السياسة في القرآن(3)

محاضرة للمؤرّخ الفاضل الأستاذ الشّيخ محمد راغب الطّباخ (3)

وكيف قتل داود جالوت؟

كان داود عليه السلام راعياً له سبعة أخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أرسل يسّى ابنَه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصافِّ، وبَدَرَ جالوت الجبار - وكان طويلاً عظيم الجثة - إلى البراز فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم.

فقال داود لإخوته: أما منكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته، فمرَّ به طالوت - وهو يُحرِّض الناس -، فقال داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟

فقال طالوت: أنكحه ابنتي، وأعطيه نصف ملكي.

فقال داود: فأنا خارج إليه، وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئبَ والأسدَ في الرعي، فأخذ داود ثلاثة أحجار، فلما رماه بمقلاعه أصابه في صدره، وقتل بعده غيره، فهزم الله جنود جالوت.

قال المسعودي في " مروج الذهب ": وَذُكِرَ أن الموضع الذي قتل فيه داود جالوت بَيْسَان من أرض الغور في بلاد الأردن.

وقال ابن كثير في " تاريخه " نقلاً عن ابن عساكر: إنَّ قتله كان عند قصر أم حكيم، وإن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية.

وقصر أم حكيم هو بقرب مرج الصُّفَّر، ومرج الصفر - كما قال في" معجم البلدان" - بدمشق.

وقد ذكره خالد بن سعيد بن العاص في شعره - وقد قتل فيه -، فقال:

هل فارسٌ كَرِهَ النِّزَال يعيرني = رُمْحاً إذا نزلوا بمرج الصُّفَّر

وفي صموئيل الأول - وهو السفر (السابع عشر) من كتب العهد القديم - وصفٌ ضافٍ لهذه الحرب، وممَّا جاء فيه: لما جمع الفلسطينيون وبنو إسرائيل جيوشهم نزلوا فوق جبلين متقابلين بينهم واد، فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جُليات (أي: جالوت)، وعليه درع عظيمة، وجرموقا ([2]) نحاس على رجليه، فوقف ونادى صفوف إسرائيل، وقال لهم: لماذا تخرجون لتصْطَفُّوا للحرب؟ اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليَّ؛ فإن قَدِرَ أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيداً، وإن قَدِرْت أنا عليه وقتلتُه تصيرون أنتم لنا عبيداً وتخدمونا.

ولما سمع جميع بني إسرائيل كلام الفلسطيني هذا، ارتاعوا وخافوا جدًّا، وكان الفلسطيني يتقدَّم ويقف صباحاً ومساء أربعين يوماً.

فقال يسَّى لداود ابنه: اذهب، وافتقد سلامة إخوتك - وكانوا في الجيش -، فبكَّر داود وجاء إلى موضع الحرب، والجيش خارج إلى الاصْطفاف، فجاء داود إلى الصف، وسأل عن سلامة إخوته، وبينما هو يكلمهم إذا برجل مبارز - اسمه: جليات - صاعداً من صفوف الفلسطينيين، وتكلم بمثل هذا الكلام.

فقال رجال إسرائيل: إنَّ الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنىً جزيلاً، ويعطيه ابنته، فكلَّم داود الواقفين معه قائلاً: ماذا يفعل الرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني، ويزيل العار عن إسرائيل؟ من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يُعيِّر صفوف الله الحي؟

فكلّمه الشعب بمثل هذا الكلام قائلين: كذا يفعل الرجل الذي يقتله - أي: يُجزى الجزاء الذي ذكر -.

واتصل هذا الكلام بسمع شاول (طالوت)، فاستحضر داود، فقال داود لشاول: لا يسقط قلب أحد بسبب هذا الفلسطيني، عبدك يذهب ويحاربه، فقال شاول لداود: لا تستطيع أن تذهب إليه لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه.

فقال داود لشاوُل: كان عبدك يرعى لأبيه غنماً، فجاء أسد مع دبٍّ، وأخذ شاة من القطيع، فخرجت وراءه وقتلته، وأنقذتها من فيه، ولما قام عليَّ أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته، قتل عبدك الأسد والدبَّ جميعاً، وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما؛ لأنه قد عيَّر صفوف الله الحي، والربُّ الذي أنقذني من يد الأسد والدبّ هو ينقذني من يَدِ هذا الفلسطيني.

فقال شاول لداود: اذهب وليكن الرب معك، وألبسه ثيابه، وجعل خوذة من نحاس على رأسه، وألبسه درعاً، فتقلَّد داود بسيفه فوق ثيابه وعزم أن يمشي، فقال لشاول: لا أقدر أن أمشي بهذه؛ لأني لم أجربها، ونزعها داود عنه، وأخذ عصاه بيده، وانتخب له خمسة حجارة ملس من الوادي وأخذ مقلاعه، وتقدَّم نحو الفلسطيني.

فلما رآه استحقره؛ لأنه كان غلاماً أشقر جميل المنظر، وبعد محاورة جرت بينهما، وهدَّد كلُّ واحد منهما الآخر، رماه داود بمقلاعه، فأصاب جبهته، وسقط إلى الأرض، فأسرع داود نحوه، وأخذ سيفه منه واخترطه من غمده، وقتله وقطع به رأسه.

فلما رأى الفلسطينيون أن جبَّارهم قد مات هربوا ولحقتهم بنو إسرائيل حتى أبواب عفرون.

ومن ذلك اليوم عَلَتْ منزلة داود، وعَظُم في عين الشعب، ثم جُعل على رجال الحرب، وبعد مدة مات طالوت فنُودي به ملكاً على بني إسرائيل وَنُبِّئ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَآَتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].

تبيَّن لك ممَّا تلوناه أنَّ هذه الآيات القرآنيَّة مشتملة على أهم قواعد السياسة ونُظُمها، وتجلَّى لك فيها أنَّ الأمَّة إذا عضَّها الدهر بنابه، وأناخ عليها بكَلْكَله، وأمضَّها بالكوارث والمصائب، فالطريق لخلاصها ورفع الإصْر عنها، وحلِّ نِير الاستعباد من رقابها أن تخلص النيَّة، وتُوحِّد الكلمة، وتدَّرع بالصبر، وتتَحلَّى بحِلية العلم، وتُوسِّد أمورها إلى ذوي الكفاءة والمعرفة، وأن تبذل نفسها ولا تشح بمالها.

فإذا تسنَّى لها ذلك؛ نَجَتْ من اللجَّة التي كانت فيها، وخرجت إلى ساحة السلامة، ووقعت في ميادين العز والسيادة، وأصبحت قوية الشكيمة، شديدة الساعد، عزيزة الجانب، نافذة الكلمة، ولو كانت قليلة العدد ضعيفة العُدد.

وإنَّ الأمَّة التي لا تتسلَّح بسلاح العلم والصبر، ولا تجمع كلمتها، ولا تتحلَّى بمكارم الأخلاق، ولا تبذل النفس والنفيس في سبيل عزِّها، والذود عن حوض كرامتها ومجدها تظل مُسْتَعْبَدة مستعمَرة لا حوْل لها ولا طَوْل، وإن كان عددها يبلغ الملايين، فلا قلة مع اتحاد، ولا كثرة مع اختلاف.

أفادتنا هذه الآيات أن رجلين عظيمين من بني إسرائيل انتشلا تلك الأمَّة من وهدة الذل التي كانت فيها، ورفعاها إلى بحبوحة العز، وأحياها بعد الموت، فصدق عليهما قول من قال: الأمة تحيا برجل وتموت برجل.

ولهذَين العظيمَين نظراء كثيرون في تاريخ البشر، والأمة العربية، بل الأمة الإسلامية لا تعدم رجالاً من هذا النوع، وعلى تلك الشاكلة، ينهضون بنية خالصة، وعزم ثابت؛ فيستخلصون هذه الأمَّة من بوائق الاستعمار، ويعيدون لها مكانتها الأولى.

في هذه الآيات الست نموذجٌ من السياسة في كتاب الله تعالى، وإذا استقْصيت ما بين دفتيه، وأمعنت النظر، وتدبَّرت ما هنالك تجد من هذا النوع آيات كثيرة بل سوراً بتمامها لو استُخْلصت على حدة، وتُتبِّعت المقاصد فيها، وبُيِّنت الغايات منها لجاء ذلك في عدة أسفار، تعطيك كل آية منها- أو بعض آيات - نوعاً خاصًّا، وأسلوباً آخر تتكشَّف به دقائق الأمور وحقائق الأشياء.

فعلى هذا؛ لم يدع القرآن العظيم منهاجاً من هذه المناهج إلا سلكه، ولا غامضاً إلا أوضحه.

وضع الصدر الأول من خلفاء الإسلام وملوكهم وأمرائهم وقادتهم هذه الآيات نُصب أعينهم، فاستنتجوا منها قواعد وأُسساً، عملوا بمقتضاها واسترشدوا بها، واستضاؤوا بمصابيحها، فوضحت أمامهم السبل؛ فساروا في طريق من الحياة بيِّنة إلى أن اقتعدوا الذروة، وحلَّقوا في سماء العلياء، وأسَّسوا من الحضارة والمدنية الحقَّة ما جرُّوا به ذيل الفخار على الأمم، وكان غرة في جبين الدهر.

فلْنَسر - إذا أردنا النجاة والحياة - على سيْرهم، ولنَقْتَفِ أثرهم، ولنهتد بهديهم، فإذا فعلنا ذلك، وقمنا بهذا الواجب المقدَّس؛ لا نلبث - عشية أو ضحاها - إلا وقد نلنا بُغْيتنا، وحزنا أمانينا، وحَمِدنا عند الصباح السِّرى.

ورحم الله الشاعر العربي الذي يقول:

إذا طمحت للمعالي النفوس = فلا بدَّ أن يستجيب القدر ([3]).

أعدها للنشر وصححها ونشرها في مجموع مقالات الطباخ: مجد مكي

الحلقة السابقة هـــنا

([1]) " الفتح" ـ العدد 755 ـ السنة 16: 11 ربيع الآخر1360 هـ ـ ص10، 11.

([2]) الجرموق: الخف القصير، يُلبس فوق خف.

([3]) البيت للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي. وقد ورد بلفظ: إذا طمحت للحياة النفوس، وهو آخر بيت من قصيدته التي أولها: إذا الشعب يوماً أراد الحياة، ومعنى البيت في مطلع القصيدة وخاتمتها صحيح، والمراد: إذا الشعب أخذ بأسباب الحرية والنصر؛ فإن الله سبحانه يحقق له مطلبه، وينجح مسعاه، فإن من سنن الله وقَدَرِه الجاري أن مَن نصرَ اللهَ نصرَهُ اللهُ، ومن أخذ بالأسباب استجاب له، وكل ذلك من قَدَر الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين