الشريعة الاسلامية بين الثوابت والمتغيرات

 

مافتئ ومازال ضجيج العلمانيين المتطرفين العرب يعلو  على وقع  صعود التيار الاسلامي   في بعض البلاد العربية التي  دخلت الربيع العربي ففاز الاسلاميون فيها فوزا كاسحا في الانتخابات  النزيهة ، الأمر الذي  أقض مضاجع  دوائر القرار في المنطقة العربية  والغرب ، مما جعلهم يتداعون لحياكة مؤامرة كبرى على خيار الشعوب لتبقى في دائرة التبعية  الذليلة  والانحطاط والتخلف . وهؤلاء أدعياء الديموقراطية  لما نبذتهم شعوبهم  استقووا  بالأجنبي بكل وقاحة وعمالة  للقضاء على حلم التحرر والانعتاق من العبودية  لهؤلاء وأولئك .

وفي موضوع البحث نجد عتاة العلمانيين  من ( المنظرين ) لفكر الحداثة يركزون هجومهم على مرجعية الأمة المسلمة ( النص  والاجماع )و( العقل العربي ) فيتهمون التراث بالتخلف  والعقل بالجمود  والسطحية  والغيبية ، وأن ذلك هو سبب انحطاط العالم العربي  ، والحل هو التحرر من سلطتي  النص  والفقيه ، واعتماد العقل  الذي لاتقيده أي سلطة فوقية  لكي يبدع  في ساحات العمل الفكري الحر .

إن التشغيب على المحكمات والثوابت أصبح  منهج الهجوم على الشريعة، وهم يرون أن الثوابت الدينيةالقطعية مدعاة لادعاء ملك الحقيقة المطلقة ، ومن ثم التعصب ، لذلك يهاجمون الثوابت ويدعون الى النسبية في الحقيقة ، وذلك لتمييع حقائق الاسلام ، فالحرية عندهم هي للإيمان والكفر  والحق والباطل ... إنه فكر الهدم  والتغريب .

ومن الانصاف الاعتراف  بأن كثيرا من المؤسسات الدينية الرسمية أريد لها أن تنكفئ على  تراثها  وتجمد عليه  لأمر يراد ، وهي  منسحبة من الحياة العامة وتعيش في حالة جمود فكري فصلها عن قضايا الأمة الحيوية ، مما أعطى ذريعة  لأعداء الاسلام باتهام الشريعة بالجمود  وعدم مسايرة التطور .وأعطى الأنظمة الحاكمة ذريعة مقاومة الدعوة لتطبيق الشريعة ، والاصرار على تحكيم القوانين الوضعية .

وهنا اجد كلاما نفيسا لابن القيم رحمه الله  في تشخيص هذه الحالة فيقول :

اختلاف العلماء في الْعَمَلُ بِالسِّيَاسَةِ  :

قلت هذا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ اقدام وَمَضَلَّةِ افهام وهو مَقَامٌ ضَنْكٌ في مُعْتَرَكٍ صَعْبٍ فَرَّطَ فيه طَائِفَةٌ فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ وجرؤوا اهل الْفُجُورِ على الْفَسَادِ وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَسَدُّوا على انفسهم طُرُقًا صَحِيحَةً من الطُّرُقِ التي يُعْرَفُ بها الْمُحِقُّ من الْمُبْطِلِ وَعَطَّلُوهَا مع عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ الناس بها انها ادلة حَقٍّ ظَنًّا منهم مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَاَلَّذِي اوجب لهم ذلك نَوْعُ تَقْصِيرٍ في مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّطْبِيقِ بين الْوَاقِعِ وَبَيْنَهَا فلما رَأَى وُلَاةُ الامر ذلك وان الناس لَا يَسْتَقِيمُ امرهم إلَّا بشئ زَائِدٍ على ما فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ من الشَّرِيعَةِ فَأَحْدَثُوا لهم قَوَانِينَ سِيَاسِيَّةً يَنْتَظِمُ بها مَصَالِحُ الْعَالَمِ فَتَوَلَّدَ من تَقْصِيرِ اولئك في الشَّرِيعَةِ وَإِحْدَاثِ هَؤُلَاءِ ما أَحْدَثُوهُ من اوضاع سِيَاسَتِهِمْ شَرٌّ طَوِيلٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ وَتَفَاقَمَ الامر وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ وافرط فيه طَائِفَةٍ اخرى فَسَوَّغَتْ منه ما يُنَاقِضُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اتيت من قِبَلِ تَقْصِيرِهَا في مَعْرِفَةِ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فإن اللَّهَ ارسل رُسُلَهُ وانزل كُتُبَهُ لِيَقُومَ الناس بِالْقِسْطِ وهو الْعَدْلُ الذي قَامَتْ بِهِ السماوات والأرض فإذا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْحَقِّ وَقَامَتْ ادلة الْعَقْلِ واسفر صُبْحُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كان فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ وَرِضَاهُ وامره .

 وَاَللَّهُ تَعَالَى لم يَحْصُرْ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَدِلَّتَهُ واماراته في نَوْعٍ وَاحِدٍ وَأَبْطَلَ غَيْرَهُ من الطُّرُقِ التي هِيَ اقوى منه وادل وَأَظْهَرُ بَلْ بَيَّنَ بِمَا شَرَعَهُ من الطُّرُقِ ان مَقْصُودَهُ إقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَقِيَامُ الناس بِالْقِسْطِ فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بها الْحَقُّ وَمَعْرِفَةُ الْعَدْلِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَالطُّرُقُ اسباب وَوَسَائِلُ لَا تُرَادُ لِذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ غَايَاتُهَا التي هِيَ الْمَقَاصِدُ وَلَكِنْ نَبَّهَ بِمَا شَرَعَهُ من الطُّرُقِ على أَسْبَابِهَا وامثالها وَلَنْ تَجِدَ طَرِيقًا من الطُّرُقِ الْمُثْبِتَةِ لِلْحَقِّ إلَّا وَهِيَ شِرْعَةٌ وَسَبِيلٌ لِلدَّلَالَةِ عليها وَهَلْ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ خِلَافُ ذلك .  انتهى كلامه رحمه الله    ( إعلام الموقعين  ج 4   ص 372  )

التشريع الاسلامي يجمع بين  الثوابت  والمتغيرات :

هذه الخاصية في الشريعة في الجمع بين ثوابت الأحكام ومتغيراتها تكسب التشريع مرونة  تجعله قادرا على الوفاء بمتطلبات التشريع  في كل زمان ومكان .

أما الثبات  فيكون في الأصول  والأهداف للمحافظة على  الدين  من التمييع والتحريف ، أو التأثر بالأهواء والأعراف  المنحرفة  ليبقى مرجعية صحيحة لتقويم أي انحراف .

 وأما المتغيرات التي  تكون  في الوسائل والفروع فلإكساب الشريعة مرونة  تفي  بمتغيرات الحياة وتجددها  .

ويجب أن لاننسى ان مهمة الشريعة تغيير الواقع بمقتضى  دين الله وليس الخضوع لأي واقع يخالف شريعة الله بذريعة  التقدم والتطور .

 

وأما آلية الشريعة  في الاستجابة للتطور التشريعي  فهي :

 

 التعامل مع النص الوارد في الكتاب  والسنة ، ومعلوم أن هذه النصوص  فيها القطعي وفيها الظني  ،

أما القطعي من الأحكام فهو الذي جاءت به نصوص محكمة وأجمعت عليها الأمة وتلقتها بالقبول  وهي ماعلم من الدين بالضرورة بحيث لايسع مسلما الجهل به ،  فلايقبل الاجتهاد فيها ،  ومجال المجتهد فيها  هو التطبيق كما وردت ، وهنا يقال  لااجتهاد في مورد النص . كفرضية العبادات الخمس  وتحريم الربا والزنا وشرب الخمر  وسفور المرأة أمام الرجال الأجانب .. وكتحديد  عدد الوفاة والطلاق  وأنصبة المواريث ، فكل هذه الأحكام من الثوابت التي لاتتبدل بمرور الزمان  ولا تخضع  للاجتهاد والنقاش والتعطيل  بذرائع مشبوهة كتعطيل  فريضة الزكاة اكتفاء بالضرائب ،  وتعطيل الصيام  تشجيعا للانتاج ، ، أو تعطيل فريضة الحج  توفيرا للعملة ، أو إباحة الزنى والخمر  وعري الشواطئ تشجيعا للسياحة  أو إباحة الربا  دعما للتنمية ....

وأما الظنيات من الأحكام فهي التي جاءت بها نصوص ظنية الدلالة  بحيث تحتمل أكثر من فهم ، وهي  معظم الأحكام العملية ( الفقه ) وهي المجال الواسع  للاجتهاد وإعمال  العقل التشريعي فيها لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية ،  ففي السياسة والحكم مثلا : من الثوابت  وجوب الحكم بما أنزل الله  وإقامة العدل  والشورى  ، ومن المتغيرات  شكل  الدولة التي تلتزم بالثوابت بآليات  معاصرة تتعلق بالشكل  والوسائل .

وهناك مجال ثالث للاجتهاد من قبل المشرع المسلم  وهو تقرير الأحكام  لما يستجد من النوازل ولم يرد فيها  أي نص  قطعي أوظني ، وهو مجال فسيح للفقهاء والمشرعين باللجوء الى القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة ....

فإذا لم يجد المشرع نصا في الحادثة ولم يستطع إعمال مصادر التشريع الفرعية السابقة  فيمكن  الاعتماد في تقرير الأحكام على  قواعد الشريعة المأخوذة من  استقراء النصوص  والوقائع  ومقاصد الشريعة مثل

الضرورات تبيح المحظورات  والضر يزال  ، والضرر لايزال بمثله ، والضرورة تقدر بقدرها ، والحاجة تنزل منزلة الضرورة ، والمشقة تجلب التيسير  ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ،

فإن لم تسعف المشرع النصوص والقواعد لتشريع حكم في الحادثة المستجدة  فهي إذن من المسكوت عنه  والأصل فيه الاباحة وبخاصة في المعاملات  .

ثم إن  المشرع قد يعتمد في تقرير حكم حادثة طارئة على مايسميه العلماء  بالسياسة الشرعية : وهي فعل شيئ من الحاكم  لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي . ومفهوم ذلك ان يكون هذا الفعل داخلا تحت الأدلة الكلية والقواعد العامة  لامصادما لها وإلا فهو مردود  وباطل . ( شريعة الاسلام للقرضاوي  ص 31 )

إن كل آليات الاجتهاد السابقة  ترد على المشككين بصلاحية الشريعة للحكم اليوم بدعوى جمود الفكر القانوني أمام  الثوابت  الدينية .

ولا بد من القول إن  تقرير الأحكام اليوم  لابد فيه من الاستعانة  بأهل الاختصاص في كل شأن  من شؤون الحكم  ، إن كان في الجانب الاقتصادي أو  السياسي أو  الطبي ..... وليس من اللازم ان يكون المختص  شيخا  معمما ، ويقع في الوهم من يظن  أن الحكم الإسلامي  إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدِّين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.

ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة.وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم!

وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن.فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدِّين).

ثم إن كل ماسبق من آليات الاجتهاد  وما ينتج عنها من  أحكام فليست لها قداسة  وإنما هي خاضعة للمراجعة  ولا يشترط التقيد بها إذا مارأى آخرون من الفقهاء في  زمن آخر تغيير الحكم أو تعديله حسب الوقائع المستجدة ، فالقداسة لنص الكتاب والسنة الصحيحة فقط  ، فما عدا ذلك يبقى حكما بشريا  قابلا للصواب والخطأ . فلاثيوقراطية في الحكم الاسلامي ولا عصمة إلا لرسول الله وأما  الفقهاء والعلماء فهم بشر يصيبون ويخطئون  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر )  متفق عليه ، وقد ورد في صحيح مسلم  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كان يوصي  أمير الجيش  فيقول له  :  (  وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل الحصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا )  نعم هكذا  لايتكلم قائد الجيش عن الله  لأنه لايدري   أيصيب حكم الله أم لا  طالما أنه لايوحى اليه   .

هذا والله أعلم  وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين