الشام بين غزو التتار وجريمة بشار

بقلم: د. حمزة محمد وسيم البكري

 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، وبعد:
يقفُ المؤرخون حيارى فيما يقعُ على الأمة الإسلامية من شدائد ومصائب، لا سيما إذا عظمت، فتراهم مُحجِمين والإقدامُ سجيّتُهم، مُتردِّدين والحزمُ شكيمتُهم، فماذا عساهم يكتبون؟ أينشـرون تلك الصفحةَ التي يملؤها الحزنُ والألم في سِجِلّاتِ التاريخ، أم يطوونها لينتهي خبرُها بعد انقضاء أثرها؟
لكنها أمانةُ العلم ألزمتهم تسجيل تلك الحوادث، فلئن جفَّ ريقُ القلم عن النطق بتلك الكلمات، فليخطها دمعُ العين مُسوِّداً بها أبيض الصفحات، وليرقمها في ثنايا القراطيس والدفاتر، ولئن قُدِّرَ لهذا الآخر أن يجفّ، فلتُنظَر جروحاً قد غارت في خفايا الصدور والضمائر.
ومن شواهد ذلك ما سجّله العلامةُ المؤرخ ابنُ الأثير في تاريخه «الكامل»، تحت عنوان «ذكر خروج التتر إلى الشام»، وقد عاش تلك الأيام الأليمة، فاكتوى قلبُه بنارها ألماً على المسلمين، وقد أصابهم ما أصابهم، وما قُدِّرَ له أن يرى الفرجَ منها، فقد قبضه الله إليه سنة 636، وكان انفراجُ تلك البلية سنة 658، قال رحمه الله تعالى: «لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها».
فإذا كان هذا حالُ شيخ المؤرخين في تسطير تلك الحادثة؛ أن يُقدِّم رجلاً ويؤخر أخرى، فلمثلي ـ ولستُ من التأريخ في شيء ـ أن يؤخر رجلاً ويؤخر أخرى في تسطير شيء من حوادث هذا العصر.
لكنها حمية الدين، ونصرة عباد الله المؤمنين، تقتضي مني أن أُقدِمَ ولا أتهيّب، وأخوضَ الميدانَ ولا أتغيّب، فأقول سالكاً طريق التصريح تارةً والكناية أخرى:
[1].)إن ما تتعرضُ له اليومَ أرضُ الشام وما جاورها، لا سيَّما حمص ودرعا وإدلب وحماة، شبيهٌ بما تعرّضت له الأمةُ الإسلامية قبل ثمانية قرون من غزوات التتار، التي بدأت ببلاد ما وراء النهر مروراً ببغداد إلى أن انتهت ببلاد الشام المحروسة، بل إنك إذا أمعنتَ النظر في الأمرين رأيتَ توافقاً عجيباً، وليس هذا من المبالغة في شيء، بل هو قراءةٌ جديدةٌ للتاريخ من زاوية خفية، ولا يخفى أن البلاء في غزوات التتار أعم، وأن الجرم أفظع، لكن الكلام في وجوه الشبه والموافقة، دون التماثل والمطابقة(
أولاً: تعدُّد أنواع الجريمة من سفك الدماء ونهب الأموال وهتك الأعراض والفظاعة في التعذيب:
ففي غزوات التتار يذكر ابنُ الأثير أنهم في غَزْوهم بلاد خوارزم أنهم لـما ملكوا البلد «قتلوا كل من فيه، ونهبوا كل ما فيه»، ثم فتحوا مياه السَّدِّ الذي يمنعُ نهر جيحون عن البلد، «فغرق البلد جميعه، وتهدمت الأبنية، وبقي موضعه ماء، ولم يسلم من أهله أحد البتة».
ويذكر ابنُ كثير في «البداية والنهاية» في حوادث سنة 616: أنّ التتار لـمّا غزوا بخارى «قتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عزّ وجلّ، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعُذِّبَ بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال».
ويذكرُ ابنُ كثير أيضاً في حوادث سنة 656 خبر دخولهم بغداد فيقول: «ومالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار؛ إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم، فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكذلك في المساجد والجوامع والربط ...، وعادت بغداد بعدما كانت آنسَ المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها أحد إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة»، وذكر أيضاً: أنّ السيفَ ما زال يقتلُ في أهل بغداد أربعين يوماً.
ثم قال ابنُ كثير: «وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد ...، وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء، وأُسِـرَ جماعةٌ من أولاد الأنبياء، وخُرِّبَ بيتُ المقدس بعدما كان معموراً بالعُبّاد والزُّهّاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء».
قلت: وهذا حال سوريا اليوم، سفك للدماء البرئية، بلا تفريق بين رجل وامرأة وطفل ومُسِنّ، وتعذيبٌ للناس بلا جُرْم اقترفوه، وهتكٌ للأعراض ونهبٌ للأموال، وإفسادٌ عريضٌ في البلاد، وهذا حيّ بابا عمرو قد أصبح خراباً، وكأنه بلدٌ مهجورٌ من عشرات السنوات، فالله المستعان على عدوان أولئك المفسدين.
ثانياً: قَصْد المساجد وتخريبها وتدنيسها:
ويذكر ابنُ كثير في «البداية والنهاية» أيضاً أنّ التتار تمكّنوا في سنة واحدة (616 ـ 617) الاستيلاء على بلاد المسلمين من بلاد الصين إلى بلاد العراق، فـ«ملكوا جميع هذه البلاد إلا العراق والجزيرة والشام ومصر»، ثم يختصرُ ابنُ كثير العبارات في وصف إجرامهم فيقول: «وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله، فيطلقون فيه النار، وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع».
ومرَّ في كلام ابن كثير أيضاً في حادثة بغداد أنهم دنَّسوا المساجد والجوامع والربط.
قلت: وهذا حالُ جند بشار اليوم، يقصدون المساجد تخريباً وتدنيساً، فحق عليهم قولُ الله تبارك وتعالى: ﴿ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ [البقرة: 114]، وليحذر أولئك من قول الله عز وجل: ﴿قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً﴾ [مريم: 75].
ثالثاً: الاستعانة بالشيعة الرافضة في القتل والإفساد:
ما تيسَّـر للتتار دخولُ بغداد إلا بمعاونة وزير الخليفة العباسي يومئذ، أعني الوزيرَ ابنَ العلقمي، أحد الشيعة الرافضة، وكانت وقعت الفتنة ببغداد بين أهل السنة والرافضة سنة 655، ونُـهِبَت فيها دور قرابات الوزير، فاشتَدَّ حَنَقُه على أهل السنة، وكان هذا مما أهاجَه على أن دَبَّـرَ على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يُؤرَّخ أبشعُ منه منذ بُنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، كما يقولُ ابنُ كثير.
وكان الوزيرُ ابنُ العلقمي هذا هو مَن أشار على هولاكو أن لا يصالح الخليفة في ملأ من الرافضة والمنافقين، ثم حَسَّنَوا له قتل الخليفة، فقُتِلَ خليفةُ ذلك الوقت المستعصم بالله سنة 656.
[2]، لكان قد انتهى أمرُه منذ زمن، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.)قلت: واستعانةُ عصابة النظام في سوريا اليوم بالنظام الإيراني وحَرَسِهِ الثوري أشهرُ من أن يُنظَر فيه بعين الشك، ولولا وقفة إيران مع النظام السوري من جهة، ووقفة روسيا والصين معه من جهة أخرى(
رابعاً: العراق والشام لا تُستَحلُّ إلا في حال عدم وجود خليفة (وفيه مُجمَل أحداث سنتي 657 و658):
يُلاحَظُ أن مشرقَ الدولة الإسلامية كان سقطَ بيد التتار وما زالت بقايا الدولة العباسية موجودة، وما زال الخليفةُ قائماً ببغداد، إلا أنّ العراق والشام لم تسقط في أيديهم، ولا استُحِلَّت من أعداء الله تعالى إلا بعد نقض بقايا بنيان الدولة العباسية، فقد تمكّن التتار من قتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس سنة 656، «وشغر منصبُ الخلافة بعده»، كما يقولُ ابنُ كثير، وكان الحكم في الشام للأيوبيين، وفي مصر للمماليك، فاستُحِلَّتِ العراق في ظِلّ هذه الفُرْقة.
ثم «استُهِلّت سنة 657 وليس للمسلمين خليفة»، كما يقولُ ابنُ كثير، واستُحِلَّت فيها الجزيرةُ وحرّان.
ثم «استُهِلّت سنة 658، وليس للناس خليفة»، كما يقول ابنُ كثير أيضاً، وقد ملك التتارُ بلاد المشرق والعراق، وسلطانُ دمشق وحلب يومئذ الملكُ الناصر يوسف بن محمد الأيوبي، وسلطان الكرك الملكُ المغيث عمر بن محمد الأيوبي، وأكبرُ همِّهما يومئذ محاربةُ سلطان مصر الملك المظفر سيف الدين قطز، وقد عزما في هذه السنة على قتال المصريين وأخذ البلد منهم.
وبينما الناس على هذه الحال، وقد تواترت الأخبار بقَصْد التتار بلاد الشام، إذ زحف جيشُ التتار إلى حلب ثم إلى دمشق، واستولوا عليهما.
وفرَّ الملكُ الناصر من دمشق، وتهيّأ للرحيل إلى مصر، قال ابنُ كثير: «وليتَه فعل، وكتب إليه الملك المُظفَّر قطز يستحثُّه على ذلك، وكتب إليه: تقدّم حتى نكون كتفاً واحداً على التتار، ولكنه خاف منهم لأجل العداوة، فكرَّ راجعاً، وعدل إلى ناحية الكرك، فتحصَّن بها، وليته استمر فيها، ولكنه قلق، فركب نحو البرية، وليتَه ذهب فيها واستجار ببعض أمراء الأعراب، فقصدته التتار، وأتلفوا ما هنالك من الأموال، وخرّبوا الديار، وقتلوا الكبار والصغار، وما زال التتارُ وراءه حتى أسروه وأرسلوه إلى ملكهم هولاكو، وما زال في أسره حتى قتله سنة 659»، انتهى باختصار.
وفي هذه السنة سار الملك المُظفَّر قطز بجيشه إلى الشام للقاء التتار، فبادرهم قبل أن يبادروه، فكان اجتماعُهم في عين جالوت في 25 من رمضان، فاققتلوا اقتتالاً عظيماً، وكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة.
وفي السنة التالية لهذه، وتحديداً في 13 رجب 659، بُويعَ المستنصر بالله ـ عم المستعصم بالله الذي قتله التتار سنة 656 ـ بالخلافة في مصر، وعاد منصبُ الخلافةِ بعد أن شغر منذ ثلاث سنين ونصف.
قلت: وهذا ـ والله ـ من عجائب الأمور التي تستحقُّ النظر الطويل والدراسة المتأنية، فهذه الخلافةُ الإسلاميةُ انتهت بهدم الدولة العثمانية العلية منذ نحو تسعين سنة، وفي هذه السنوات التسعين استُحِلّت أكثرُ بلاد الإسلام بالاستعمار أولاً، ثم بالأنظمة الفاسدة الظالمة ثانياً، ثم بالغزو الأمريكي ـ الصليبي الجديد ـ على بلاد العراق، واليوم بالغزو الداخلي من النظام السوري على سوريا.
خامساً: ليميز اللهُ الخبيث من الطيب:
من سُنّة الله عزّ وجلّ في خلقه أن جعل في الفتن مَيْزاً بين الطيب والخبيث، والمخلص والمنافق، والناصح والخائن، إلى غير ذلك من معادن الناس.
وليس الكلام هاهنا في ذلك عموماً، إذ يقصر المقامُ عن تحصيله، وإنما الكلام في العلماء خصوصاً، وذلك لعظيم تأثيرهم في العامة، وفي الفتن مَيْزُ علماء الحق المخلصين من علماء السوء المفسدين.
الفريق الأول: علماء السلاطين:
ـ العالم المستوزر:
وفي غزوات التتار نرى النصير الطوسي ـ واسمه محمد بن عبد الله، ويُلقَّب بنصير الدين، وهو مَن هو في علم الكلام والفلسفة، على فسادٍ في اعتقاده حيثُ يميلُ إلى أقوال الفلاسفة تارة وإلى أقوال المعتزلة أخرى، وكتابُه «التجريد» من الكتب التي عُني بها أكابرُ العلماء من بعده شرحاً وتدريساً ـ نراه قد تولى الوزارة لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد، وقيل: إنه أحدُ مَن أشار عليه بقتل الخليفة، وتَوقّفَ ابنُ كثير في تصديق ذلمك في حقه، وقال: «وعندي أنّ هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل».
وعلى كُلّ، فالنصير الطوسي هذا إن كان بريئاً من الإشارة على هولاكو بقتل الخليفة، فليس بريئاً من دمه، ولا من دماء مئات الآلاف الذين قتلوا على يدي التتار في واقعة بغداد، وهو وزيرُ هولاكو يومئذ.
ـ القاضي المُداهن:
ولما دخل هولاكو الشام أرسل تقليداً بولاية القضاء على جميع المدائن الشام والجزيرة والموصل وغيرها، ومن أولئك القضاة مَن تولاه كارهاً مجبوراً، ومنهم من تولاه ساعياً إليه مسـروراً، وليتَ شعري كيفَ يطيبُ له تولي القضاء في عهد ذلك الظالم اللعين؟!
هذا محيي الدين ابنُ الزكي يسيرُ من دمشق إلى حلب ليجتمع بهولاكو ساعياً في طلب قضاء دمشق، ويعود إليها وقد تمّ له ما أراد، وقُرِئَ تقليدُه القضاء تحت قُـبّـةِ النسـر عند الباب الكبير، بمحضر أمير دمشق من قِبَلِ هولاكو وزوجته، وحين ذُكِرَ اسمُ هولاكو نُثِرَ الذهبُ والفضةُ فوق رؤوس الناس، كما ذكره ابنُ كثير، وقال بإثره: «فإنا لله وإنا إليه راجعون، قَبّحَ الله ذلك القاضي والأمير والزوجة والسلطان».
الفريق الثاني: علماء الحق:
وفي مقابل هذه الصورة المُظلِمة المُخزية لبعض علماء ذلك العصر نرى صورةً مُشـرِقةً مُشـرِّفةً لعلماء آخرين، قالوا كلمة الحق وصبروا، وأنكروا المنكر وبالحق صدعوا، وأبوا الظلم والطغيان، وما رضوا بالذلة والهوان، وفي بطون كتب التاريخ سُطِّرت أسماؤهم، وسُجِّلت مواقفُهم.
منهم أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، كان عدواً للوزير ابن العلقمي، فقُتِلَ في دخول التتار بغداد سنة 656.
ومنهم شيخُ الشيوخ ببغداد، صدر الدين أبو الحسن ابن النيار؛ ذبح بدار الخلافة على أيدي التتار كما تذبح الشاة.
ومنهم الشيخ الصوفي العابد علي الخباز، كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتله التتار وألقوه على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه.
وهذه ثلاثة أمثلة للعالم المُحِقِّ القريب من الحدث، أما العالـمُ المُحِقُّ البعيدُ من الحدث فخيرُ مثال له سلطان العلماء عزُّ الدين ابنُ عبد السلام، وكان في مصر، والفتنةُ في العراق والشام، وموقفُه مع السلطان قطز في الخروج إلى حرب التتار مشهور.
قلت: وهذه أحداثُ سوريا اليوم أبانت حقائقَ الناس ومعادنهم، وميّزت الخبيثَ من الطيِّب، والمواقفُ المُشـرِّفةُ لعلماء الحق في سوريا كثيرةٌ مشهورة، وقد طالعنا بيانات العلماء بياناً إثر بيان، وفيها إنكار المنكر تصريحاً تارةً وتلويحاً أخرى، ولكن كدَّر ذلك الصفاء بضعةُ مواقف لبعض العلماء، وهي قليلة، ولكنها في خطرها جسيمة، وزلةُ العالِـم زلةُ العالَـم كما قالوا، ولولا صَوْنُ جلالةِ العلم، وحِفظُ هيبةِ العلماء، وخشيةُ أن يُتَّخذَ الكلامُ في أولئك النفر سُلّماً للنيل من مقام العلماء عامةً؛ لَسَمَّيتُهم بأسمائهم، وعلى كُلٍّ فأمرُهم إلى الله تعالى، أما فِعلُهم في تسويغ ظلم الظالم وانحيازُهم إلى المُجرم الآثم، فلا يُمكِنُ إقرارُه بحال من الأحوال.
وليتذكر هؤلاء ما قصَّه العلامةُ الزمخشريُّ في «الكشاف»؛ في تفسير قوله تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون﴾ [هود: 113]، قال: «ولـمّا خالط الزهريُّ السلاطين كتب إليه أخٌ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحتَ بحالٍ ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحتَ شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نِعَمُ الله بما فَهَّمَك الله من كتابه، وعَلَّمَك من سُنّة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه: ﴿لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ [آل عمران: 187]، واعلم أنّ أيسَـرَ ما ارتكبت، وأخفَّ ما احتملت: أنك آنستَ وحشةَ الظالم، وسَهَّلتَ سبيلَ الغيِّ بدُنُوِّك ممن لم يُؤدِّ حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك قطباً تدورُ عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم، وسُلّماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يُدخِلونَ الشكَّ بك على العلماء، ويقتادون بك قلوبَ الجهلاء، فما أيسَـرَ ما عمَّروا لك في جنب ما خرَّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يُؤمِنُك أن تكون ممن قال الله فيهم: ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً﴾ [مريم: 59]، فإنك تُعامِلُ مَن لا يجهل، ويحفظُ عليك مَن لا يَغفُل، فداوِ دينَكَ فقد دخله سقم، وهيِّئ زادك فقد حضـر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام».
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 
         وكتب
في 14 ربيع الآخر 1433                                            
         بعمان الأردن
 
*         *         *
 
هذا المقال أصله خطبة الجمعة التي ألقيتها في مسجد حمزة بن عبد المطلب بعمّان الأردن يوم الجمعة (2 ربيع الآخر 1433 ـ  24/2/2012)، ثم طلب مني بعضُ أساتذتي الأفاضل أن أرسلها إليه، فوقع في نفسي أن أجعلها مقالاً، والحمدُ لله على ما يسَّـر، وصلّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
 
*         *         *



([1]) ومثلُ هذه المقارنة في قراءة أحداث التاريخ ليست ببدع من القول عند أهله، فقد سلكها غيرُ واحد منهم في غير ما موضع، ومن ذلك ما سيأتي نقلُه من كلام ابن كثير في أحداث سقوط بغداد.
([2]) ووقفةُ إيران معه وقفةٌ داخلية ويغلبُ عليها الجانب العسكري، ووقفة الصين وروسيا معه وقفة خارجية دولية، ويغلب عليها الجانب السياسي.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين