السياسة والدين حوار أم صدام ؟

د.أحمد محمد كنعان

تختلف الممارسات السياسية في الإسلام عن غيرها من الممارسات السياسية التي شهدها التاريخ ولاسيما منها الحكومات الثيوقراطية (Theocracy) أو الدينية التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى ، ونحن هنا سوف نتحدث عن منهاج التشريع الإلهي في هذه المسألة وليس عما جرى على أرض الواقع عبر التاريخ الإسلامي ، لأن ما جرى عبر هذا التاريخ لم يكن دوماً يستلهم المنهاج الإلهي في ممارساته السياسة ، بل كان يقترب منه حيناً ويبتعد أحياناً وفق ما تمليه الظروف والأشخاص والأهواء والمصالح والغايات .
          وقد كثر الحديث في العقود الأخيرة حول إشكالية السلطة في الإسلام ، أو ما يعرف بفصل الدين عن الدولة ، أو الفصل ما بين السلطتين الزمنية والروحية ، وقد أثيرت هذه القضية منذ زمن مبكر في التاريخ الإسلامي بل كانت هي الشرارة التي فجرت ( الفتنة الكبرى ) ابتداء من مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وما تلا ذلك من نزاع بين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ومعاوية بن أبي سفيان مما أسفر عن ولادة ظاهرة الخوارج الذين قاموا في وجه علي متهمين إياه بأنه ( لا يحكم بما أنزل الله ) وقد كان من نتيجة هذه الإشكالية جرح غائر في تاريخنا الإسلامي لم يلتئم حتى اليوم !
          وقد أعيد إنتاج هذه الإشكالية مراراً في فترات مختلفة من تاريخنا الإسلامي ، وعادت للظهور على السطح مرة أخرى في العصر الحديث ، ولعل من أوائل من تجرؤوا على إثارتها في أوائل القرن العشرين الشيخ علي عبد الرازق الذي كان يعمل قاضياً بمحكمة المنصورة الابتدائية في مصر ، حين أصدر في عام 1925 كتابه ( الإسلام ونظام الحكم ) الذي نفى فيه الصفة الدينية عن نظام الحكم في الإسلام ، وبدا الكتاب في حينه وكأنه رجع الصدى لكتاب المستشرق البريطاني ولفريد سكوون بلانت الذي نشره بعنوان ( مستقبل الإسلام ) ودعا فيه المسلمين لفصل السياسة عن الدين ، وقد أثار كتاب الشيخ علي عبد الرازق ردود فعل غاضبة من قبل علماء الأزهر ونفر واسع من علماء الأمة الإسلامية ، وأدين الشيخ بحجة أنه جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بأمور الدنيا ، وأن جهاد النبي e كان في سبيل المُلك لا في سبيل الدين ، وأن نظام الحكم في عهد النبي e كان غامضاً مبهماً موجباً للحيرة ، وأن مهمة النبي كانت مجرد بلاغ للشريعة ولا علاقة لها بالحكم ، وأنكر إجماع الصحابة على وجوب تنصيب إمام للمسلمين ، وزعم أن حكم الخلفاء الراشدين لم يكن دينياً !
وبالرغم من أن الشيخ قد فُصل من وظيفته ، وأخرج من زمرة العلماء ، وصودر كتابه ومنع من نشره ، إلا أن الأفكار التي أثارها وجدت لها فيما بعد مؤيدين من بعض المفكرين أولاً ثم من بعض أصحاب القرار الذين بدؤوا ينتهجون النهج العلماني في تسيير السياسة العامة في معظم البلدان الإسلامية ، مما أثار موجة احتجاج مضادة من قبل نخبة من الإسلاميين الذين راحوا يرفعون شعارات ( تطبيق الشريعة ) ونشطوا في تشكيل جماعات إسلامية لتحقيق هذا الهدف في شتى البلدان العربية والإسلامية ، وقد حدثت مواجهات كثيرة بين هذه الجماعات من جهة وبين أنظمة الحكم التي لم تلبي هذا المطلب من جهة أخرى ، وكانت المواجهات في كثير من الأحيان دامية ، ومازالت المواجهات قائمة بين الطرفين ، هنا أو هناك ، مشَكِّلة استعصاء سياسياً أشبه بالدخول في نفق مظلم لا ندري متى الخروج منه !؟
ونظراً لطبيعة بحثنا هذا فإننا لا ننوي الخوض في تفاصيل هذه الإشكالية ودهاليزها الشائكة الخطرة ، لكن تكفينا الإشارة هنا إلى أن هذه الإشكالية ترجع أساساً إلى أن الإسلام يطالب معتنقيه بأن يستهدوا بنور الوحي الإلهي في السياسة وفي غيرها من شؤون الحياة ، على النقيض من المناهج الوضعية التي لا تقيم وزناً للوحي الإلهي وتعتمد العقل مرجعية وحيدة لها ، وقد تكلم الفقهاء طويلاً في هذه المسألة ، وصنفوا فيها العديد من الكتب من أشهرها كتاب ( الأحكام السلطانية والولايات الدينية ) للإمام الماوردي و ( السياسةالشرعية ) لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وغيرهما ممن فصَّلوا سمات الحُكْم من الوجهة الشرعية .
ولعل أفضل من يحدثنا عن هذه الإشكالية العلاَّمة "ابن خلدون" هذا المفكِّر الرائع الذي يفرض علينا حضوره في كل مناسبة ، ونحن لا نعود هنا إلى ابن خلدون لأنه فقيه فيلسوف مؤرخ فحسب ، بل لأنه فوق ذلك كله قد اكتوى بنار السياسة حين تولى مناصبها في بلدان إسلامية مختلفة وعرَّض نفسه مرات عديدة للموت لأنه تجرأ على اجتراح هذا الفعل المحفوف بالمخاطر ، وعندما أحسَّ ابن خلدون بالعيون تترصد حركاته وتتربص به الدوائر لم يتردد باعتزال السياسة وأهل السياسة ليعكف على رياضته المفضلة في التفكير والتأمل والتأليف ، فطلع علينا بفصل شيِّق طويل في كتابه ( المقدمة ) عقده تحت عنوان ( في معنى الخلافة والإمامة ) ميز فيه بوضوح ما بين السياسة الدينية والسياسة الدنيوية ، وأول ما يسترعينا في عرض ابن خلدون أنه استخدم مصطلح ( الخلافة ) للسياسة التي مرجعها ديني ، بينما استخدم مصطلح ( المُلْك ) للسياسة التي مرجعها غير ديني ، وتحدث عن القوانين المتبعة في السياسية فقال : ( فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبُصَرائها كانت سياسة عقلية ، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط .. بل المقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم .. فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة ، حتى في المُلْك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني ، فأجْرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع . فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب .. فَجَوْرٌ وعدوان ومذموم عنده .. وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضاً لأنه نَظَرٌ بغير نور الله .. لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم ، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم .. وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط .. ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم ، فوجب ـ بمقتضى الشرائع ـ حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم ، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء )[1] .
ويخلص ابن خلدون بعد نقاش طويل لمسألة الخلافة والمُلْك إلى أن بؤس العالم الإسلامي والعنف السياسي السائد فيه يعود بالدرجة الأولى إلى أن الخلافة التي تعد رسالة إلهية في الإسلام قد تحولت بعد العصر الراشدي إلى مُلْك ، أي إلى استئثار بالحكم لا يخضع لقانون سوى أهواء الأمير ، وذهب ابن خلدون إلى أن الخلافة تناقض الملك لأن الخلافة تعني خضوع الحاكم نفسه للشريعة الإلهية ما يجعل رغباته الذاتية لا شرعية ، وفي ذلك تكمن عظمة الإسلام باعتباره نموذجاً سياسياً حسب ابن خلدون ، فالخليفة مقيد بأحكام الشريعة وكذلك رغباته وشهواته ، أما الملك فلا يعترف بأي قانون أعلى من سلطته هو ، بل تمتاز الخلافة عن الملك بشيء آخر ، فالملك يسهر على مصالح المحكومين الدنيوية فحسب ، أما الخلافة فتسهر أيضاً على آخرتهم ، كما أن الخليفة ليست لديه حرية التصرف التي يتمتع بها الملك ، لأن الخليفة مقيد بالشريعة التي تنطبق عليه كما تنطبق على سائر الرعية ، وهنا تكمن في نظر ابن خلدون جدَّة الإسلام وخصوصيته السياسية الفريدة ، وينبهنا ابن خلدون إلى جانب آخر على درجة كبيرة من الأهمية ، وهو أن الخليفة ليس مقيداً بالشريعة الإلهية فحسب ، ولكنه فوق هذا لا يملك لها تغييراً ، فإنه مهما كانت قوته فإنه لا يملك في عرف الشرع سلطة التشريع ولا حق التشريع ، لأن المشرع الوحيد هو الله سبحانه وتعالى ، وما مهمة الخليفة إلا تطبيق الشرع[2]
          وبسبب هذا الاختلاف الجوهري ما بين الخلافة والملك ، وانقلاب الخلافة إلى ملك عضوض حل محل الخلافة الراشدة ، نشأت صراعات مريرة ومواجهات دامية عديدة على طول تاريخنا الإسلامي بين المطالبين بإقامة الخلافة وبين الطامعين بالملك ، ومازالت هذه المواجهات قائمة إلى يومنا الحاضر ، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الإشكالية كان يمكن أن تحل بهدوء وسلام من خلال الحوار الهادئ بين الطرفين ، إلا أن هذا الأمل العزيز ظل بعيداً عن التحقيق ، وذلك لسببين اثنين يفضي أحدهما إلى الآخر ليدخلا معاً في حلقة مفرغة يتعذر الخروج منها :
السبب الأول : يأتي من قبل المطالبين بتطبيق الشريعة وعودة الخلافة ، الذين يعتقدون أنهم يطالبون بواجب شرعي لا يرفضه إلا خارج عن الملة ، فهؤلاء يرون أن المسألة تتعلق مباشرة بثنائية ( الإيمان / الكفر ) ومن ثم يمسي الاتهام بالكفر تهمة جاهزة لديهم ضد معارضيهم .
والسبب الثاني :يأتي من قبل المعارضين لتطبيق الشريعة وعودة الخلافة ، الذين يعتقدون أن تطبيق الشريعة يعني العودة بالمجتمع إلى صورة الحكم الديني (الثيوقراطي) الذي عرفته أوروبا وذاقت منه الأمَرَّين في حقبة طويلة من تاريخها المظلم ، ويتوجسون فوق هذا أن وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم يعني إقامة (محاكم تفتيش) جديدة لتطهير المجتمع من الكفار !
وما بين هؤلاء وأولئك عاشت الأمة ردحاً طويلاً من تاريخها في أزمات سياسية متلاحقة مازالت تدور في دوامتها العنيفة التي نعتقد أن لا مخرج منها إلا بالحوار الهادئ الرصين والقبول بالطرف الآخر مهما كان رأيه مخالفاً لرأينا ، مع الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى التي استطاعت أن تنزع فتيل هذا النزاع بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع ، هذه الصناديق التي استطاعت بجدارة أن تحول وجهة الأزمة من صراع على السلطة إلى تنافس على ممارسات سياسية أفضل ليست بالضرورة لوجه الله كما يأمل أهل الدين ، بل ربما تكون بدافع الطمع للبقاء في (الكرسي) فترة انتخابية ثانية ، ومع أن هذا الدافع قد لا يريح أهل الدين إلا أنه أفضل بكثير مما جربنا عبر تاريخنا الطويل الذي أسلمنا فيه مصيرنا للحاكم ، تاركين إياه لضميره ، إن شاء عدل وإن شاء ظلم ، وعندئذ سوف نتخلص إلى غير رجعة من ذلك النفاق السياسي الذي ظل يجبرنا على الدعاء للسلطان بطول البقاء لا لأننا راضون عنه ، بل لأننا نخشى أن يخلفه من هو أشد منه بطشاً وأشد تنكيلا[3] !
          وغني عن البيان أن دعوتنا هذه ليست دعوة مفتوحة لتبني المنهج الديمقراطي الغربي بخيره وشرِّه ، بل هي دعوة للاستفادة من تجارب الأمم التي استطاعت أن تحول مبدأ (الشورى) الذي هو مبدأ إسلامي أصيل إلى مؤسسات راسخة قادرة على تنصيب سلطان مكان سلطان دون إراقة قطرة دم واحدة ، فيما عجزنا نحن المسلمين عن هذه النقلة ، بل على العكس منها قدمنا ثلاثة من خلفائنا الراشدين شهداء على مذبح السياسة ، بينما نجد في العصر الحديث دولاً شتى قد تناوب على حكمها رؤساء كثيرون دون أن تدخل متاهة التصفيات السياسية ، وها نحن اليوم نشاهد عدداً من رؤساء تلك الدول الذين مازالوا على قيد الحياة وقد تنازلوا طائعين عن (الكرسي) بعد انتهاء مدة ولايتهم ليتابعوا حياتهم العادية معززين مكرمين ، بينما لا نجد في أي بلد إسلامي رئيسين في وقت واحد على قيد الحياة .. اللهم إلا إذا كان أحدهما في غياهب السجون ، أو في المنافي البعيدة !
         
***
 
 
 
 
 



[1] - ابن خلدون : المقدمة ، ص 177 .
[2] - فاطمة المرنيسي : سلطانات منسيات ، ص 9 و 10 .
[3] - للمزيد من التوسع في هذه الأفكار يمكن الرجوع إلى كتابنا ( العقلية الإسلامية بين إشكالات الماضي وتحديات المستقبل ) دار الآفاق والأنفس ، دمشق 1995 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين