الشبيحة صناعة النظام

د. أحمد نوفل

• صناعة الخوف
القيادات التي تقود شعوبها بالرعب والخوف تعلم أنّها لا تملك أياً من مؤهلات القيادة، لا الذكاء ولا الكاريزما ولا المؤهلات، ولا المؤهلات الأخلاقية، لذا فإنّها تلجأ إلى العنف والعسف والبطش والإرهاب والترويع والتعذيب والزنازين والسجون وتكميم الأفواه وتسميم الأجواء، حتى لا يتكلم متكلم ولا ينتقد منتقد.
وليس غريباً أن تمتليء قصة فرعون بالخوف والتخويف، والآيات أوضح وأقرب من أن تحتاج إلى استحضار: «إني أخاف أن يكذبون» «فأخاف أن يقتلون» «لا تخافا إنني معكما» «لا تخف إنك أنت الأعلى» «ذروني أقتل موسى» «فإذا خفت عليه» «ولا تخافي ولا تحزني» «فخرج منها خائفاً يترقب» «قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين»..الخ.
بهذه العقلية الفرعونية تم إنشاء الأجهزة القمعية: البلطجية في مصر، وبلغ تعدادهم مئات الألوف (أكثر من ربع مليون بلطجي)، سوى من تم إطلاق سراحهم من القتلة والمجرمين ليروعوا الناس كرد على ثورة يناير.
والبلاطجة في اليمن، والشبيحة في سوريا، وغير ذلك في غير ما بلد. كل ذلك ليملؤوا القلوب بالرعب ليستقر حكمهم وبئس الاستقرار والمستقِر والمستقَر الذي سيكون في سقر.
ونواصل في هذه الحلقة تلخيص مقال عن «الشبيحة» نشر في الأهرام العربي العدد 764 ونشرنا نصفه الأول في تلخيص في المقال السابق، وننشر نصفه الثاني في هذا المقال، مع التلخيص واستخلاص بعض الدروس. يقول كاتب المقال الكاتب السوري حسن جبران: «لقد كان لعصابات الشبيحة هذه فائدتان حيويتان بالنسبة للأسرة الحاكمة وهما أولاً: ترويع الناس وزرع ما يكفي من الخوف في قلوبهم بحيث لا يجرؤ أحدهم يوماً على التفكير في الاعتراض أو حتى التلفظ بكلمة لماذا؟
أما الفائدة الثانية فكانت إعطاء أولاد الرئيس منصة عريضة لإبراز بطولاتهم وحسهم الإنساني العالي ورفع شعبيتهم من خلال تصديهم المسرحي لهذه العصابات. ولا يكون التصدي، بالطبع، بالقضاء على العصابة، وإنما بحجبها عن الظهور أياماً يتنفس فيها الناس ويحمدون هذا أو ذاك من أبناء الرئيس، ثم ما تلبث أن تعود العصابة للظهور، وتعود تطلعات الناس إلى أحد أبناء الرئيس كي يعيد تمثيل دور البطل المخلص في المسرحية التي تسعد الناس ويحصل في نهايتها على تصفيقهم الحار، لأنّهم لم يحدوا خياراً آخر في ظل دولة لا يجرؤ فيها مسؤول كبير على التصدي لهم وجلبهم للعدالة، ولا يجرؤ قاض على الحكم عليهم بما يقتضي القانون. (هذا يبرز كم القضاء مهم، وكم مهم فصل السلطات الثلاث حقيقة، لا التحدث عنه حديثاً كما يجري في طول العالم العربي وعرضه وعلى ارتفاع صوته. والحقيقة أنّ كل السلطات مجمعة في مجمع واحدة، ومقبوض عليها في قبضة واحدة، وممسك بها بزمام واحد!)
هذا الدور ترك حصراً لأولاد الرئيس هم وحدهم من يحاسبون أبناء عمومتهم وأبناء خؤولتهم (وهذا يشمل أبناء العمات والخالات بالطبع الذي غلب التطبع!) وهكذا دارت مطحنة هذه المسرحية المؤلمة إلى أن جاء موسم القطاف الأكبر أثناء تحضير بشار الأسد للرئاسة، حيث كان لا بد من وجود أحداث وإنجازات تخلق له شعبية وحباً عند الناس، وتخلق أملاً بأنّ الأمير الشهم الشجاع سيكون ملكاً عادلاً. وبالفعل قام بشار بلجمهم إلى حد بدا معه الأمر وكأنّهم اختفوا من حياة السوريين وأنّ الرئيس المحتمل شخص متحضر وقادر على قمع الممارسات اللاقانونية حتى لو جاءت من أبناء أسرته. بمعنى آخر كان استثمار المسرحية ناجحاً جداً.
بشار الأسد حاول إعادة صياغة العصابة بشكل أكثر عصرية، فأعطاهم الأمر بأن ينتقلوا من مرحلة المهربين إلى مرحلة رجال الأعمال، ومن مرحلة المغتصبين للحقوق إلى مرحلة المستثمرين الذين يتمتعون بامتيازات، خصوصاً أنّ بعضها واضح وبعضها خفي، لهؤلاء في سوريا مجالات للحصول على ملايين سهلة لا تخطر في بال أحد، كتحرير كفالة مالية لشركة أجنبية نفّذت مشروعاً ضخماً في سوريا وعجزت أمام البيروقراطية السورية عن تحرير هذه الكفالة. هنا يبرز دور أبناء العائلة والمقربين منهم في اشتمام رائحة الصفقة والتقدم لحل مشكلة الشركة مع الحكومة مقابل حصولهم على نصف الكفالة المالية أو ربعها تبعاً للوضع، وفعلاً يتم حل المشكلة ببضعة مكالمات هاتفية واجتماع سريع مع الوزير المعني، الذي هو بالنسبة لهم ليس أكثر من موظف صغير عند العائلة. (بالمناسبة حدّثني تجار أردنيون عن شبيه بهذا حصل لهم في ليبيا مع سماسرة أولاد الحقيد الفقيد، فالمليون «حقهم» تحوّل إلى نصف مليون، على أن يوضع نصفه الآخر في حساب سري في أوروبا ويحوّل هناك ويوقّع التاجر على استلامه كامل حقوقه، أيّ المليون.
وحضرت مفاوضات طالب فيها مندوب السلطة بنسبة 10 في المئة للرئيس الأول، والصور تفوق الحصر، (لو جئنا نضع كل التفاصيل على الحصير) (ومن صور تكسّبهم غير المشروع في سوريا أنّ معابر الحدود تكاد تكون حكراً على الطائفة، بل إنّ التعيين هناك أو النقل من الداخل إلى هناك يمكن أن يشترى برشوة قد تبلغ ملايين الليرات. إنّ الموظف على الحدود يستطيع أن يشتري عمارة في دمشق من كسب سنة، فالرشاوى بلا حدود وبلا ضابط، والتاجر الذي يشتري الوقت وتسهيل مهمته مستعد أن يدفع الآلاف لتحقيق ذلك، وكلما كبرت قيمة البضاعة كبرت الرشوة بالطبع، «فالدافع» هم من الأغلبية، والأراضي والدور المشتراة هي للأغلبية، والخلل الاقتصادي والديموغرافي الذي يحدثه النظام في بنية المجتمع واضحة. لقد نشأت طبقة جديدة حديثة من محدثي النعمة، والملاك الجدد، وكله بسبب النفوذ، الذي نشأ من الاستئثار بالسلطة، وهذا يفسّر استماتة أزلام النظام ورموزه في التمسك بالضرع الذي يحلب لهم سمناً وعسلاً. إنّ زمام البلد دونه الموت، ولتسقط المؤامرة الكونية على سوريا).
نعود إلى المقال، يقول: الطريقة الثانية للثراء والتي تتناسب مع النفوذ الهائل (للأسرة طبعاً) والكفاءات شبه المعدومة لأفراد العائلة ومحيطهم، هي مشاركة رجال الأعمال في أعمالهم تحت مبدأ: «منك العمل ومني النفوذ».
وهكذا اختلفت آليات التشبيح، فلم يعد حاجة لهذا الظهور المسلح الفاقع ولذلك السلوك البربري العلني، فتم صرف أعداد من الشبيحة كل إلى مصيره كسائق تكسي أو مكيروباص أو حارس أو عاطل عن العمل يقوم بحكم خبرته بأعمال نصب وتشبيح محدودة. إلى أن جاءت ساعة الحسم، حسب تعبير القذافي، فعادت الحاجة ملحة إليهم وبأعداد كبيرة، وليس صحيحاً أنّ النظام السوري كان يستبعد كلياً زحف الربيع العربي باتجاهه، ربما استبعده جزئياً ولكن لم يلغه كاحتمال وارد الحدوث، واستعد لا للتعاطي معه، بل لسحقه.
من هنا برزت الحاجة الماسة للشبيحة الذين كان بعضهم في السجون بتهم مختلفة تشمل الاحتيال والسرقة والقتل والاغتصاب وغيرها من الجرائم، تم إطلاق سراح من كان مسجوناً واستدعاء من كان طليقاً ليتم تجميعهم من جديد وإنزالهم إلى الشوارع ليتصدوا للمتظاهرين ضرباً أو قتلاً إن لزم الأمر، وعملوا هذه المرة تحت سلطة مدنية لأحد مدراء الشركات الحكومية، ولكن السلطة الحقيقية بالطبع لأحد ضباط الأمن، ويقال أيضاً أنّه من عائلة الأسد، وكانت الغاية خلق انطباع بأنّ ما يحدث في سوريا هو صراع بين معارضين وموالين تخلله بعض العنف من الطرفين مما أدى إلى تدخل أجهزة الأمن وفض المظاهرات واعتقال بعض مثيري الشغب الذين هم بالضرورة ليسوا من أنصار النظام المزعومين، وإنّما من المعارضين الغوغائيين. ثم يعلّق الكاتب على هذا التدبير بقوله: «سيناريو بائس من اختراع عقل شديد البؤس، لم يدرك أنّ سيناريو كهذا لن يصمد وسيفقد مصداقيته عند أول فيديو ستبثه الضحية على مواقع التواصل. واليوم وبعد (ثمانية) أشهر أصبحت القضية واضحة المعالم للعالم، وهناك مئات الحكايات الموثقة بالصوت والصورة تثبت جرائم هؤلاء، وتثبت أنّها تتم بمعرفة وحماية النظام.
في هذه الأشهر المنصرمة بدأت تظهر لهؤلاء دوائر قيادية كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وبدأ يظهر بينهم نجوم بعينهم، عندما بدأت الأحداث كانوا سجناء معدمين لكنهم اليوم يركبون سيارات فاخرة لا يحلم بها سواد الشعب السوري ويتجولون في شوارع المدن تجوال الغازي المنتصر، أعدادهم ازدادت بصورة لافتة للنظر حتى أنّها قد تجاوزت الستين ألفاً في بعض التقديرات، ولكنها لم تقل عن العشرين في كل التقديرات الأخرى، ولم تعد تقتصر غالبيتهم على أبناء الطائفة العلوية بل أصبحت الطائفة السنية تنازعهم هذه الأغلبية، وخصوصاً في حلب التي وظف أحد رجال الأعمال فيها، ممن صنعهم النظام بالطريقة الآنفة الذكر، آلافاً من أبناء البدو الذين يسكنون أطراف المدينة، وأطلقهم كي يحتلوا الساحات والشوارع الرئيسية في حلب.»
وأترك بقية المقال لمقال قادم، لكن أقف عند تعقيب بسيط: برغم كل هذا الإجرام والسحل والذبح والشبْح والسلخ والنفخ، فإنّه بالتجربة لم يزد الشعب إلاّ اشتعالاً والثورة إلاّ ضراماً وتأججاً. طائر الخوف قد طار من قفص القلوب ولن يعود، والأنظمة بالتلويح والتشبيح تلعب في الوقت الضائع ولن تحقق أيّ أهداف بإذن الله، وفعلاً أنّه إذا الشعب صمم على تغيير واقعه فلا بد أن يتحقق له ذلك، أولم تكف تجربة تونس ومصر وليبيا، هل لا بد أن تنضم إليهم سوريا واليمن؟ فأبشر إذاً إنّهما لاحقتان ملحقتان، وإنّ الاثنين لن يكونا أمنع من الثلاثة، إنّها رياح المقادير هبّت على المنطقة بالتغيير، ولا راد لرياح المقادير، وإذا هبّت ريح الإيمان سارت سفن الحق إلى شواطيء الأمان.
والسحل متواصل، ولن يحقق نتائجه المرجوة «واصل»، وحديث السحل متواصل، وبرغم ذلك: فالنصر قادم عاجلاً غير آجل .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين