الزنا ومقدماتُه وآثارُه وعلاجُه الحاسم

من تحصيل الحاصل وتعريف المعروف أنَّ نقول إنَّ فاحشة الزنا هان أمرُها اليوم وانتشرت انتشاراً هائلاً.

وإنه ليخيَّل للناظر المتفكر أنَّ تحريم هذه الفاحشة قد نُسخ وأصبح حكمُها الوجوب الحتم الذي لا يجوز الإخلال به، يدلك على هذا ما عليه النساء والرجال في هذا الزمان، فإنك تخرج من بيتك فتقع عينك على النساء، فترى منهنَّ استعداداً تاماً لمن يختلط بهنَّ، لا بل نرى تحريضاً وإغراءً شديداً على الاختلاط، فإنَّ إحداهنَّ تتزيَّن بأنواع الزينة من لباس برَّاق وشفَّاف، ومن حلي يلمع لمعاناً يأخذ بالأبصار، ومن تعطُّر بما تهزأ رائحته برائحة المسك، ومن ادِّهان تدَّهن بها وجهها وأطرافها وحاجبها وشفتها، ومن آلة تفرق بها شعر جفونها ليظهر طويلاً وكثيراً، وبذلك كله تنقلب فتنةً للناظرين بعد أن كانت إذا رآها مُلتهب شوقاً إلى النساء يفرّ منها فراراً.

وكذلك ترى الرجال في تأنُّق بديع في لباسهم، قد ألهبت الأصباغ وجناتهم، وذكت ثم ذكت روائحهم، ورُجِّل أجمل ترجيل شعر رؤوسهم العارية، فإذا التقى الصنفان في الشوارع رأيت شفاههم بالابتسامات تتكلَّم، ولمحت عيونهم بأنواع الإشارات تتفاهم، وسمعت ألسنتهم تصفُ من مُبرِّح الشوق ولاعج الغرام ما يَلين له الحجرُ الصَّلْد.

ثم لمن تتزيَّن هذا التزين؟ إنها بالضرورة تتزين لزوجها الذي بالشارع، وهو يتزيَّن لحرمه التي بالشارع، فإذا التقيا تعارفا وصبا كلٌّ منهما إلى الآخر أكثر وأشد مما يكون بين الرجل وزوجه في مخدعهما الخاص.

وإلى هذا يعزى موت سنَّة الزواج اليوم، فإنَّ الشاب يقول بصريح العبارة: المتزوّج له واحدة أو اثنتان أو أربع! وأنا لي مئات الآلاف من الزوجات، وكذلك تقول البنات.

ولقد حكى لي من فهمت منه أنَّ النساء في هذا الزمان يقلن قد وصلنا إلى أن ساوينا الرجال وزدنا، فكما كان لهم أن يتمتعوا بزوجات مُتعدِّدات قد صرنا مثلهم وأكثر لا حرج علينا أنَّ نتمتع بمن نشاء من الرجال بلا عدد محدود، ويحمدن الله تعالى على عهدٍ صرن به كذلك.

ولقد أخبرني من أثق به أنه يعرف بنتاً في غاية الجمال، ومالها كالتراب، وكل يوم يخطبها خَطَّاب، فتأبى الزواج، فسألها عن السر في هذا الامتناع، فكان الجواب ما سمعت بكل صراحة، ولولا أنه من الصالحين أهل الخشية الله تعالى لكان من أزواجها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والسرُّ في كثرة الزنا إلى هذا الحد موتُ غيرة الرجال على النساء موتاً لا شك فيه.

يفهمك هذا أنَّ الرجل يری امرأته بعينه تخرج من بيته إلى حيث لا يعلم ليلاً ونهاراً ولا يتحرك منه شعرة، ويرى منزله مثابة لمن لا يحصى من الرجال يدخلونه ليلاً ونهاراً، في حضوره وفي غيابه، ولسانه أخرس، ويداه مكتوفتان، ورجلاه مقیدتان، وعقله معطَّل.

وفي ظلِّ هذه الحرية التامَّة داخلاً وخارجاً تفعل المرأة ناقصة العقل والدين ما تفعل، وغير مُستطاعٍ لها وفي غير مقدورها أن لا تفعل.

وكيف تكون عفيفة من ترى في كل وقت بمنزلها رجالاً منهم الأجمل من زوجها، ومنهم الأقوى منه، ومنهم الأنظف، ومنهم الأفصح الأحلى كلاماً، وهذا يحادثها، وذاك يسامرها، وقل ولا تتهيب أنَّ بعضَهم يغازلها، فإذا خرجت وقعت عينها على أكثر، وسمعت أذنها أكثر، وكثيراً ما تمتدُّ إليها الأيدي الخائنة، فهل هي حجر؟

لا، إنها بشر، وناقصة العقل، فلا تقوى على الوقوف أمام شهوتها، وناقصة الدين، فلا تقف مخافة الله بينها وبين هيجانها الحيواني، بل أنت أيها الرجل لا تستطيع أن تقف أمام نفسك إذا هاجت وطلبت هذا المعنى البهيمي، مع أنك أقوى منها عقلا وأشد منها ديناً.

والمرأة إذا زنت انكلبت، فإنها تشعر بلذة لم تشعر بها في حياتها، أما إذا كانت لم تتزوج فظاهر فيها ذلك، وأما إذا كانت متزوجة فإنَّ لذة الحلال لا تساوي ولا تداني لذة الحرام، فإنَّ الممنوع أحب وألذ، فإذا ذاقت هذه اللذة الجديدة اشتدَّ حرصها على أن تذوقها كل وقت، وحينئذ تصبح هي طالبة لا مطلوبة.

وانظر أنت ما تفعل المرأة بالرجال إذا كانت هي الطالبة؟ إنها تفتك بهم فتكاً، وكل رجل يزني ينكلب كما قلنا في المرأة، فيفتك بالنساء فتكاً، وكل رجل تفتك به الزانية ينكلب، فيفتك بالنساء، وكل امرأة يفتك بها رجل تنكلب، فتفتك بالرجال، وفي هذا من الفساد في الأرض ما لا يعلم له قدر فيحصر، وفي هذه الجيوش الفاسدة الكثيرة من الأمراض المختلفة الشيء الكثير، وباختلاطهم والحال ما ذكر تسري الأمراض من المرضى إلى الأصحاء، ولذلك كثرت الأمراض السرية اليوم كثرة أقلقت عقلاء الأمَّة قلقاً عظيماً، لما أنها كل يوم تحصد من نساء الأمَّة ورجالها العشرات والمئات، ومن راجع سجلات الأطباء وتقاريرهم عن الموتى بالأمراض السرية يهوله الأمر ويفزعه ويدعه جازماً أنَّ هذه الأمَّة قريبة الفناء بتلك الأمراض الخبيثة، مع أنَّ ما يعلمه الأطباء بالنسبة لما لا يعلمونه جزء من آلاف، فإنَّ الناس يستحيون ولا يقدمون أنفسهم للعلاج، فيموتون دون أن يعلم لهم حال، ولو رأيت آثار تلك الأمراض بأهلها لطاش عقلك ومتَّ كمداً وحزناً على أمتك المسكينة.

ولقد تناول البرلمان - رحمه الله - هذا الموضوع في دورة من دوراته، واقترح كثير من أقطابه ألا يتزوج رجل امرأة ويدخل بها إلا بعد الكشف عليهما طبياً، وبعد التحقق من خلوهما من الأمراض السرية يتركان وشأنها وإلا حيل بينهما ومنع منعاً باتاً من معاشرة بعضهما.

اقترحوا هذا الاقتراح بُعداً برجال الأمَّة ونسائها عن هذا البلاء الحاضر، وصيانة لهم عن هذا الموت الأحمر، لكن باقي رجال البرلمان رأوا أنَّ ذلك شديد وصعب، فإنه يكشف عن بلايا الناس في غنى عنها، وذلك اكتفى بما هو حاصل الآن من أخذ إقرار من الزوج والزوجة بأنها خاليان من الأمراض المعدية، ويشهد على ذلك شاهدان، وبعد هذا الإقرار يتولى المأذون العقد، وبدونه لا يسوغ له مباشرته.

هذا أثر من آثار كثرة الزنا وفشوّ الأمراض السرية في هذا العصر.

ومن الآثار الذي تفتت الأكباد لتلك الفاحشة الخبيثة وكثرتها كثرة مريعة ما تراه كل يوم منشوراً على صفحات الصحف يقرؤه كل ذي عين، وما ذا تنشر الصحف؟ تنشر حوادث قتل حصرها عسير لكثرتها، وكلها لأسباب نسائية، وإنما تحصل هذه الحوادث لأنَّ في الأمَّة أناساً لايزال بهم من الغيرة على الأعراض ما بهم، فإذا رأوا من يسطو على أعراضهم يَغْتَالونه ويفتكون بمن يعلمون عنها هذا الفحش، ومن اعتاد مطالعة أخبار الجرائد يفهم ما نقول حقَّ الفهم، وتنشر الصحف أخبار لقطاء عثر الناس على جثتهم في الطرق وفي صناديق القمامة وفي أفواه الكلاب.

ومن وقت لآخر ترى هاتيك الأخبار عن اللقطاء بعضهم يقتل قبل أن يلقى في الأرض، وبعضهم يلقى حياً، وهذا العدد الذي يعثر عليه قليل جدا بالنسبة لمن يُقتلون ويُلقون في محلات قضاء الحاجة، ولمن يقتلون ويدفنون في الأرض، وكل هؤلاء وهؤلاء جزء من آلاف لمن تعمل لهم عمليات تلقيهم من البطون وهم علقات أو مضغات، والسواد الأعظم من الزواني يعملن احتياطات تمنع الحمل أن يكون.

كل هذا إنَّما تفعله النساء اللاتي لا أزواج لهنَّ، يفعلنه خشية الفضيحة، أما ذوات الأزواج فلا خشية ولا وجل عندهنَّ، فإنَّ ولادة ذات الزوج عادية وطبيعية فلا إنكار عليها من أحد.

كل هذا أحكيه وفي النفس ما فيها من الحزن على هذا القطر البائس، فإني أعلم أنَّ زنية واحدة قد تكون سبباً في بلاء أمة، فكيف بزنيات، فكيف بكل ما سمعت؟.

وإن شئت فاسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه الحاكم بإسناد صحيح، ولهذا الحديث رواية أخرى رواها أبو يعلى بإسناد جيد نصها: «ما ظهر في قوم الزنا أو الربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» وهذه الرواية تقول أنَّ أحد الجرمين كافٍ في أن ينزِّل الله تعالى عقابه بقرية تباشره.

ولا تكن جامداً عند ظاهر اللفظ النبوي، فتقول إنَّ الحديث يقول في قرية وأنت تحكم على الأمَّة بأسرها أو القطر كله، وهذا غير هذا، فأقول لك: إنَّ الأمَّة أو القطر كالقرية تماماً، فاذا ظهر فيها أحد الذنبين كفى أن يكون ذلك سبباً في عقوبتهم، وأزيدك علماً في هذا الموضوع فأرجوك أن تسمع وتفكر طويلاً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال أمتي بخير مُتماسك أمرها مالم يظهر فيهم ولد الزنا» رواه أحمد وأبو يعلى واللفظ له.

ولعلك تقول لي إنك ألهبت قلوبناً حزناً على ما نحن فيه أمام هذه الفاحشة الشنيعة؛ فهل عندك دواء يستأصلها ويقضي عليها ويطير الأرض منها؟ فأقول لك: عندي والله الدواء الحاسم القاطع الذي يأتي على هذه العملية المستحكمة من أصولها لا يترك منها عيناً ولا أثراً، ولكن من يسمع لي؟ وإذا سمعوا فمن يعمل؟ والزمن زمن تمدين وحرية واستقلال، وبيننا من يدافع دفاع المستميت عن هذه الحالة التي نصفها ويعدّها هي التقدم وهي الكمال، لحاجة في نفوسهم لا تخفى على ذي فطنة، ولكنا لا نضنّ بهذا الدواء نذكره لعل في الأمَّة من ينتفع به، ونحن نظن كل الظن أنَّ الخير لم ينقطع منها ولله الحمد فنقول:

إنا ذكرنا في هذا المقال أنَّ الحرية في اختلاط الرجال بالنساء داخل البيوت وخارجها هو السبب الوحيد في وقوع هذه الفاحشة وفشوها كل هذا الفشو، فمن أراد أن يأتي عليها من جذورها فليمنع أهله عن هذا الاختلاط منعاً يقال له منع حقاً، ولا يسمح لمخلوق كائناً من كان - ولو قالوا له إنَّه من أفاضل الأولياء - أن يدخل عليهنَّ، إلا إذا كان مَحْرَماً لها أميناً، ونقول (أميناً) لأنَّ الأيام كشفت لنا أنَّ المحارم فيهم من لا يُؤتمن على مَحارِمِه من النساء، نشرت الصحف ذلك غير مرَّة ولم تستثنِ حتى الوالد مع بنته، ليفعل هذا ولا يرض للمرأة أبداً أن تبارح بيتها إلا لضرورة تحتم خروجها، فإذا رضي مرَّة رافقها إلى الجهة التي تريدها أو رافقها أحد محارمها الأمين، يذود عنها ويحميها من اعتداء الفسقة من الناس، فإذا انتهت الضرورة صاحبها في رجوعها إلى منزلها كذلك، ولا يتساهل فإنَّ البلاء كله في التساهل، وليحذر الحذر كله من أن يظن بأهله خيراً، وبناء على هذا الظن يتركها حبلها على غاربها، فإنَّ ذلك خطأ عظيم، وليعلم أنَّ الدنيا بأسرها ليس بها امرأة لا تقع في شباك الرجال إلا واحدة فقط هي البعيدة عن الرجال، وكاذبة ألف مرة من تختلط بالرجال ثم تدَّعي أنها في عافية، وقُل ذلك بعينه في الرجل.

وأرجوك أن تحفظ وتفكر طويلاً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء» رواه البخاري.

وقل أنت فهماً من هذا الحديث الكريم: ليس على النساء فتنة أضر من الرجال، وأعود فأكرر عليك وصيتي وأشدد فيها كل التشديد أن تحول الحيلولة كلها بين أهلك وبين الرجال إن أردت عافيتهنَّ وطهارتهنَّ وصون ذريتك من الدنس، وأن تبعد أنت البعد كله عن النساء، لا تدنُ منهنَّ، لا تتحدث معهنَّ، لا تنظر إلى وجوههنَّ، لا تدخل عليهن بيتاً ليس معك رجال لهنَّ، لا تعطهنَّ ولا تأخذ منهن شيئاً في ذلك الانفراد؛ واعتبر وفكر ودقق في التفكير في قصة سيدنا يوسف صلى الله عليه وسلم مع امرأة العزيز، فإنك تجد ربَّنا يمدحه مدحاً عظيماً حتى خصص لقصته وحدها سورة في كتابه تتلى على ممرِّ الدهور، وعلامَ كل هذا؟ على أنَّ المرأة لم تخدعه ولم تنشب فيه مخالبها، فلو كانت النجاة من المرأة شيئاً هيناً ما استحقَّ عليها سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام كل هذا المدح الإلهي.

أيها الأخ المؤمن، أنت في زمن موبوء في أخلاقه جداً، فاسمع كلامي ولا تسمح لنفسك أن تهمل العمل بحرف واحد منه، وحسبك أن تعلم أنَّ المنع من الاختلاط لا يضر أبداً، والنفع كله فيه، فإنَّ المرأة إن كانت عفيفة الطبع زادها عفَّة وساعدها على الطهارة والصون، وإن كانت غير عفيفة الاستعداد أرغمت على العفة إرغاماً، فإنها لا تخلق من يقضي لما مقتضى استعدادها.

وإلى هنا أنتهي من هذا الموضوع ظاناً أني محَّضت النصيحة فيه وبالغت في الزجر وأغرقت في التحذير، ولم يبقَ بعد ذلك إلا أن يعمل القارئ الكريم، فإن عمل الخير أراد لنفسه، وإن لم يعمل قد قمت أنا بواجبي، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين