الزينة والرفاهية في نظر الإسلام

 
 
 
العلامة: محمد الخضر حسين
 
للناس أمام زينة الحياة وملاذَها نزعات، فمنهم من يركض إليهما بغير عنان ويملأ يده منهما بغير ميزان، ومنهم من ينصرف عنهما جملة، وينفض منهما يده ولو انساقتا إليه على وجه النعمة، والفريق الأول عقبة في سبيل السلام، والفريق الثاني تارك لجانب عظيم من شكر ذي الجلال والإكرام.
أما الإسلام فقد وزن الزينة والملاذ بالقسطاس المستقيم، فوجد فيهما طيباً وخبيثاً، فأذن فيما كان طيباً، وزجر عما كان خبيثاً، ووضع بينهما حدوداً، ونصب لكل منهما أعلاماً.
ولما كانت النفوس المسرفة في إتباع الشهوات أكثر من النفوس المبالغة في الانصراف عنها، تجد الشاعر قد وجه عنايته للزجر عن الاستكثار منها، أكثر من توجيه عنايته إلى إنكار الغلو في التجرد منها، وتعمد الإمساك عنها.
وإذا نظرنا إلى الزينة والملاذ بنور الدين الحنيف، وجدناهما على ثلاثة أنواع:
أحدهما: زينة ولذة يأتي من ناحيتها فساد كثير أو قليل، وهذا ما نهى عنه الشارع على وجه التحريم والكراهة، ومن المحرم أكل الربا، وشربُ الخمر والاتصال بالأجنبيات من غير طريق مشروع، ولبس الرجال للذهب والحرير.
ومن المكروه تناول ما فيه شبهة كطعام من يغلب على ماله الحرام، ومن هذا القبيل لبس الرجل ثوباً ذا لون يخالف المألوف في أثواب الرجال.
ثانيها: زينة أو لذة يكون في إتيانها مصلحة، وهذا ما استحبه الشارع وندب إليه، كالزواج يبتغي به الولد الصالح، أو عصمةُ النفس من الوقوع في محظور، وكلبس الأثواب الجديدة النظيفة في المجامع اتقاء أن تزدريه العيون، وكاتخاذ الخيل في عداد ما يتخذ لدفع عدو هاجم أو متحفز، أو للمحافظة على الأمن في البلاد.
ثالثها: زينة أو لذة لا تتصل بمفسدة، كما أنها لا تأتي بمصلحة، كاتخاذ الرجل الملابس والأطعمة الفاخرة من غير إسراف، وهذا ما أذن فيه الشارع وفوض فيه الأمر للشخص نفسه، إن شاء فعله، وإن شاء تركه، فلا يلام على فعله، كما لا يمدح على تركه إلا إذا قصد من تركه غاية محمودة كأن يؤثر به ذا حاجة أو ينفق ثمنه في وجه من وجوه الخير.
وقد يختلف الفقهاء في الأمر تلذه الأنفس أو يكون مظهراً للزينة، فيلحقه بعضهم بالمكروه، أو المحرم، ويلحقه آخرون بالمأذون فيه، ومثال هذا ما يذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو أعيادهم فقد أباح طائفة من أهل العلم أكله تمسكاً بعموم قوله تعالى:[ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ] {المائدة:5} .ومنعه آخرون استناداً إلى أن ما يذبحونه لكنائسهم أو أعيادهم مما يدخل في قوله تعالى:[ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ] {البقرة:173}.
ويدخل في هذا السلك اتخاذ الأواني من جواهر نفيسة غير الذهب والفضة فقد أفتى بعض أهل العلم بحرمته وأفتى آخرون بإباحته، وإنما اختلفوا لاختلاف نظارهم في فهم مقصد الشارع من النهي عن استعمال الآنية من الذهب أو الفضة فمن فهم أن علة هذا النهي الإسراف أو التباهي، وجد هذه العلة متحققة في كل جوهر يساوي الذهب والفضة، أو يفضلهما في نفاستهما وقيمتهما، فأفتى بحرمة استعماله، أما المجيزون فذهبوا إلى أن علة تحريم استعمال آنية الذهب والفضة كون الذهب والفضة أثماناً للأشياء، واتخاذ أدوات المنزل منهما يفضي إلى قلتهما بأيدي الناس، وحبسهما عن التصرف الذي يتوقف عليه انتظام المعاملات وهذه العلة لا توجد في غيرهما من الجواهر النفيسة فلا حرج في اتخاذها زينة للمنازل واستعمالها فيما يستعمل من الأدوات.
نهى الشارع الحكيم عن الإفراط في تعاطي الزينات والملاذ، ووضع للخروج فيهما عن حدود العدل عقوبات محمدودة أو موكلة لاجتهاد القاضي واتخذ لحماية النفوس من أن تتعبدها الشهوات وسائل بالغة.
ومن هذه الوسائل فريضة الصيام، فإن حبس النفس عن بعض ما تلذه من نحو المطعومات شهراً كاملاً في السنة يكسبها قوة على ترك الملاذ متى شعرت بما ينتج عنها من عاقبة سيئة. وكذلك فرضت الزكاة لحكم منها: تربية أصحاب الأموال على أدب العطف والرحمة وأخذهم إلى إيثار الفضيلة على الشهوة، وما للفطر في نهار رمضان، أو مانع الزكاة إلا رجل يحمل بين جنبيه نفساً غارقة في حب الشهوات، لا تسمع منادياً، فأنَّى لها أن تجيب واعظاً؟!
ومن يطلق يده بالإنفاق في الزينة وما تلذه نفسه، وكان لا يتجاوز بالانفاق عادة أمثاله، يقل نصيبه من البذل في وجوه الخير، ذلك أن القلوب المبتلاة بحب الزينة واللذات الجسمية، لا تقف فيها عند حد، وكلما أدركت منزلة تشوقت إلى ما فوقها، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري: (وإن هذا المال حلوة من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، وأن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع) البخاري 6427.
وهذه القلوب المريضة تتسابق إلى الشهوات، وتتباهى بما تناله منها، كما تتباهى النفوس الزكية بما تحظى به من خير وكمال، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم) البخاري 4015و6425ورواه مسلم 2961.
ومن تملكه حب الزينة والملاذ الجسمية، لم يبال أن تأتيها ولو من طريق يحط من كرامته، ويذهب ببعض عزته، فالحرص على زهرة الحياة يبسط يد القاضي لتناول الرشوة، ويجعل في أذنه وقراً، فلا يسمع صوت الحق، وهو ينذره المنقلب الذي ينقلب إليه آكلوا أموال الناس بالباطل، والحاكمون بغير ما أنزل الله.
والحرص على زهرة الحياة قد يلجم العالم عن قول الحق، أو يطلق لسانه بغير الحق، يخاف أن ينقطع عن رفاهية أصبح يتقلب فيها، أو تفوته رفاهية بات يترقبها. قال ابن خزيمة: كنت عند الأمير اسماعيل بن أحمد، فحدث عن أبيه بحديث غلط في إسناده، فرددته عليه، فلما خرجت من عنده، قال لي فلان القاضي: قد كنا نعرف أن هذا الحديث خطأ منذ عشرين سنة، فلم يقدر أحد منا أن يرده عليه، فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلعل قلب ذلك القاضي كان متعلقاً بزخرف الحياة حتى أصبح يؤثره على قول الحق، أما ابن خزيمة فليس لزخرف الحياة وأبّهة الإمارة في جانب قول الحق عنده من قيمة.
وإذا كان الموسر الذي يسرف في الزينة والملاذ موضع الملامة، فأولى باللوم والموعظة ذلك الذي يتكلف للملابس النفيسة أو المطاعم الفاخرة، ويأتيها من طريق الاقتراض، فإن الهمَّ والذل الذين يجرهما الدَّين يقلبان كل صفو إلى كدر، وكل لذة إلى مرارة، وقد أصاب الرمية ذلك الشاعر الذي يقول:
إذا رمت أن تستقرض المال من أخ =تعودت منه اليسر في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كيس صبرها =عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر
فإن أسعفت كنت الغنيَّ وإن أبت=فكل منوع بعدها واسع العذر
وإنما رجل الدنيا وواحدها من تكون همته وإرادته فوق عواطفه وشهواته، فإذا نزعت نفسه إلى زينة أو لذة لا ينالها إلا أن يبذل شيئاً من كرامته، راضها بالحكمة وأراها أن مثقال ذرة من الكرامة يرجح بالقناطير المقنطرة من زينة هذه الحياة وملاذها.
 
الغلو في ترك الزينة والطيب من الرزق
 
ومما جاء في كراهة المبالغة في الامتناع من الزينة والطيب من الرزق قوله تعالى:[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] {الأعراف:32}. وقوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] {المائدة:87}.
ففي هاتين الآيتين نهى عن الإفراط في ترك الزينة والطيب من الرزق، والقصد لتركها زهداً في الدنيا، وفيهما بيان أن ذلك الترك في نفسه لا يقرب من الله قيد أنملة، فللمؤمن أن يأخذ من الزينة، ويتناول من الطيبات ما شاء، وقوله تعالى:[ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] {المائدة:87}. إما أن يكون نهياً عن تعدي حدود ما أحل لهم، أو نهياً عن الإسراف في الحلال، وفي الإسراف مفسدة أيّ مفسدة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة).
وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه شديد الزهد، حريصاً على أن يسيِّر الناس سيرة القانع بالكفاف من القوت، فأخذ ينكر عليهم وهو بالشام الاتساع في المراكب والملابس، ويدعوهم إلى صرف ما زاد عن حاجتهم إلى وجوه البر، فوقع بينه وبين معاوية رضي الله عنه كلام فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس وجعل يدعوهم بتلك الدعوة في شدة، فقال له عثمان رضي الله عنه: لو اعتزلت!، قال ابو بكر بن العربي معناه ـ أي قول عثمان ـ إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً، وللعزلة مثلها، ومن كان كابي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلِّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل.
وهذا الحسن البصري وهو من أفضل التابعين، ينكر على من يعد من الورع ترك بعض الأطعمة اللذيذة، دُعي الحسن مرة ومعه فرقد السبَخيّ وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها ألوان من الدجاج المسمَّن والفالوذج وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم ؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم!
وقد أنكر أبو بكر بن العربي ما يفعله بعض المتصوفة من اتخاذه ثوباً يصنعه من رقاع مختلفة، وعده من البدع المكروهة في الإسلام.
ومما ورد في الحث على التجمل حديث جابر رضي الله عنهما، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل عليه بردان قد خلقا ـ أي: بليا ـ فقال: (أما له ثوبان غير هذين؟ فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبات في العيبة كسوته إياهما. قال: فادعه فمره أن يلبسهما، قال فدعوته فلبسهما) موطأ مالك 1688.
وفي هذا الحديث شاهد على أن الدين يأمر الشخص بالتجمل في الملبس، وينهاه عن الخروج في أثواب تزدريها العيون وهو يستطيع أن يخرج في أثواب نقية غير بالية، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، وحمل هذا الأثر بعض أهل العلم على معنى أن الرجل إذا أوسع الله عليه في ماله، فليوسع على نفسه في ملبسه، فيحمل نفسه على عادة مثله.
وسئل مالك عن قول الله تعالى:[ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ] {القصص:77}. فقال: أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه.
وكان أهل الأندلس فيما حكاه صاحب (نفح الطيب): أشد خلق الله اعناء بنظافة ما يلبسون، وما يفرشون وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها، فإن قال قائل: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يحتفلون بأمر الملبس والمطعم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان وهو خليفة يأكل خبز الشعير ويلبس الثوب المرقع، فمن حق الولاة والعلماء من بعدهم أن يسلكوا هذه السيرة وينحوا في الزهد هذا النحو، فإذا خرجوا عنه كانوا موضع اللوم والإنكار؟ قلنا لا لوم ولا إنكار، فسماحة الدين تسع المسلم أن ينبسط في ملبسه، ومأكله ومسكنه ومركبه من غير إسراف.
والأمر في هذا يختلف باختلاف البيئات والأزمنة، يدلكم على هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم الشام فوجد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قد اتخذ الحجاب والمراكب النفيسة والثياب الفاخرة، فسأله عن ذلك؟ فقال: إنا بأرض تحتاج فيها لمثل هذا، فقال: لا أقرّك ولا أنهاك. ومعناه أن الأمر في هذا يرجع إليك، فإن كانت الحاجة تدعو إليه فهو حسن، إن لم تدع إليه حاجة في إنفاق لأموال الأمة في غير حق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يأكل خبز الشعير بالملح كان يفرض لعامله نصف شاة كل يوم، قال شهاب الدين القرافي: يفعل عمر هذا لعلمه أن الحالة التي هو عليها لو سلكها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه، وتجاسروا عليه بالمخالفة، فاحتاج عمر إلى أن يضع غيره في مظهر آخر أدعى للاحترام، وأحفظ للنظام.
 
هل يدخل الورع في ترك المباح
 
وقع في أوائل القرن السابع خلاف بين طائفة من العلماء في المباحات هل يدخلها الورع، فقال الأستاذ الأبياني: ليس في تركها ورع لأن الورع مندوب إليه، وهذا المباحات قد سوى الله بين فعلها وتركها، والندب مع التسوية لا يستقيم. وقال الأستاذ بهاء الدين الحموي: قد يكون في تركها ورع، فإن السلف كانوا يزهدون في كثير من المباحات، وساق في الاستشهاد على هذا الرأي قوله تعالى:[ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا] {الأحقاف:20}.
والحق أن ترك المباح في نفسه ليس من الورع في شيء، فمن ترك طعاماً لذيذاً أو ثوباً نفيساً وهو يستطيعه قاصداً التقرب إلى الله تعالى بهذا الترك فقد أخطأ طريق التقوى، أما إذا ترك نوعاً من الزينة أو اللذة لغرض محمود في لسان الشارع، كأن يتركه في بعض الأوقات حذراً أن تجره المداومة عليه أو الإكثار منه إلى اعتياده، وصعوبة الصبر عليه عند فقده، فذلك مما يصح أن يدخل في باب الورع، وعلى مثل هذا يحمل ما يروى عن بعض السلف من تركهم الزينة أو بعض الملاذ وهم يقدرون عليها.
وأما الآية فإنما وردت فيما يقال للكفار يوم القيامة، وأصلها:[وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا] {الأحقاف:20}. فلا شاهد في الآية على أن تناول المؤمن من الطيبات في الدنيا ينقص نصيبه منها في الآخرة، ولا أن تركه لجانب منها في هذه الحياة يستحق به المثوبة في تلك الحياة.
 
قبول عطايا الأمراء الظالمين
 
اختلف الفقهاء في الاستمتاع بالمال يأتي ممن يغلب على ماله الحرام فاستحله قوم، وحرمه آخرون، واستدل المجيزون بأن جماعة من أئمة السلف أدركوا أيام بعض الأمراء الظالمين وقبلوا عطاياهم، كما قبل أبو هريرة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما عطايا يزيد بن عبد الملك، وقبل ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما عطايا الحجاج، وأخذ مالك من الخلفاء أموالاً جمَّة، وأخذ الشافعي من هارون الرشيد ألف دينار في دفعة، وكان أسد بن الفرات يقبل عطايا السلطان، فسئل عن ذلك فقال: هذا بعض حقنا والله حسيبهم في الباقي.
وكثير منهم كانوا يتورعون عن قبول عطايا الظالمين، كسعيد بن المسيب فإنه كان يتَجر في الزيت ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين.
والحق أن من يحس في نفسه الضعف ويخشى أن ينحدر به قبول هبات الظالمين إلى التغاضي عن باطلهم أو مجاراتهم في طغيانهم فقبض يده عن قبولها فقد أجاب داعي التقوى، قال أبو ذر رضي الله عنه للأحنف بن قيس: خذ العطاء ما كان نحلة فإذا كان أثمان دينكم فدعوه.
وقد حمل بعض أهل العلم ما فعله بعض الأئمة من قبولهم لجوائز أولئك الأمراء أنهم كانوا يأخذونها لينفقوها على أولي الحاجة، روي عن جابر بن زيد أنه جاءه مال من السلطان فتصدق به، و قال رأيت أن آخذه منهم وأتصدق به أحب إلي من أن أدعه في أيديهم، وروي أن ابن عمر كان يفرق ما يأخذه من الجوائز، حتى إنه استقرض مرة في المجلس الذي فرق فيه ستين ألفاً.
والخلاصة أن الإسلام جرى بالنفوس في الاستمتاع بالزينة والملاذ في طريق وسط فدل على أنه الدين الذي يهدي إلى السعادة في الأخرى، و يرضى لأوليائه أن يعيشوا عيشاً طيباً في الحياة الدنيا.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الهداية الإسلامية، المجلد 6، جز 7، محرم 1353هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين