الزلازل.. والأسئلة الوجودية

الزلازل، هي الأكثر تأثيراً في وجدان الإنسان، من بين كوارث الطبيعة، وأكثرها طرحاً للأسئلة الوجودية حول الخالق سبحانه وتعالى، والمصير، والموت، والحكمة المتخفية من ورائها، ولعل ذلك بسبب فجأة الزلزال، وقدرته التدميرية وكثرة القتل في ثوان معدودة، وعدم صمود أي شيء أمامه، فتصير مفاخر الحضارة في البنيان، هي الأكثر خطورة، وكذلك تشابه حالة الهلع التي تصيب الجميع.

 

تشير الإحصاءات العالمية أن 60 ألفاً هم ضحايا الكوارث الطبيعية كل عام، من جفاف وتسونامي وفيضانات وحرائق غابات وزلازل، ويتأثر بتلك الكوارث حوالي 150 مليوناً آخرين، وحسب إحصاءات جامعة أكسفورد، فنسبة وفيات الكوارث تعادل 0.1% من بين الوفيات العالمية، التي تُقدر بـ7.2 ملايين شخص كل عام، ومعنى هذا أن وفيات الزلازل تشكل نسبة ضئيلة جداً في نسبة الوفيات العالمية مقارنة بحوادث الطرق التي تحصد حياة 1.3 مليون إنسان، وتصيب قرابة 50 مليوناً آخرين.

 

ولكن، لماذا يطرح الزلزال أسئلته الوجودية، خاصة على الإنسان الحداثي العلماني المتشبع بقيم المادية والنفعية؟ ولماذا كان الدين هو المهرب مع تلك الكارثة؟

 

الزلزال ومؤشرات التدين

 

في جامعة كوبنهاجن الدنماركية، خلصت الباحثة جانيت بنتزن في بحثها عن الزلازل والدين(1) أن التدين يزداد بنسبة 7.6% في المناطق التي تعرضت لزلزال، مقارنة بالمناطق التي لم تشهد الزلزال، وقالت: «وجدتُ أن الأفراد في جميع أنحاء العالم يصبحون أكثر تديناً عندما تضربهم الزلازل، ويستمر تأثير أي زلزال من 6 - 12 عامًا، ولكن أثره يبقى وينتقل عبر الأجيال»، وأشارت إلى أن العواصف والأعاصير لا تملك نفس تأثير الزلزال في زيادة التدين، وتعلل ذلك بأن الكوارث التي لا يمكن التنبؤ بها هي ذات التأثير الأكبر على حالة التدين.

 

وفي كتاب آخر هو «روايات الإيمان في زلزال هايتي»(2) الذي يتحدث عن الزلزال الذي ضرب دولة هايتي، في يناير 2010، وخلف أكثر من 220 ألف قتيل، وحوالي 1.3 مليون مشرد، ويعد من أقوى الزلازل التي سجلها الإنسان، يكشف الكتاب الذي استغرق إعداده فترة طويلة من العمل الميداني والبحثي، عن تأثير الدين في لحظات الكوارث وبخاصة الزلازل، وكيف أثر الزلزال على الجانب الاعتقادي للشخص، وكيف أثر التدين على التعجيل بحالة التعافي من الأزمات النفسية بعد الزلزال.

 

وفي دراسة ثالثة بعنوان «الإيمان بعد الزلزال»(3) قام بها الباحثان كريس سيبلي، وجوزيف بولبوليا، فقد وثق الباحثان ارتفاعاً للتدين في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا بعد الزلزال الذي ضربها في 22 فبراير 2011، وتسبب في مقتل 185 شخصاً، وأكد الباحثان ازدياد الإيمان الديني في المنطقة بعد الزلزال، وقالا: «إن هذا أول دليل على مستوى السكان أن العلمانيين يتجهون إلى الدين في أوقات الأزمات الطبيعية».

 

الزلزال وسؤال المعنى

 

ولكن، هل يكشف اندفاع الإنسان للدين بعد الزلزال عن أزمات وجودية في الحداثة؟

 

في البداية، الكارثة الطبيعية مؤشر قوي على العجز الإنساني أمام الطبيعة، وتذكير بأن هناك قوى في الكون لا يستطيع أن يواجهها الإنسان أو يتحكم فيها، أو حتى يفهم غايتها ودوافعها من وراء إحداث الكارثة، وهو ما يرسخ هذا العجز، ويكسر الغرور الذي خلقه المنطق الحداثي العلماني التقني، بأن العلم قادر على إدراك كل ما يحيط بالإنسان، والسيطرة عليه والتحكم فيه.

 

كذلك، فإن الزلزال يطرح مفهوم الموت والمصير بجلاء أمام أعين الجميع، ففي المجتمعات الحديثة، يلاحظ أن الموت يتخفى بعيداً عن المستشفيات، أما مراسمه فتحاصرها جدران القاعات، وهو ما يجعل الموت شأناً خاصاً ومنعزلاً إلى حد كبير، ولا يشعر به المجتمع، الذي يراود بعضاً من أفراده حلمُ الخلود، ولكن مع الزلزال يطفو الموت على الشاشات ويطل من تحت الأنقاض، وتبدو ملامح الخوف والهلع؛ لأن الموت لم تعد له أسباب يمكن علاجها؛ بل أصبح قراراً خارج الإرادة الإنسانية، وبصورة لا تستثني أحداً، وهو ما يُفقِد الإنسانَ الإحساسَ بالأمن من الموت بصورة مرعبة.

 

ويطرح الزلزال فكرة الفناء غير المسبب، لهذا فالزلزال لا يهدد الحياة فقط، ولكن يهدد المعتقد -أيضاً- للإنسان الحداثي العلماني؛ لأن الموت مع الزلزال يطرح سؤال المعني، الذي حاولت الحداثة طمسه، مع تسارعها في الإنجاز التقني.

 

وربما هذا ما تنبه إليه سيجموند فرويد في كتابه «مستقبل الوهم» الصادر قبل مائة عام عندما قال: «لا أحد يتوهم أن الطبيعة قد هُزمت بالفعل، فهناك عناصر يبدو أنها تسخر من سيطرة الإنسان المطلقة؛ فالأرض التي تهتز وتمزق وتدفن كل حياة بشرية؛ والماء الذي يغرق كل شيء في حالة اضطراب؛ والعواصف التي تطيح بكل شيء أمامها، والأمراض، وأخيراً لغز الموت المؤلم، الذي لم يُعثر على دواء ضده، وربما لن يكون موجوداً على الأرجح، مع هذه القوى تثور الطبيعة علينا، مهيبة وقاسية لا هوادة فيها؛ تعيد إلى أذهاننا مرة أخرى ضعفنا وعجزنا».

 

في تلك اللحظات المصيرية ومع هزات الزلزال تُمَزق الحُجُب التي صنعتها الحداثة لتغييب سؤال المعني والمقدس، فالعقلانية التي تفتخر بها الحداثة تقف عاجزة عن الفهم والسيطرة؛ بل وحتى عن النجاة بنفسها، ويشير بعض الكتَّاب الغربيين إلى أن الإعلام في ظل تلك المجتمعات مع الكارثة الطبيعية ينزع الشرعية عن الحداثة؛ بل إنه يمارس دور الكنيسة في التذكير بسؤال المعنى، مستغلاً كارثية الموت والدمار.

 

لكن الأخطر على الرؤية الحداثية، مع الزلزال، أن الحداثة تجد نفسها مضطرة إلى الاستعانة بالدين لتسكين الخواطر، وتخفيض حالة الهلع والذعر، وعلاج الاضطرابات النفسية؛ وهو ما يعني أن الدين ما زال حاضراً بقوة وإيجابية، وقادراً على التأثير في المجتمع والإنسان، لذلك زادت الدراسات حول دور الدين في الكوارث، واستجابة الكثير من الناس للمنطق الديني في التعامل مع الكارثة، وهو ما أكده المؤتمر الذي عقده «برلمان أديان العالم» عام 2009 بعنوان «الإيمان، والمجتمع، والحد من مخاطر الكوارث»، وتضمن فصلاً بعنوان «كيف يؤثر الدين والمعتقدات على التصورات والمواقف تجاه المخاطر؟»، الذي أكد أن الدين يساهم في التعافي من الأزمات والكوارث، وأن بعض الناس يتجاهلون تلك المخاطر، ويعتبرون أن قدرتهم صغيرة جداً لمواجهتها، وهنا يأتي سؤال الدين، الذي يخلق المعنى، ويشكل المنظور الذي يرى الإنسان من خلاله العالم، ولذلك يرى هؤلاء الأحداث الكونية، بما فيها الكوارث، طريقة يظهر بها الإله وجوده في الكون وهيمنته عليه.

 

والحقيقة أن الرؤية الإسلامية تؤكد أن تدبير الكون ليس ببعيد عن القدرة الإلهية، فالكون ليس مقطوع الصلة بخالقه، وأن الكوارث الطبيعية، بما فيها الزلازل، تتخفى وراءها حكمة، وهذه الحكمة قد تكون تنبيهاً بالعودة إلى الله، وقد تكون عقاباً، وقد تكون خيراً رغم ظاهرها المأساوي، وأن الضحايا شهداء؛ لأن الهدم سقط عليهم، وأن الخسائر المادية ابتلاء، سيعوضه الله مع الصبر والعمل، أما تقديم العون للمتضررين فهو إحسان عظيم، وبذلك عالجت الرؤية الإسلامية الكارثة بمستويات عدة، بدءاً من الرؤية الوجودية للكون، وانتهاءً بالسلوك المجتمعي الإيجابي.

_______________________________

 

الهوامش:

(1) Acts of God? Religiosity and Natural Disasters Across Subnational World Districts.

(2) Narratives of Faith from the Haiti Earthquake.

(3) رابط الدراسة

https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0049648.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين