السلفية الاصلاحية في بلاد الشام الشيخ جمال الدين القاسمي نموذجا

 

 

 

النهضة السلفية الشامية تختلف اختلافا كبيرا عن مثيلتها السلفية النجدية ( ولهذا تقوم الأخيرة برفضها ومحاربتها !! ) , كونها نبعت من بيئة حضارية عريقة صبغتها بالوسطية والاعتدال , والأهم من ذلك أنها ليست تقليدية ولا تعتمد على الحفظ وقوة الذاكرة !!

 

وأبرز رموز هذه المدرسة العلامة القاسمي تلميذ السيد محمد رشيد رضا , وسأنقل هنا أمثلة عن منهجه وفكره :

 

- كقوله في تفسيره :

" .. قال البخاريّ : ( باب كفران العشير وكفر دون كفر ) .

قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ في (شرحه) : مراده أن يبيّن أن الطاعات، كما تسمى إيمانا، كذلك المعاصي تسمى كفرا. لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة.

فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا، فإنه يعذر بالجهل والخطأ، حتى تتبين له الحجة، الذي يكفر تاركها، بيانا واضحا ما يلتبس على مثله. وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا جليّا قطعيا. يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل.. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع " .

 

- ويقول عند تفسير قوله تعالى (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .. )) :

" الخامسة = قال ابن كثير: ( من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه، في رواية عنه، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم. قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة، فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك ) انتهى كلام ابن كثير.

ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النوويّ في شرح (مقدمة مسلم) ، وقبله الإمام الغزاليّ في كتابه (فيصل التفرقة) .

وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتكفير والزندقة. وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك، كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ.

على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان، مأجور غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل (جمع الجوامع) .

نعم، إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين. وإذا اشتد البياض صار برصا " .

 

- أما انصافه العلمي فبلغ مبلغا عظيما حيث يقول في كتابه (تاريخ الجهمية والمعتزلة) :

" لا عبرة برمي شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما رحمهم الله بالإلحاد مثل النصير الطوسي وابن عربي وبعض الأشاعرة المتأولين لآيات الصفات وآثارها , فإن ذلك منه ومن أمثاله حمية مذهبية وغيرة على نصرة / ما قوي لديه /.

وقد عهد في العالِم الغيور الذي لا يتسع صدره لخلاف الخصم أن يحمل عليه أمثال هذا وأعظم .

وإلا فالنصير ( الطوسي ) قد عُلم أن له مؤلفات في فن الكلام خُدمت وشُرحت ، وكلها مما يبرئه عن الإلحاد والزندقة , وعقيدته ومشربه وترجمته المحفوظة تبرئه من مثل ذلك .

وابن عربي حق الباحث معه المنكر عليه أن ينكر عليه موضعا لا يحتمل التأويل ، ويقول ظاهره إلحاد , إلا أن الرجل له عقيدة نشرها أولا ، ومذهب في الفقه حسن . فمثله لا يسوغ رميه بالإلحاد , وحينئذ فيقال: كلامه مُشكل، إلا أن عقيدته صحيحة.

فالأولى الإعراض عن المشكلات من كلامه وعدم مطالعتها، إذ لعل لها معاني عنده , وأمثال هذا مما يخفف من الرمي، والإلحاد , فافهم " .

 

- بل نراه يدافع عن الجهم بن صفوان فيقول تعليقا على قضية مقتله :

" وقد علمتَ أن الباعث على قتله أمر سياسي محض ؛ لأن جهما كان خطيب // الحارث // وقارئ كتبه في المجامع، والداعي إلى رأيه والخروج معه على بني أمية وعمالهم، لسوء سيرتهم وقبح أعمالهم وشدة بغيهم ..

ولا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل أن الدهرية لا يقرون بألوهية ولا نبوة, و/ جهم / كان داعية للكتاب والسنة، ناقما على من انحرف عنهما، مجتهدا في أبواب من مسائل الصفات، فكيف يستحل نبزه بالدهرية وهي أكفر !؟

ومن هنا يعلم أن لا عبرة بنبز الأمراء والملوك من ينقم عليهم سيرتهم بالألقاب السوء، والتاريخ شاهد عدل.

وليس القصد التحزب لجهم والدفاع عن مذهبه و أرائه ، كلا ! ، فأنا أبعد الناس عن التحزب والتعصب والتقليد، ولكن الإنصاف يدعو أن يذكر المرء بما له وما عليه إذا أريد درس حياته ومعرفة سيرته، وذلك ما توخيناه هنا ." 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين