السياسة المدنية عند المسلمين الأوائل

 

من المصطلحات التي كانت متداولة ومعروفة عند المسلمين الأوائل مصطلح “السياسة المدنية”، ومن خلال السطور القادمة سوف نسلط الضوء على مراد العلماء منه، وما يحمله من دلالات اجتماعية وأخلاقية وسياسية.

 

حول مصطلح “السياسة المدنية”

 

وصل المسلمين كتبٌ لفلاسفة اليونان ترجمت تحت عنوان: “السياسة المدنية” منها كتاب لأفلاطون وآخر لتلميذه أرسطو، كما ذكر ذلك المسعودي وابن أبي أصيبعة(1).

 

وكذلك ألف الفارابي كتابًا تحت هذا العنوان(2).

 

وقد عرّف ابن خلدون السياسة المدنية بقوله: “هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة؛ ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه”(3).

 

ولم يخرج صديق خان عن تعريف ابن خلدون للسياسة المدنية فقال: هو “علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة”.

 

ولكنه فصّل القول في فائدتها فقال: “وفائدتها: أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس؛ ليتعاونوا على مصالح الأبدان، ومصالح بقاء نوع الإنسان”(4).

 

وقد يعبّر البعض عن السياسة المدنية بعلم المعاملات الذي من خلاله يتم “ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية”(5).

 

وجود السلطان من صميم السياسة المدنية

 

وإذا كان الإنسان مدنيًّا بالطبع؛ حيث لا يمكنه أن يعيش وحده؛ لأن “أسباب حياته ومعيشته تلتئم بالمشاركة المدنية”(6) فلا شك أنه يحتاج إلى معايير وقوانين وسياسات وأخلاقيات تضبط تلك العلاقة بينه وبين أخيه الإنسان.

 

وقد وضّح هذه العلاقة الإمام الرازي بقوله: “الإنسان مدني بالطبع، وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات، وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل.

 

فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس. ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق؛ فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك.

 

أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه”(7).

 

ومما يؤسف له أن المسلمين كان أول شيء انتقض لديهم من عرى الإسلام هو الحكم، أي: الحكم بالمنهج الرباني، وهذا ما ذكره رسول الله ? بقوله: “لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ”(8).

 

ارتباط السياسة المدنية بالشرع

 

وربط السياسة المدنية بالشرع أمر كان معلومًا بالضرورة لدى الحاكم والمحكوم، لكن المشكلة كانت تكمن في التطبيق على أرض الواقع، فعندما سأل هارون الرشيد أحد ندمائه عن نصحه له في أمر الحكم والمعاناة التي يعانيها فقال له: “هذا الأمر قلادة ثقيلة، ومن خطة العجز مستقيلة، ومفتقرة لسعة الذرع، وربط السياسة المدنية بالشرع يفسده الحكم في غير محله، ويكون ذريعة إلى حله، ويصلحه مقابلة الشكل بشكله”(9).

 

وعدم ربط السياسة بالشرع يسبب فسادًا في الأرض، ويطعن في قضية البعث والحساب وقيومية الله على خلقه، فهل يستوي الطائع لله المتبع لمنهجه، والعاصي له الصاد عن سبيله، قال -تعالى: ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ? ص: 28، و”المراد أنه إذا بطل الجزاء -كما زعموا- لاستوت حال الطائفتين: المتقي المصلح للأرض بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع، والفاجر المفسد في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات.

 

ومن سوّى بينهم كان إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة”(10).

 

التباعد بين السياسي والشرعي

 

وقد ألقى الضوء على التباعد والفصل بين السياسة والشريعة وأسبابه شيخ الإسلام ابن تيمية في نص مهم فقال: “لما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذٍ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكمًا أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.

 

والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصّروا في معرفة السُّنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات.

 

والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسُّنة.

 

وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك”(11).

 

وهذا نص قديم وفريد حاول ابن تيمية من خلاله استجلاء العلاقة ما بين السياسة والشريعة، وكيف أن قلة العلم بالشرع الحنيف واتباع الأهواء عامل رئيس في هذا الفصل ما بين السياسة والشريعة.

 

(1) انظر: المسعودي: مروج الذهب، (1/239)، وابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص(46، 58).

(2) انظر: القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص(119).

(3) ابن خلدون: المقدمة، ص(28).

(4) صديق بن حسن القنوجي: أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، تحقيق: عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م، (2/246).

(5) الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير، (1/18).

(6) فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي: مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ – 2000م، (24/17).

(7) السابق، (26/174).

(8) أخرجه أحمد في “حديث أبي أمامة الباهلي”، ح(22214)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده جيد”.

(9) المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، (6/432).

(10) النيسابوري: تفسير النيسابوري (غرائب القرآن ورغائب الفرقان)، (6/375).

(11) مجموع فتاوى ابن تيمية، (20/ 392- 393).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين