السياسة في القرآن (2)

 

قلنا فيما تقدَّم: أن بني إسرائيل- لعِنادهم الذي جُبلوا عليه، وضعف يقينهم، وشغفهم بالاختلاف على أنبيائهم ـ لم يكتفوا بما تقدَّم من الدلائل على استحقاق طالوت للملك وأهليته التامَّة للقيام بأعباء أمورهم، فقالوا لنبيِّهم: نريد حجَّة ظاهرة وآية مشاهَدة، فقال لهم: {إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]} [البقرة:248].

ما هو التابوت؟ وماذا فيه؟

ما هي قبة الزمان التي تقدَّم ذكرها؟

وما هي السكينة؟

ومن هم آل هارون؟

وكيف عاد إليهم التابوت؟

قال أصحاب الأخبار: إن التابوت صندوق صنعه موسى عليه السلام، وكان فيه قسط المن، وعصا هارون، ولوحا العهد عليهما الوصايا العشر، ثم وضع فيه التوراة.

وقد بقي في أيدي بني إسرائيل، فكانوا إذا اختلفوا في شيء لجؤوا إليه، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوِّهم، فلما عصَوا وفسدوا، سلَّط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه.

قال ابن كثير في تاريخه: قال أهل الكتاب: وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل تابوت من الشمشاد ([2])، يكون طوله ذراعين ونصفاً، وعرضه ذراعين، وارتفاعه ذراعاً ونصفاً، ويكون مضبَّباً بذهب خالص من داخله وخارجه له أربع حلق في أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيَّان من ذهب، يعنون صفة مَلَكين بأجنحة، وهما متقابلان.

وأما قبة الزمان: فقال ابن كثير نقلاً عن أهل الكتاب: إنَّ الله أمر موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاد، وجلود الأنعام وشعر الأغنام، وأمر بزينتها بالحرير المصبَّغ، والذهب والفضَّة على كيفيَّات مفصَّلة عند أهل الكتاب، ولها عشرُ سُرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعاً، وعرضه أربعة أذرع، ولها أربعة أبواب، وأطنابٌ من حرير مصبَّغ، وفيها رفوفٌ وصفائحُ من ذهب وفضة، ولكل زاوية بابان، وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبَّغ، وغير ذلك ممَّا يطول ذكره.

وكانت هذه القبة لهم كالكعبة يصلُّون فيها وإليها ويتقرَّبون عندها.

وكان موسى عليه السلام إذا دخلها يقفون عندها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سُجَّداً لله عزَّ وجل، ويكلم الله موسى عليه السلام من عمود الغمام الذي هو نور، ويخاطبه ويناجيه، ويأمره وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيَّين([3])، فإذا فُصل الخطاب، يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عزَّ وجل إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا في شيء ليس عنده من الله فيه شيء، يجيء إلى قبة الزمان، ويقف عند التابوت، ويصمُدُ لما بين ذينك الكروبيَّين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة.

وأما السكينة: فقيل: إنها شيء، واختلف في ذلك الشيء:

فقيل: إنها بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون ومَنْ بعدهما من الأنبياء بأن الله ينصر طالوت وجنوده ويزيل خوف العدو عنهم.

وقيل: هي ريح هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان.

وقيل: هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهرِّ وذنب كذنبه، فإذا صاحت كصياح الهرِّ ذهب التابوت نحو العدو ويمضون معه، فإذا وقف وقفوا، ونزل النصر.

وذهب آخرون إلى أن السكينة ليست شيئاً، بل هي عبارة عن الثبات والأمن، وهو كقوله تعالى في قصة الغار: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26]، فكذا قوله تعالى هنا: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:248]. معناه: الأمن والسكون.

وقال قتادة والكلبي: هي «فعيلة» من «السكون»، أي: طمأنينة من ربكم، ففي أيِّ مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه، وهذا القول أولى بالصحة.

فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه، فهو سكينة، فيحمل على جميع ما قيل فيه، لأن كل شيء يسكن إليه القلب، فهو سكينة.

وذكر المفسِّرون والأخباريّون في كيفيَّة عودة التابوت أقوالاً متعدِّدة منها:

أنَّه لما غلب العمالقة على هذا التابوت، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة، فلمَّا استقرَّ في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم، فلما أصبحوا إذا بالتابوت فوق رأس الصنم، فوضعوه تحته، فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم، فلما تكرَّر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه من بلدهم، وجعلوه في قرية من قراهم، فأخذهم داءٌ في رقابهم، فلمَّا طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوها، فيقال: إن الملائكة ساقتهما حتى جاؤوا بهما ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون - كما أخبرهم نبيُّهم بذلك -.

والظّاهر من قوله تعالى: {تَحْمِلهُ المَلائكَة} أنَّ الملائكة كانت تحمله بأنفسها إلى أن وضعته بين أيدي بني إسرائيل، فكان ذلك آية ظاهرة دالَّة على صدق نبيِّهم فيما أخبرهم به أن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً عليهم، ولم يبق بعد ذلك مجال للإنكار والتَّعلُّل والتَّردُّد، ولذا قال نبيهم: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]}[البقرة:248].

فعند ذلك أقرُّوا لطالوت بالمُلْك عليهم، فأمرهم أن يتأهَّبوا للجهاد والدفاع عن البلاد، وقال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجلٌ يبني بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوِّج بامرأة لم يَبْن عليها، ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ.

والظاهر من اشتراطه هذه الشروط: «أن من كان له بناء لم يفرغ منه...» إلى آخر ما قاله؛ فإنه يظل بالُه عند بنائه أو تجارته، أو أهله التي يريد أن يبني بها، فلا يقاتل بإخلاص، ولا يندفع بكلية نحو الجهاد، فلا فائدة في وجوده سوى تكثير العدد.

وفي قول طالوت: «لا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ» دلالة على أن الاستقلال واسترجاع المجد إنما يكون بسواعد الشباب، وعليهم المعوَّل في هذا إذا أعدُّوا للأمر عدَّته من علم، ونشاط، وإخلاص، وتضحية، ومتانة أخلاق.

فعندما أخذ هؤلاء في التَّجهُّز والتجمُّع، اجتمع إلى طالوت في بيت المقدس سبعون ألفاً، وقيل: ثمانون، وقيل: مئة وعشرون ألفاً، فخرجوا منه تحت قيادة طالوت، ولم يتخلَّف عنه إلا كبير لكبره، أو مريض لمرضه، أو معذور لعذره.

وكان مسيرهم في حرٍّ شديد، فشكوا إلى طالوت قلَّة الماء بينهم وبين عدوهم وقالوا: إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهراً، فقال لهم: {إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ([4]) فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249].

وهذا النهر هو بين الأردن وفلسطين، وقيل: إنه نهر فلسطين وهو نهر الأردن المسمَّى بالشريعة.

ثم ما الحكمة في هذا الابتلاء؟

قيل: المشهور عن بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة، فأراد الله إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميَّز بها من يصبر على الحرب ممَّن لا يصبر؛ لأن العطش قبل لقاء العدو لا يؤثِّر كتأثيره حال لقاء العدو، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جَرَم قال: {إنَّ الله مبتليكم بنهَر}.

وقيل: ابتلاهم ليتعوَّدوا الصبر على الشدائد، فإنَّ الأمَّة إن ادَّرَّعت بالصبر على عظائم الأمور إذا لاقت عدوَّها صمدت له، ونالت بغيتها منه. ففي الحديث: «وإن النصر مع الصبر» ([5]) فالمقصود من هذا الابتلاء: أن يتميَّز الصديق عن الزنديق، والموافق عن المخالف، وإنَّ الذين يكونون أهلاً لهذا القتال هم الذين تظهر منهم حقيقة الطاعة فلا يشربون من هذا النهر، وإنَّ كلَّ مَنْ شرب منه لا يكون مأذوناً في هذا القتال؛ لدلالة ذلك على عدم إخلاصه وطاعته، وعلى نفرته من الجهاد في سبيل دينه وبلاده.

ولما وصل اليهود إلى النهر هجموا عليه، وأكثروا الشرب، وخالفوا أمر الله، وجبنوا عن لقاء عدوهم - جالوت وجنوده -، ورجعوا إلى بلادهم، إلا قليل منهم فإنهم صبروا ولم يشربوا أو اغترفوا غرفة كما أمروا.

قيل: هذا القليل كان أربعة آلاف من أصل ثمانين ألفاً. وقيل: كان على عدد أهل بدر، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وهو الوارد في الحديث الشريف ([6]).

إلا أن هذا العدد على قلته كان فيه الكثرة؛ وذلك لإخلاصه في إيمانه، وصدقه في عزيمته، فلم يبال بالأخطار التي أمامه، فجاوز مع قائده طالوت هذا النهر، فأبصر جيش جالوت، وهو وافر العَدد والعُدد، قد ملؤوا السهل والوعر، عند ذلك قال فريق من هؤلاء: {لَا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]. وقال الفريق الآخر - وهو الذي كان أخلص إيماناً، وأصدق عزيمة، وأعظم رغبة في الشهادة ولقاء الله تعالى -: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وقصد هذا الفريق تقوية قلوب الذين قالوا:{ لا طَاقَةَ لَنَا اليَومَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }، وتشجيعهم، وأنه يجب أن لا يبالوا بالموت، وأن يستميتوا في سبيل الدفاع عن بلادهم وعزِّهم، وأن لا عبرة بكثرة العدد وإنما العبرة بالتأييد الإلهي والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرَّة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعُدَّة، وإن خير عدَّة تتخذها الأمَّة في سبيل الجهاد والجلاد إنما هي الصبر والثبات.

فعند ذلك عوَّل هذا الجمع القليل على لقاء عدوِّهم مع الالتجاء إلى الله والتضرُّع له وطلب المعونة والنصر منه، فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:250]. فهذه الفئة - على قِلَّتِها - أدركت أنَّ الصبر هو السلاح الأعظم، والعدة الأولى للمحارب، وبدون الصبر والثبات لا تجدي الجيوش وإن كانت جرَّارة، ولا تنفع الآلات الحربية مهما تنوَّعت وعظُمت.

فاستجاب الله دعوتها لإخلاصها وثبَّت أقدامها ونصرها على أعدائها نصراً مبيناً، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة:251].

أعدها للنشر وصححها ونشرها في مجموع مقالات الطباخ: مجد مكي

الحلقة السابقة هـــنا

([1]) مجلة"الفتح" العدد 754 ـ السنة 16:4 ربيع الآخر1360 هـ (ص7- 9).

([2]) في سفر الخروج 25: «من خشب السنط» والسنط - ويسمى السيال ـ: شجر يكثر في فلسطين وسيناء والبادية، وخشبه صلب ثقيل، وأغصانه ذات شوك، ويصلح خشبه لصنع الأثاث، وفحمه جيد. (الطباخ)

([3]) الكروبيون: هم الملائكة المقرَّبون. وينظر الكلام عنهم في " الحبائك " للسيوطي ص133، و" الإيمان بالملائكة " لشيخنا عبد الله سراج الدين.

([4]) يقال: نهْر ونَهَر، وكل ثلاثي حشوه حرف من حروف الحلق فإنه يجيء على هذين، كقولك: صَخْر وصَخَر، وشَعْر وشَعَر، وبحْر وبحَر. (الطباخ).

([5]) جزء من حديث طويل أوله: «يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك..» أخرجه أحمد من حديث ابن عباس (2803).

([6]) ثبت في صحيح البخاري (3957) من حديث البراء: أن عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر. وفي صحيح مسلم (1763)، من حديث ابن عمر: أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر.

محاضرة للمؤرّخ الفاضل الأستاذ الشّيخ محمد راغب الطّباخ

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين