السّياسة في القرآن([1])

محاضرة للمؤرّخ الفاضل الأستاذ الشّيخ راغب الطّباخ

في دار الأرقم بمدينة حلب

(1)

أعدها للنشر وصححها ونشرها في مجموع مقالات الطباخ: مجد مكي

كثير من النّاس – ممَّن لم يقرؤوا القرآن الكريم أو لم يتدبَّروا آياته ـ يظنون أن كتاب الله تعالى خالٍ من الآيات السياسية، ومن الأمور التي إذا رُوعيت تكون سبباً لحياة أمة بعد موتها، ولعزَّتها بعد هوانها، ولكثرتها بعد قلَّتها، ولغناها بعد فقرها، ولاستعادة ما كان لها من مجْد، وما سلف من حَوْل وطَوْل؛ في حين أن كتاب الله تعالى فيه تبيان كل شيء: فيه كل ما يعود على المجتمع البشري بالسعادة في معاشه ومعاده، في دنياه وآخرته.

وإذا تأمَّلت فيه - وكنت ممَّن ألقى السمع وهو شهيد - تتجلَّى لك آيات كثيرة تجد فيها السياسة بادية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وتعتقد اعتقاداً جازماً أننا إذا سرنا على مقتضى ما جاء فيها وراعينا أحكامها، استرجعنا ما فقدناه من عز، وعادت لنا تلك المكانة التي كانت لنا بين الأمم، وكنا معشر الأمة العربية ـ بل وجميع الأمة الإسلامية ـ نحن القابضين على زمام العالم، ومقدَّرات الأمم في مشارق الأرض ومغاربها.

ن هذه الآيات قوله تعالى في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ(251) } [البقرة: 246-251].

وهُنَّ ستُّ آيات، وقد قسمنا محاضرتنا هذه إلى ستة أبحاث، مقتبسين ذلك من التفاسير، ومن الكتب التاريخيَّة؛ التي ذكرت هذه القصَّة، جامعين بين ما تفرَّق فيها وما انطوت عليه.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}

هذا خطاب الله لنبيِّه عليه السلام، قصد به التقرير والتعجيب، ولفْت النظر لإخبار من مضى من الأمم وأحوالهم، وخطابٌ لِمَنْ لم ير ولم يسمع؛ ليكون له بذلك عظة وعبرة.

و(الملأ): الأشراف من الناس، وهو اسم الجماعة؛ كالقوم، والرهط، والجيش، وجمعه: أمْلاء. قال الشاعر:

وقال لها الأمْلاء من كل معشر = وخير أقاويل الرجال سديدها

وأصلها من (المِلء)، وهم الذين يملؤون العيون هيبةً ورَوَاء. وقيل: هم الذين يملؤون المكان إذا حضروا، وقال الزجَّاج: الملأ: الرُّؤساء، سُمُّوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب بما يحتاج إليه.

كان من أمر بني إسرائيل - زمن موسى r - ما كان من إخراجهم من مصر، وإغراق أعدائهم ـ فرعون وقومه ـ وبقائهم في التِّيه أربعين سنة إلى أن مات موسى عليه السلام.

ولما مات قام بتدبير بني إسرائيل خليفته يوشع بن نون، فارتحل بهم من التِّيه بعد ثلاثة أيام، وسار نحو الأرض المقدَّسة، فأتى أريحا فامتلكها، ثم سار إلى نابلس فاستولى عليها، وهكذا إلى أن مَلَكَ الشام، ويقال: إنه ظهر على أحد وثلاثين أميراً من أمرائه، وفرق عمله فيه.

فعلى هذا يكون يوشع هو المؤسِّس لدولة بني إسرائيل، وهو الذي رفع مستوى هذه الأمَّة.

واستمرَّ يوشع عليه السلام يدير أمر بني إسرائيل نحو ثمان وعشرين سنة، ثم توفي ودفن في كفر حارس (ولم أجد لهذه القرية ذكراً في معجم البلدان ([2])) وله من العمر مئة وعشر سنين.

قال أبو الفداء: ورأيت في تاريخ ابن سعيد المغربي ([3]): أن يوشع مدفون في المعرة، فلا أعلم هل نُقِلَ ذلك، أم أثبته على ما هو مشهور الآن.

والذي في كتب العهد القديم في (سفر يشوع) في (الإصحاح الرابع والعشرين): أن يشوع مات ابن مئة وعشر سنين، ودفن في تُخم ملكه في تِمنة سارح التي في جبل إفرايم شمالي جبل جاعش، وهذه القرية - على ما ظهر لي من تتبُّع سفر يشوع - هي في بلاد فلسطين، والله أعلم.

ولما مات يوشع تولَّى الجهاد يهوذا وأخوه شمعون، وهما القائلان لبني إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. وكان يساعد في تدبير أمور بني إسرائيل فينحاس بن العزير، وكان كالأب يحكم بينهم.

وكان الأمر في بني إسرائيل ضعيفاً، ودام أمرهم على ذلك سبع عشرة سنة، ثم طَغَوْا وعصوا الله، وأشركوا، فسلَّط الله عليهم كوشان رشعتايم مَلِكَ آرام النهرين، فاستولى على بني إسرائيل واستعبدهم ثماني سنين، وكان لكالب بن حصرون أخٌ من أمه يقالُ له: عِثْنيئيل بن قناز من سبط يهوذا، فأزال ما كان على بني إسرائيل لكوشان رشعتايم من القطيعة، وأصلح حال بني إسرائيل، وكان عثنيئيل رجلاً صالحاً، واستمر يدبِّر أمر بني إسرائيل أربعين سنة، وتوفي سنة اثنتين وتسعين لوفاة موسى عليه السلام.

وبعد وفاة عثنيئيل أكثر بنو إسرائيل المعاصي، وعبدوا الأصنام، فسلَّط الله عليهم (عَجلون) ملك مؤاب من ولد لوط، فاستعبد بني إسرائيل، وظلوا تحت مضايقته ثماني عشرة سنة، ثم أقام الله لبني إسرائيل أَهُوْذ بن جيرا البنياميني فاغتال عجلون، وكفَّ عن قومه أذاه، وبقي أَهُوذ يدبِّر أمر بني إسرائيل ثمانين سنة إلى أن توفي.

ثم طغى بنو إسرائيل؛ فأسلمهم الله عزَّ وجل في يد بعض ملوك الشام، واسمه (يابين)، فاستعبدهم عشرين سنة حتى خلصوا منه، وذلك في سنة إحدى عشرة ومئتين لوفاة موسى عليه السلام.

وهكذا كان حال بني إسرائيل مع أنبيائهم؛ الذين كانوا يُبعثون إليهم ليجدِّدوا ما نسَوْا من التوراة، ويأمرونهم بالعمل بأحكامها، وكانوا هم الحكَّام فيهم، فكانوا يستقيمون على الطريقة مدة فيصلح حالهم وينتظم أمرهم، ثم يعودون إلى ما نُهوا عنه مدة؛ فيفسد حالهم، ويختل نظامهم، ويسلِّط الله عليهم أعداءهم، فيسومونهم سوء العذاب، ويذيقونهم كؤوس الذل والهوان.

ظلت حالتهم على هذه الطريقة إلى سنة اثنتين وثمانين وأربعمئة لوفاة موسى عليه السلام، ففي هذه المدة كثرت في بني إسرائيل الخُلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وظهر لهم عدو من الفلسطينيين وهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا كثيراً من ذرارِيهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمئة وأربعين نفساً، فضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدَّة، ولم يكن لهم نبي يدبِّر أمرهم.

وكان - في هذه المدة - ولد في بني إسرائيل(شمويل)، وهو من سبط النبوة، ولما صار له من العمر أربعون سنة، أرسل نبيًّا إلى بني إسرائيل، فدبَّر أمرهم إحدى عشرة سنة، ومنتهى هذه الإحدى عشرة هي سنيُ حكَّام بني إسرائيل وقضاتهم؛ فإن جميع من تولى أمرهم كانوا بمنزلة القضاة، وسدُّوا مسدَّ ملوكهم، فيكون انقضاء سنيِ حكَّامهم في سنة ثلاث وتسعين وأربعمئة لوفاة موسى عليه السلام.

قال ابن كثير في تاريخه الكبير - نقلاً عن ابن جرير الطبري وغيره -: بعد وفاة اليسع عليه السلام مرج أمر بني إسرائيل، وعظمت منهم الخطوب والخطايا، وقتلوا مَن قتلوا مِن الأنبياء، وسلَّط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكاً جبَّارين يظلمونهم، ويسفكون دماءهم، وسلَّط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضاً، وكانوا إذا قاتلوا أحداً من الأعداء، يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قُبة الزمان، فكانوا يُنصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية ممَّا ترك آل موسى وآل هارون.

فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزَّة وقهروهم على أخذه، فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل - في ذلك الزمان - مَالَتْ عنقُه، ومات كمداً.

وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبيًّا من الأنبياء، يقال له: شمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً ليقاتلوا معه الأعداء، ويكونوا تحت طاعته. فالنّبي الذي قال بنو إسرائيل: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:246] هو (شمويل) هذا، وكان هذا القول منهم بعد مضيِّ إحدى عشرة سنة من تدبيره لأمرهم كما تقدم.

فشمويل - لخبرته بأحوالهم قبل النبوة وبعدها، ومعرفته بما هم عليه من الخلاف، وخَور العزيمة والجبن، وعدم الانقياد لشريعتهم، وذوي الرأي فيهم ـ تيقَّن أنه إذا بعث إليهم ملكاً لا يجتمعون عليه، ولا ينقادون لأوامره، ولا يبذلون أموالهم وأرواحهم أمامه، وما داموا أشحَّاء بأموالهم، يؤثرون الحياة على الموت، ويرضون الذّلَّ والهوان فكيف يدفعون عنهم عادية الأجنبي، ويزيلون عنهم ذلك الكابوس، ويعيشون أحراراً؟ لذلك جاهرهم بفساد حالهم، وحقيقة أمرهم، وأخلاقهم، فقال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]. إلا أن هؤلاء – للشدائد التي كانوا فيها والمصائب التي حاقت بهم – أظهروا قوةً من ضعف، وشجاعةً من جبن، فقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وأتبعوا ذلك بعلَّة قويَّة ودافع عظيم، وهو قولهم: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]. ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ - وهو إبعاد عدد كبير من أبناء أشرافهم وكبرائهم عن بلادهم - فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه، ومقاتلته، وبذل النفس والنفيس في هذا السبيل.

عندئذ سأل شمويل المولى تعالى ذلك الرجلَ العارفَ بتدبير الحرب، القادرَ بحسن رأيه على إنقاذهم مما هم فيه، فأعلمه به، وكتب عليهم القتال دفاعاً عن أوطانهم وعزهم ومجدهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]. فكان على هؤلاء أن يذعنوا لطالوت ([4])، ويطيعوا ويرجعوا إلى رأيه، ويبَرّوا بوعدهم، ويقاتلوا تحت رايته علماً منهم بإخلاص نبيهم لهم، وحسن نصيحته، ورغبته فيما يعود بالنفع العظيم لهم، إلا أنهم لجهلهم وغباوتهم وفساد أخلاقهم وعظمتهم الكاذبة: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ} [البقرة:247]. فأظهروا التَّولِّي عن طاعته، والإعراض عن حكمه، وأنكروا إمرة طالوت عليهم لأمرين:

الأول: لأن النبوة كانت مخصوصة - في نظرهم - بسبط مُعيَّن من أسباط بني إسرائيل، وهو سبط لاوي بن يعقوب، ومنه موسى وهارون، كما كانت المملكة مخصوصة بسبط يهوذا، وطالوت ما كان من أحد هذين السبطين، بل كان من ولد بنيامين.

والسبب الثاني: أنه لم يكن من الأغنياء ذوي الثروة الطائلة، بل كان رجلاً فقيراً. قيل: دبَّاغاً، وقيل: سقَّاءً، وقيل: راعياً، وهذا ذهاب منهم إلى اعتبار النسب وحده، وإنْ لم يكن هناك كفاءة بالخبرة والعلم، واعتبار الثروة، وإنْ لم يكن صاحبها على شيء من المعرفة والدراية.

وهذا نظير نظام البلدية الفاسد، وهو أنّه لا يجوز أن يكون مُنْتَخِباً أو مُنتَخَباً إلا من يعطي لصندوق الخزينة 50 درهماً فصاعداً، ومن لم يعط هذا المبلغ لا يجوز أن ينتخب، وإن كان عالماً أو يحمل شهادة عالية.

ولا ريب أن رأيهم هذا كان فاسداً باطلاً لا يتمشَّى مع المصلحة العامة، وليس فيه صلاح البلاد، وصلاحها إنما يكون بتوسيد الأمور إلى أهلها، وإعطائها لمستحقِّها، وهو العالم الخبير، والناقد البصير، والرَّجل القوي القدير، وإذا كان فوق ذلك وسيماً جسيماً، يملأ القلوب جلالة، والعيون مهابة؛ كان ذلك أدعى للوصول إلى المطلوب، والحصول على الضالة المنشودة، لذلك ردَّ عليهم نبيُّهم اعتراضَهم، وبيَّن لهم خطأهم في استغرابهم أن يكون طالوت (شاول) هو الملك عليهم، إذ لم يستجمع صفات الملك على زعمهم، وأن انتخابه لطالوت ليس بمجرَّد اختياره هو، بل هو اختيار الله تعالى، لذلك قال لهم: { إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:247]. وأمرُ الله يجب أن يُمتثل، ولا يُتردَّد عليه. واختياره تعالى مقدَّم على كل اختيار على حدِّ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

ثم بيَّن لهم أنَّ هذا الرجل الذي اصْطفاه الله عليهم فيه صفتان عظيمتان جليلتان، بهما استحق أن يكون ملكاً عليهم، وإن لم يكن من بيت الملك، وإن لم يكن من ذوي الثروة، وهما: (العلم والقدرة)؛ فهاتان الصفتان أشدّ مناسبة لاستحقاق الملك من الصفتين السابقتين من عدة وجوه:

أولاً: لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، والجاه والمال ليسا كذلك.

وثانياً: أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان، والجاه والمال أمران منفصلان، عن ذات الإنسان.

وثالثاً: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما من الإنسان، والمال والجاه يمكن زوالهما عنه.

ورابعاً: أن العالم بأمر الحروب، وذا البصر فيها، والقوي الشديد على المحاربة؛ يكون الانتفاع به في حفظ مصالح البلاد، وفي دفع شرِّ الأعداء أتمَّ من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغني إذا لم يكن له علمٌ بضبط المصالح، وقدرة على دفع الأعداء.

فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر أوْلى من إسناده إلى النسيب الغني، وهذا تنبيه منه تعالى على أن الفضائل النفسانيَّة أعلى وأشرف وأجل نفعاً من الفضائل الجسمانيَّة.

ثم أعلمهم الله - بقوله: {وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247] - أنَّ الملك لله، وأنه هو المتصرِّف في ملكه إعطاءً ومنعاً، وهو واهب المزايا لمن يشاء من عباده، وهو المختصُّ برحمته من يشاء كما قال تعالى مخاطباً نبيه صلى  الله عليه وآله وسلم: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].

وأشار - بقوله: { وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]- إلى أنَّ الله واسع الفضل والرَّحمة، وأنَّ رحمتَه وسِعَت كل شيء، فإذا أنتم طعنتم في إمرة طالوت عليكم بكونه فقيراً، فالله واسع الفضل والرّحمة، فإذا فوَّض الملك إليه، وعلم أن الملك لا يتمشَّى إلا بالمال؛ فالله تعالى بيده مفاتيح الخير والرزق، فهو يُوسِّع عليه في المال، وهو - مع قدرته على إغناء الفقير - عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك، وعالم بمآل ذلك الملك في الحاضر والمستقبل، فيختار ـ لعلمه بجميع العواقب ـ ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك.

إلا أنَّ بني إسرائيل ـ لعِنادهم الذي جبلوا عليه، وضعف يقينهم، وشغفهم بالاختلاف على أنبيائهم ـ لم يكتفوا بما تقدَّم من الدلائل على استحقاق طالوت للملك، وأهليَّته التامَّة للقيام بأعباء أمورهم، فقالوا لنبيِّهم: نريد حُجَّة ظاهرة وآية مُشَاهَدة، فقال لهم: {إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248].

([1]) مجلة "الفتح" المصرية العدد (753) من السنة 16: 27 ربيع الأول 1360 هـ (1941)، ص8، 9، 10، 11

([2]) الفتح ـ كفر حارس مذكور في التوراة (2: 9 من سفر القضاة) بلفظ تمنة حارس، وفي مكان آخر منها (يشوع 19: 50 و24: 30) بلفط: تمنة سارح كما سيذكره حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المحاضرة. وهي مدينة كانت على جبل إفرايم الذي يسمى جبل السامرة شمالي جبل جاعش. أما ياقوت فنقل قولاً بأن قبر يوشع في قرية صَرَفة من نواحي مؤاب قرب البلقاء. وقولاً آخر بأنه في بلدة عَوَرْتا قرب نابلس، وقولاً ثالثاً بأنه في جانب صور المعرَّة واستنكره وقال: الصحيح أنه بأرض نابلس.

([3]) عرف به المؤلف في كتابه " ذو القرنين " فقال: ((ابن سعيد اسمه: علي بن موسى، وله كتابان في التاريخ، وهما جملة مصادر أبي الفداء، ذكرهما في خطبة " تاريخه "، أحدهما: " لذة الأحلام في تاريخ أمم الأعجام " في مجلدين، والثاني: " المغرب في أخبار أهل المغرب " في نحو خمسة عشر مجلداً)). انتهى.

([4]) ويسميه اليهود (شاول) وهو ابن قيس بن أبي إيل بن صرور بن بكورة بن أفيح. (الطباخ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين