الساعات الرهيبة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم

 
 
 
الأستاذ مصطفى عبد الحميد
 
حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حافلة بالساعات الرهيبة، وما ظنك برجل قام يدعو إلى التوحيد في قوم ألفوا عبادة الأصنام، وورثوا الشرك كابراً عن كابر؟
كان هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قلة من أتباعه وسط جماهير من الطغاة تألبوا عليه، وكادوا له، وفعلوا به الأفاعيل.
 
خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، فأعرض عنه اشرافهم، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط، فلما رأى ما رأى رفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا ارحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) فهذه ساعة من الساعات الرهيبة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
 
فلما استيأس من قريش بعد أن لقي ما لقي من أذاهم، استنصر أهل يثرب من الأوس والخزرج، فنصروه وبايعوه، فلما علمت قريش أنه صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصار، وأن أصحابه بمكة قد لحقوا بهم، خافوا من خروجه إلى المدينة، فاجتمعوا واتفقوا على أن يقتلوه، فأزمع الهجرة وأمر علياً أن ينام في فراشه، وخرج إلى دار ابي بكر رضي الله عنه، وكان ما كان من صحبة أبي بكر إياه، وإقامتهما أياماً في غار بجبل ثور، ثم خروجهما إلى المدينة، وإرسال قريش سراقة بن مالك في إثرهما، فكانت هذه من الساعات الرهيبة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
 
ثم كانت الوقائع بين محمد وبين قريش، وأولها وقعة بدر الكبرى، حيث أقبلت قريش في تسعمائة وخمسين رجلاً، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن معه إلا نحو ثلاثمائة قال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني) فهذه ساعة من أشد الساعات رهبة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
 
وكانت غزوة أحد وكان من حديثها أن اجتمعت قريش في ثلاثة آلاف تحت قيادة أبي سفيان بن حرب، وساروا من مكة حتى نزلوا ذا الحليفة مقابل المدينة، فخرج محمد صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة وأحد، فانخذل عنه عبد الله بن أبي المنافق في ثلث الناس، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي من الشعب من أحد وجعل ظهره إلى أحد، ثم كانت الواقعة، فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في النسوة اللاتي معها وضربن الدفوف خلف الرجال، وهند تقول:
ويها بني عبد الدار     ويها حماة الأدبار     ضرباً بكل بتار
 
وقتل رجل من المشركين اسمه قمئة مصعب بن عمير حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أنه رسول الله فقال لقريش: إني قتلت محمداً، ووقع الصراخ أن محمداً قتل، فانكشف المسلمون، وأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء على المسلمين استشهد فيه منهم سبعون رجلاً ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و اصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه الشريف، وكلمت شفته، وجعل الدم يسيل على وجهه، بأبي هو وأمي، ثم صعد أبو سفيان الجبل وصرخ بأعلى صوته وقال: (الحرب سجال، يوم بيوم بدل أعلى هبل ) فهذه ساعة من الساعات الرهيبة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
 
وجاء بعد ذلك نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً فلما فتحت مكة، تجمعت هوازن بنسائهم وأولادهم وأوالهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضمت إليهم ثقيف وهم أهل الطائف، وبنو سعد بن بكر، وحضر مع بني جثم دُريد بن الصمة الشاعر الفارس المشهور في الجاهلية، وهو إذ ذاك شيخ كبير قد جاوز المائة، ولكنهم جعلوه معهم تيمناً برأيه.
 
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم خرج من مكة وخرج معه اثنا عشر ألفاً من أهل مكة وعشرة آلاف كانت معه يوم الفتح، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والمشركون بأوطاس، وقال رجل من المسلمين لما رأى كثرة جيش النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب هؤلاء من قلة) وفي ذلك نزل قوله تعالى:[ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25}.فلما انكشف المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته صلى الله عليه وسلم، فنادى عمه العباس رضي الله عنه في الناس يطلب إليهم العودة إلى الدفاع عن دينهم و نبيهم، فرجعوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فحقت الهزيمة على المشركين ونصر الله المسلمين، ففي هذه الوقعة أيضاً ساعة رهيبة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
 
ولكن اية هذه الساعات أشدها رهبة في حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم ؟ أهي ساعة تسفيهه وسبه في الطائفة من سفهاء ثقيف؟أم هي ساعة خروجه من مكة وقد ترصدوا له، مجمعين على قتله وإهدار دمه؟ أم هي ساعة أدركه سراقة بن مالك في طريقه هو وصاحبه إلى المدينة؟ أم هي ساعة أقبلت عليه قريش بخيلها ورجلها وخيلائها وفخرها يوم بدر؟ أم هي ساعة أُحد يو كسرت رباعيته، وشج وجهه، وكلمت شفته؟ أم هي ساعة حنين انكشف المسلمون عنه فثبت حتى أيده الله بنصره؟
 
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أن نعرف أي رجل من الرجال كان محمد صلى الله عليه وسلم ؟
 
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيماً وحسب، ولكنه كان المثل الأعلى للعظمة، بل المثل الأعلى للكمال الإنساني بأدق معانيه، كان حكيماً بل كان المثل الأعلى للحكمة، وكان مؤمناً بالله بل كان المثل الأعلى للإيمان، كان يغضب لله ويرضى لله، ويحب لله وفي الله، ويكره لله وفي الله، كان لا يخشى أحداً إلا الله، ولا يرهب أحداً غير الله، كان كل همه وقصارى إرادته وعزيمته أن يبلغ الرسالة، وأن يعلي كلمة الله، وأن ينشر هذا الدين الذي بعث به رحمة للعالمين.
 
 
انظر إلى دعائه يوم أغرت به ثقيف سفهاءها وتدبر معاني هذا الدعاء، قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي ) فهذا رجل لا يبالي غضب الناس بل يبالي غضب الله، ولا يستعين بأحد غير الله، ولا يشكو ضعف قوته وقلة حيلته إلا لله.
 
ثم انظر إلى قوله يوم بدر وقد أقبلت قريش بخيلها ورجلها، وكبريائها وخيلائها، وليس معه يومئذ من الأنصار والمهاجرين إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ووراءه في يثرب جمهرة من المنافقين على رأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول يكيدون له ويتربصون به الدوائر.
 
انظر فيما قال في هذا اليوم: نظر إلى المشركين وما كانوا فيه من قوة فقال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت في خيلائها وفخرها تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)، فلما تزاحف القوم قال: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني)
 
من عبارة هذا الدعاء نستنتج أن أشد الساعات رهيبة في حياة محمد هي تلك الساعة الرهيبة التي كانت فيصلاً بين الإسلام والشرك، إن محمداً كان يخشى أن تهلك هذه العصابة، ويظن أنها إن هلكت فلن يُعبد الله بعدها في الأرض، فهو لا يخاف الموت والهلاك على نفسه وأصحابه حباً في الحياة لذاتها، ولكنه يخاف الموت والهلاك لأن فيهما القضاء على الإسلام وعلى عبادة الله سبحانه وتعالى في الأرض.
فإذا قال قائل: أية ساعة هي ارحب الساعات في حياة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا: هي ساعة الزحف يوم بدر، وهي الساعة التي أعقبها النصر على قريش، فكانت فاتحة مجد الإسلام وإيذاناً بشروق شمسه وأفول نجم الوثنية والشرك أبد الآبدين ودهر الداهرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
المصدر : مجلة الأزهر المجلد 12 جمادى الثانية 1360 الجزء 6.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين