رَواتبه: «إنك لا تخلف الميعاد».

2 ـ ومن أسباب شفاعته الخاصَّة صلى الله عليه وسلم: الموت في مدينته الطيبة، والصبر على لأوائها، زادها الله تعالى شرفاً ورفعةً، ونفحنا الله تعالى بنفحاتها الطيبة.

روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها».

وروى مسلم عن سعد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبةً عنه إلا أبدلَ الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة».

وزاد مسلم في رواية: «ولا يُريد أحدٌ أهلَ المدينةِ بسوء إلا أذابَه الله تعالى في النَّار ذوبَ الرصاص أو ذوب الملح في الماء».

3 ـ ومن أسباب شفاعته الخاصَّة صلى الله عليه وسلم كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

روى الترمذي وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة».

وروى الإمام أحمد عن أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً قال: «يا رسول الله أرأيت إن جعلتُ صلاتي كلَّها عليك؟ - أي جعلت دعائي كلُّه صلاة عليك - فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمَّك من دنياك وآخرتك».

وأخرج البيهقي في الشُّعب عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجُمُعة، فمن فَعَل ذلك كنت له شهيداً أو شافعاً يوم القيامة».

خاتمة:

إنَّ الله تعالى فَتح أمامَ عباده أبواب الأمل والرجاء بالتوبة عليهم إذا تابوا في الدنيا، وبالشفاعة لرسله ولعباده المصطفين الأخيار يوم القيامة في عباده المقصرين الذين لم يتوبوا قبل موتهم، واستحقوا عقاب الله بسبب ذنوبهم، وهذه الشفاعة تَدلُّ على سَعة الرحمة الإلهيَّة، والرأفة الربَّانية بهذا المخلوق الضعيف... وفيها تكريم الله عزَّ وجل للشُّفعاء يوم القيامة وخاصَّةً خاتم أنبيائه ورُسله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعطي الشفاعة العُظمى لجميع أهل الموقف بما فيهم الأنبياء والمرسلين، والمسلم يذكر ذلك الموقف في كل يوم عندما يُصلي خمسَ مرَّات حيث يدعو بعد نهاية الأذان: «اللهم ربَّ هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلةَ والفضيلة، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته» - مسلم -، والمقام المحمود هو مقام الشفاعة العُظمى يوم القيامة.

فنسأل الله سبحانه أن يشفع فينا نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأن يُدخلنا الجنَّة بغير حساب، إنَّه سميع مجيب.

دعاء:

اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأنبياء، والملائكة والشهداء، والقرآن...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

في الحرم المكي الشريف قبل أذان الظهر

الخميس 18/ربيع الأنور/1402هـ

نشرت 2013 وأعيد تنسيقها ونشرها 26/1/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين