الزواج الأول للرسول صلى الله عليه وسلم

 

كيف نشأت فكرته، وتمت غايته؟

 

كان لنساء مكة في الجاهلية عيد يجتمعن فيه في الكعبة، وبينا هنَّ مجتمعات فيه يوماً، ينعمن بفرحة العيد، ويرفلن في أثواب الابتهاج والمسرة، ويمرحن في بحبوحة الصفو والأنس، إذ طلع عليهن فجأة رجل يهودي، وصاح بأعلى صوته قائلاً: يا نساء مكة، إنه يوشك أن يظهر فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون زوجاً له فلتفعل.

أخِذ النسوة عند سماع هذا القول، واستنكرت آذانهن  وقوع هذا الخبر المفاجئ، وارتسم على وجوههن كثير من علامات الدهش والاستغراب، وأخذ بعضهم ينظر إلى بعض نظرات الاستنباء والاستطلاع، ولما لم يجدن لهن مخلصاً مما أوقعهن فيه ذلك اليهودي، من الحيرة والارتباك، لم يكن منهن إلا أن أخذن يرمينه بالحصباء ويقبحنه، ويغلظن له القول.

ولكن امرأة واحدة كانت بين هذا الجمع الحاشد لم تبد حركاً، ولم تتغير سمات وقارها ولم تقع فيها وقع فيه النسوة، وهي وإن ظلت ساكتة على قول ذلك اليهودي، إلا أنه لم يمرَّ عندها مرور اللغو من الكلام، بل أخذت تفكر فيه، وتتدبر أسراره ومراميه، وأخذت تيارات تفكيرها تزخر وتصطخب، وبحار آمالها تتسع وتمتد، وجعلت من ذلك الوقت ترقب الحوادث عن كثب، وتتبع ما يقع في صمت وهدوء وكتمان.

نشأ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم معروفاً بين قومه وعشيرته بصدق الحديث، وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، وكمال المروءة، وبالغ الوفاء، ومشهوداً له بالصراحة في القول، والشجاعة في الحق، والبعد عن المداراة والمماراة، ولاشتهاره بينهم بهذه الفضائل السامية، واتصافه بتلك الخلال الكريمة، صارت قريش تدعوه باسم (الأمين)، وتتحاكم إليه ـ على صغر سنه ـ فيما شجر بينهم من خلاف ونزاع.

كانت خديجة بنت خويلد صاحبة تجارة، وذات مال ويسار، وكانت تبعث رجالاً من قومها يتجرون في مالها، ويصيبون منه منافع، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها، وعلمت ما كان بينه وبين عمه أبي طالب من محاورة بشأن حثه على الذهاب إلى خديجة ومحادثتها في أن يخرج في مال لها تاجراً ـ بعثت إليه فعرضت عليه الخروج إلى الشام في تجارة لها،  وأن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العرض، وفرح به وكذلك فرح به عمه أبو طالب، وقال له: إن هذا الرزق ساقه الله إليك ثم خرج النبي إلى الشام، وخرج معه ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها.

رجع محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد فراغه من تجارة الشام، وأخبر ميسرة خديجة بما رآه من أحواله، وبما شاهده فيه من حسن التدبير، ورجاحة العقل، وجم النشاط، وقوة الصبر والاحتمال، وطهارة الذمة، وشرف النفس، وحدثها بما سمعه من قول الراهب عنه، وكان قد لقيه راهب في الشام، وذكر لميسرة أنه سيكون لمحمد شأن أي شأن.

وهنا رجعت خديجة بالذاكرة إلى ما كان قاله ذلك اليهودي الذي خرج على النسوة يوم اجتماعهن في العيد، ورجع إليها ذلك الأثر العظيم الذي تركه كلامه في نفسها، فازداد فرحها وتضاعف سرورها، وقويت آمالها، وجعلت تنظر إلى المستقبل بعين المتفائل المستبشر، ولتطمئن خديجة على ما في نفسها، وتثق من تحقق رجائها، وتعرف رأي أهل الذكر فيما علمته، وفيما أخبرها به ميسرة، ذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ـ وكان قد تتبع الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل ـ وذكرت له أمر محمد، فقال لها: إن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي منتظر، هذا زمانه.

جاء كلام ورقة لخديجة ناطقاً بما وقر في نفسها، صريحاً في تحديد المعاني التي ساورتها لأول وهلة عندما رنت في أنها صيحة ذلك اليهودي، فهز ذلك منها المشاعر، وفتح لها باب الأمل على مصراعيه.

أما هذه الحوادث البارزة، والآيات الناطقة، ومع ما أراده الله تعالى لخديجة من الكرامة والخير، فكرت كثيراً في أمر الاقتران بمحمد، وأخذت تتلمس له الأسباب، وتنتهز له الفرص، ولم يكن الباعث لها عليه في الواقع فكرة التزوج وحسب، كما تفكر في ذلك المرأة العادية، كلا، كلا، فقد كانت امرأة عاقلة حازمة شريفة، وكانت من أعرق نساء قريش نسباً، وأكثرهن مالاً، وأحسنهن جمالاً، وكانت تدعى بينهم بالطاهرة، كما كانت تدعى سيدة نساء قريش، وما كان بين عشيرتها من يتأخر عن طلب يدها، فمن غير المعقول والحالة هذه أن يدفعها إلى الزواج مجرد الرغبة في الزوج، وحب الاقتران برجل، وإنما دفعها إليه تلك السيرة الطاهرة والأخلاق النادرة، والآيات الباهرة، والمستقبل المملوء بالفضائل والعظائم، وهذا كله قد اجتمع له صلى الله عليه وسلم.

ولكن ماذا تصنع خديجة؟ وكيف السبيل إلى مفاتحة محمد في هذا الأمر الخطير ـ وهي مهما اشتدت عندها الرغبة وكثرت لديها الدواعي ـ امرأة لها حياء المرأة الشريفة وإباؤها ووقارها، ولها فخر حسبها، وعراقة نسبها، ووفرة مالها ؟ وهل يليق بمن كان في مكانتها شرفاً وجاهاً أن تقدم على هذا الأمر ـ مهما كان اقتناعها به ـ دون أن تتخذ له من المناسبات والملابسات ما يكفل لها جلالها ويحفظ عليها احتشامها؟

ومع دقة هذا الموقف ووعورة مسلكه على المرأة النبيلة، لم تعدم خديجة من الوسائل ما تجد فيه منفذاً إلى رغبتها، وطريقاً إلى طلبها، فبعثت إلى نفيسة بنت منية ـ وهي يومئذ من أعز صويحباتها وأمينة سرها ـ وأرسلتها إلى محمد، لتتحدث معه في أمر الزواج، فذهبت إليه، وكان حديثها معه فيه كياسة ولباقة، وفيه مهارة وبراعة، فتكلمت معه أولاً في شأن الزواج عامة، ثم تدرجت منه إلى الحديث عن زواجه بخديجة خاصة، وتلك سياسة رشيدة في أساليب الحديث، لها نتيجتها، ولها أثرها في استطلاع الرأي، وفي معرفة المخبوء في النفس، وتروي نفيسة هذه القصة فتقول: فقلت يا محمد: ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به، قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: فمن هي ؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: بلى، وأنا أفعل.

بعد هذه الخطوة المباركة التي تمت بسفارة نفيسة بين خديجة ومحمد، التقت رغبتهما في الزواج، وامتزجت عواطفهما وميولهما، وأحس كل منهما أن ما يتمناه أخذ يدنو منه ويتقرب، فما كادت خديجة تعلم من نفيسة رغبة محمد فيها، وما كادت تراه بعد ذلك حينما حضر إليها للتحدث في أمر التجارة، حتى قالت: يا ابن عم، إني رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ولم تقتصر خديجة على هذا، بل أرادت أن تبين له في جلاء وصراحة سبب رغبتها فيه، وسر حرصها على التزوج منه، فأخذت بيده، ثم قالت: بأبي أنت وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث فإن تكنه فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي سيبعثك لي، فكان جوابه لها صلى الله عليه وسلم، جواب الصادق الكريم والوفي الأمين، فقال لها: والله لئن كنته، لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبداً، وإن يكن غير، فإن الإله الذي تصنعين هذا من أجله، لا يضيعك أبداً.

كان طبيعياً بعد أن انقضى شأن الخطبة أن يأتي بعده شأن عقد الزواج، فخرج محمد صلى الله عليه وسلم في عمومته من بني هاشم، ورؤساء مضر، وبينهم عماه أبو طالب وحمزة، فأتوا دار خديجة، وفيها عمومتها وذووها، وبينهم عمها عمرو بن أسد، وابن عمها ورقة بن نوفل، فقام أبو طالب وقال: الحمد الله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً، وكرماً وعقلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قَلّ فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ... فلما أتم أبو طالب خطبته، تكلم بعده ورقة بن نوفل، فقال: الحمد الله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم فاشهدوا عليَّ يا معشر قريش أني قد زوجت خديجة بنت خويلد محمد بن عبد الله وذكر المهر ثم سكت.

فقال أبو طالب، قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا عليَّ يا معاشر قريش أني قد زوجت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وشهد على ذلك صناديد قريش.

أصبح محمد وخديجة بعد إتمام العقد عروسين، ولابد أن يكون السرور قد ملأ قلوبهما والفرح قد أفعم نفوسهما، وخصوصاً بعد الزواج اشتدت الرغبة فيه، وقوي الحرص عليه من جانب كل من العروسين، وكان وصولهما إليه أمنية مرقوبة وبغية محبوبة.

وحقاً كان ذلك، فقد ابتهج العروسان وذووهما لهذا القران ابتهاجاً عظيماً، وأخذت مظاهره تبدو في ألوان مختلفة وصور منوعة.

فأما محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أولم وليمة عامة دعا إليها الناس، وهي أول وليمة له صلى الله عليه وسلم، وكذلك صنعت خديجة وليمة عظيمة أطعمت فيها الأقارب والأباعد.

وأما أبو طالب، فقد فرح فرحاً شديداً وجعل يحمد الله على نعمائه، ويشكر له جزيل فضله.

قضت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، لم يتزوج عليها أحداً، ولم يشركها فيه غيرها، وانفردت به هذه المدة الطويلة التي صانها الله فيها عن مواطن الغيرة، ومتاعب الضرائر، فدل ذلك على عظيم قدرها عنده، ومزيد فضلها، وعلى صادق الوفاء، وأكيد الولاء بينهما، ولقد كانت رضي الله عنها خير مؤازر له ومعين قبل البعثة وبعد البعثة، فساعدته بمالها، وكانت أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه، وأعان على ثبوته بالنفس والمال، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئاً يحزنه، من ردٍّ عليه وتكذيب له، إلا فرَّج الله عنه بخديجة، فكان إذا رجع إليها تثبّته وتخفف عنه، وتهون عليه أمر الناس، وتسهل عليه أذاهم، وأنهم إن قالوا فيه مالا يليق، فهم يعلمون أنه بريء منه، وإنما يقولونه حسداً.

لما جاءه الوحي، وذهب إليها، وأخبرها الخبر، وقال لها: لقد خشيت على نفسي قالت له: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فأي زوجة تصنع مع زوجها من ضروب المعاونة والمواساة والتشجيع ما صنعته خديجة رضي الله عنها مع محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وأي زوجة تبذل من الوفاء والإخلاص والأمانة والمروءة وحسن العشرة ما بذلته تلك الزوجة الوفية الكاملة لزوجها الوفي الكامل؟.

نستطيع أن نؤكد أن التاريخ على اتساع مداه، ووفرة أخباره، لم يحدثنا عن رابطة زوجية متينة، كتلك الرابطة الزوجية التي كانت بين محمد وخديجة.

ولذلك لما ماتت رضي الله عنها، حزن عليها النبي حزناً شديداً، وسمى العام الذي ماتت فيه هي وأبو طالب عام الحزن، وكان كثير الذكر لها، والثناء عليها، حتى روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما غِرت على أحد ما غرت على خديجة، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يخرج من البيت، حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها، فغضب صلى الله عليه وسلم ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقت منها الولد، وحرمته من غيرها، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بعدها أبداً.

هذا عرض وجيز لتاريخ ذلك الزواج النبوي الأول، نطالع به حضرات القراء الكرام بمناسبة إقبال العام الهجري الجديد، راجين أن يكون لما جاء فيه من خلق فاضل، وسيرة حميدة وأدب رفيع، وتعاون قوي، وتضامن بين الزوجين أحسن قدوة للمسلمين، وأبلغ عظة في نفوسهم، فيستقبلوا عامهم الجديد بقلوب عامرة بالخير، وهمم صادقة في الأخذ بمبادئ الرسول الكريم، واتباع سنته القويمة، والله الموفق.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين