الروابط التي قتلتها المدينة (أزمة الأسر في الواقع الراهن)

كثيراً ما ننظر إلى الأزمات الاجتماعية باعتبارها رهينة الإرادة المنفردة، فننسب المشكلات لسوء الأخلاق أو تبدل الطباع أو نزغ الشيطان، لكن قراءة في النظرية الاجتماعية منذ ابن خلدون حتى اليوم تدلنا على أن القانون ينظم لكنه لا يعالج، وأن فهم الواقع والحوادث ينبغي أن ينصبَّ على ما هو خارج عن القانون، سلفاً ولاحقاً ومحيطاً.

 

ونتعرض في هذا المقال لثلاثة سياقات مهمة تحكم واقع الأسرة ليس في عالمنا الإسلامي فحسب، بل في سائر المجتمعات، ويواجَه بتحدياتها كل من يعتبر الأسرة وحدة مركزية والزواج علاقة تأسيسية في أي مجتمع، هذه السياقات هي: المكانية/ العرفية، والزمنية، والإعلامية.

 

1- السياقات المكانية/ العرفية:

 

يلاحظ المتابع لحال الأسرة تآكل الأعراف الضامنة لحسن البدء في الزواج، إذ غلبت المادية وانشغل الناس بمفاوضات المنزل والأثاث، حتى إن قضايا قائمة المنقولات التي يجب أن يوقّع عليها الزوج باتت مصدر شر كثير بين الناس تشهده أروقة المحاكم المصرية، على سبيل المثال، ويجد للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفساد، وضعفت أعراف التحكيم داخل الأسر والعوائل، فلم تعد النزاعات تُحَل داخل محاضن المجتمع بل تجد طريقها مباشرة للأقسام الشرطية وللقضاء.

 

وتؤدي سياسات المدينة دوراً مهماً في هذا الواقع؛ إذ إن تنائي الديار وانشغال الناس بالعمل الدائب لتحقيق الحد المعقول من نوعية الحياة وصعود المادية والفردية أدت إلى غياب الحكيم الضامن والقريب الكافل، وهذا من توابع التحديث في المجتمعات الإسلامية، إذ تم الاحتفاء بقيم المدن الحديثة والاستهزاء بقيم الريف والبادية على مدار عقود طويلة باعتبارها قيداً على الفرد والأسرة الصغيرة، وتصوير العائلة الكبرى باعتبارها عائقاً ضد «التقدم»، وما اقترن بذلك من حديث عن المجتمع الأبوي والقيم الأبوية وضرورة تحرر الفرد عموماً منها، والنساء على وجه الخصوص.

 

لكن المدينة ليست فقط القيم وطرق العيش، بل هي أيضاً إطار للسكن والحركة، لذلك ينبغي النظر للسياقات العمرانية والمعمارية كيف فتت الأسر وأدت لتشتيت العوائل بين أحياء متباعدة لا تمكن من العون والغوث.

 

وقد انتبه الناس لذلك منذ السبعينيات من القرن العشرين في مجتمعات عربية عديدة؛ فبدأت حركة لشراء الأراضي وتشييد بنايات أسرية للوالدين تضم الأسرة ويتزوج فيها الأبناء معاً لتشكيل مجتمع صغير فيما أسماه البعض «الأسرة الممتدة الجديدة» أو المعدّلة؛ فخلق هذا روحاً مختلفة في الأحياء الجديدة تختلف عن قلب المدينة المكتظ بسكانها، لكننا سنجد التشريعات العمرانية والمطورين العقاريين منذ قرابة 10 سنوات يبدؤون في احتلال سوق البناء، وتوافق التشريعات تلك المصالح، فتقرر بعض الدول منع تملك الأفراد في المدن الجديدة وقصر البناء على المطورين العقاريين، وهذا أثمر 3 نتائج؛ أولاً: احتكار التسعير للوحدات السكنية والميل للوحدات للفاخرة على حساب الاجتماعية، ثانياً: فصل الطبقات عن بعضها بعضاً في الأحياء العمرانية الجديدة والأحياء التي تم تطويرها في المدينة لجذب الاستثمارات كذلك وإخراج الفقراء منها، وأخيراً سد فرص تأسيس عوائل متساكنة في المستقبل في الأحياء والمدن الجديدة كما حدث سلفاً، وجعل إمكانية سكن الأسرة والأبناء حين يكبرون في نفس البناء أمراً شبه مستحيل.

 

وهذا يلفتنا لطبيعة المعمار كذلك، شقق صغيرة لا ترى السماء، وحيز يضيق بالطفل بما يعني اكتفاء الأسر بطفل واحد بشكل متصاعد، فضلاً عن نمط العلاقة بين حيز العمل وحيز البيت لصالح الأول، وهو ما سنذكره في السياق الزمني لاحقاً.

 

ولا شك أن هذا فكك الأعراف المجتمعية عامة والمرتبطة بالزواج، وسنجد في مجتمعات عديدة تغير أعراف الخطبة والزواج، وحل النزاع، واختفاء الفضل في الطلاق لغياب الضبط الاجتماعي وتوسع بل تغول مساحة التقاضي في الحياة الاجتماعية واختفاء وسطاء الصلح، ولا شك أن ضعف دور المسجد في هذا الفضاء الحضري ساهم في ضعف الأسرة، ولذلك حديث يطول.

 

2- السياقات الزمنية:

 

لم يكن هذا التحول في المدينة والسياسات العمرانية منفكاً عن سياق أوسع بدأ في اللحظة الكولونيالية (لحظة الاحتلال الغربي) مع تحديث المدن، وارتبط به أيضاً تغير بنية العمل التي هي في الحقيقة بنية زمنية.

 

ففائض الوقت الإنتاجي كان يوجه للفضاءات المجتمعية وجلسات السمر وزيارات الأقارب ورفقة الأصحاب؛ بما كان يخلق نسيجاً أخلاقياً يحمي قيم الأسرة والعفة والتضامن والمسؤولية والحرص على حسن السمعة.

 

وحين طغت الرأسمالية على تقدير قيمة الوقت وترجمتها مادياً ونقدياً (الوقت هو المال كما يقولون بالإنجليزية) طغت أوقات العمل على أوقات البر والتراحم، والرعاية والتنشئة.. هذا الخلل في خريطة الزمن أكبر من علاقات الزواج، ويتطلب تغييراً أوسع من حث الناس على حسن الخلق والإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان، فانتقصت بنية وقت العمل والتنافس داخل بيئة الإنتاج من وقت الأسرة، ثم غيرت طبيعة العلاقات لتغدو تنافسية في السوق وفي المجتمع، بما انعكس سلباً على الأسرة.

 

3- السياقات الإعلامية/ الإعلانية/ التقنية:

 

للأسرة شمل، تجمعه أنماط العيش وعلاقات أفرادها ولُحمة مجتمعها، وتسهم السياقات الإعلامية اليوم في تفريق هذا الشمل؛ عوالم من الخيانة والفضائحية ودراما تلفزيونية وأفلام وقنوات على الإنترنت تدعو للفاحشة وتقوم بالتطبيع مع المنكر، وهذا يناقض معنى العفاف والإحصان الذي تقوم عليه الأسرة ويقوم عليه الاجتماع الإسلامي.

 

وتتوالى الصور الاستهلاكية التي تغذي شهوة التملك وتربطها بالمكانة؛ فتدخل الأسر في دائرة الديون من أجل الحفاظ على واجهة اجتماعية للمباهاة، وتدلنا الإحصاءات على تأثير ذلك في استقرار الحياة والعلاقة بين الزوجين ومعاني الفضل والصبر والقناعة.

 

لو ربطنا هذا بفضاء يزاحم المودة والرحمة هو الفضاء الإلكتروني الذي يقتطع من الأوقات ويعزل أفراد الأسرة فيتواصلون تحت سقف واحد برسائل «واتساب»؛ فسندرك أن الدراسات التي تشير لتآكل القدرات اللغوية والاتصالية والتفاوضية باستخدام اللغة داخل الأسرة تنبهنا لعامل مهم يؤدي استمراره للخَرس الأسري وفقدان الرحمة.

 

لن تفلح القوانين في إصلاح ما أفسدته تلك السياقات الأوسع، فهذه مهمة إصلاح اجتماعي ينبغي أن يقوم بها الناس فتجمعهم كي يمكن الحديث عن مستقبل إنساني وبشري في حده الأدنى.. ذلك هو التحدي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين