الرشوة

أذعتها صباح يوم الخميس 16 من ربيع الأول 1377 من إذاعة حلب، تقبلها الله وجعلها خالصة لوجهه الكريم.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فحديثي إليك اليوم عن مرض اجتماعي فتَّاك، انتشر في كثير من الناس، وبدأ يعمل عمله في هدم كيان الأمة وإضعاف شخصيتها، أتدري ما هذا المرض الوبيل؟ إنه الرشوة!

لقد سمح الإسلام للإنسان بكسب المال من طرقه المشروعة، ودعاه إلى ذلك دعوة قوية صريحة، فقال الله سبحانه في سورة الجمعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ثم قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال أيضا في سورة المُلك: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى طلب الرزق والسعي في تحصيله، ولكن على وجه ليس فيه إضاعة حق الله عز وجل أو حق الناس، ومتى كانت الطرق التي توصل إلى كسب المال محرمةً أو فيها هَضْمُ حقٍّ لإنسان، فالمال الذي يأتي عن هذا الطريق حرام وباطل، وقد قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا﴾. فقَرَنَ سبحانه بين قتل النفس وأكل الأموال بالباطل، وأوعدَ مَنْ فعَل هذا أو ذاك بالعذاب الشديد.

وأكلُ المالِ بالباطل يدخل فيه القمار والغَصْب والغِشُ والاحتكار والغَبْنُ الفاحش والسرقة والرشوة، وترويج البضاعة بالكذب والحلف، وما أُخِذَ بطريق الخداع أو الاستحياء وما لا تطيب به نفس مالكه، كما يدخل فيه ما حرمته الشريعة الغراء كأثمان الخمور والمسكرات والملاهي والموبقات وسائر المكاسب المحرمة، فإن ذلك كله من أكل الأموال بالباطل.

والذي نخصّه بالحديث من هذه المكاسب الحرام هو الرشوة، ويمكن أن نُعَرِّفَها فنقول: هي أخذ المال بغير استحقاقه لإبطالِ حقٍّ، أو تمكينٍ من باطلٍ أو محظور، وأغلب ما تكون فيه الرشوة هو الحكم والقضاء، ولهذا جاء القرآن الكريم يقول في سورة البقرة: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون﴾.

وقد تكون الرشوة في غير الحكم والقضاء، كأن تكون بين تاجر وموظفٍ غير حاكم، وقد تلبس ثوباً غير ثوب الرشوة فتُعطى للمرتشي باسم الهدية أو التكريم، وما هي في حقيقة الأمر إلا رشوة بعينها، روى أبو داود في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شَفَعَ لرجل شفاعة فأهْدَى له عليها هدية، فقد أتى باباً كبيراً من أبواب الربا. وقد جاء في سيرة الإمام الأوزاعي أنَّ رجلاً جاء إليه وقال له: إنَّ والي بعلبك ظلمني، وأريد أن تكتب فيَّ إليه. وأتاه بقُلَّةِ عَسَل، فقال له الأوزاعي: إن شئتَ رددتُ عليك قُلَّتَك وأكتبْ إليه، وإن شئتَ أخذتُها ولا أكتب. فقال له الرجل: بل اكتب لي واردُدْها عليَّ. فكتب له الأوزاعي إلى أمير بعلبك أن ضَعْ عنه من خراجه، فشفَّعه الوالي فيه وحَطَّ عنه من جزيته ثلاثين درهما.

والرشوة كيفما كانت، سواءً قُدِّمَتْ للمرتشي باسم رشوة أو هدية أو تكريم أو محبة أو تقدير، كلها محرمة، لأنها أخذ مال دون استحقاق بل بمقابل إضاعةِ حق أو تمكينٍ من باطل أو تساهل في واجب، ولهذا عمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمها بقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ثَوْبَان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعنةُ الله على الراشي والمرتشي والرائش). يعني الذي يمشي بينهما.

وقد نبَّه الفقهاء رضي الله عنهم إلى أن الهدايا التي تُهدى إلى الحاكم أو القاضي إذا جاءته من إنسان لم يكن بينه وبين القاضي إهداءٌ قَبْلَ ولايته تكون من نوع الرشوة وإن سميت هدية، وأخذُها حرامٌ ومحظور، لأن المُهدي إذا لم يكن معتاداً الإهداءَ إلى القاضي أو الحاكم قبل ولايته، لا يكون إهداؤه إليه بعد الولاية إلا لغرض في نفسه، وهو إما التَقَوِّي به على باطله، أو التوصل بهديته إلى السكوت عنه فيما يخالف فيه شرعَ الله والعُرْفَ المتبع. قالوا: وأقل الأحوال في مثل هذه الهدية المحرمة أن يكون المُهدِي لها طالباً التقرب من الحاكم حتى يكسب بقربه منه شيئاً من التعظيم والنفوذ، أو حتى يكون له بهذا التقرب المُكتَسَبِ بالحرام استطالةٌ على خصومه الضعفاء، فيشتد تسلطُه واستعلاؤه عليهم بغير الحق، اعتماداً منه على الصلة التي عقدها بينه وبين الحاكم بالهدايا المحرمة، ولهذا حذر الفقهاء من قبول الهدايا التي تكون بسبب الوظيفة لا غير، ذلك لأن الإحسان له تأثير كبير في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حُبَّ المال وحُبِّ من أحسن إليها، فربما مالت نفس الحاكم أو القاضي أو الموظف إلى من أَهدَى إليه، فانحاز عن الحق وهو لا يشعر بذلك، ويظن بنفسه أنه لم يخرج عن الصواب والجادة في حكم أو قضاء أو تصرف، وما كان ذلك الانحياز الخفي منه إلا بسبب هديته إليه، والرشوة الصريحة لا تفعل زيادة عن هذا!!

وكيف يمكن أن تكون هذه الهدية حلالاً ولولا الوظيفة لما جاءته ولا أُهديت إليه، وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي حُمَيد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني أَسَد يقال له: عبد الله بن اللُّتْبِيَّة على الصدقة - أي على جباية الصدقة الواجبة - فلما قَدِمَ العاملُ قال: هذا لكم، وهذا أُهديَ لي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بالُ العامل نبعثه فيأتيَ فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي. فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فيْنظُرَ أيُهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده لا يأتي بشيءٍ – يعني بشيْ يحوزه لنفسه - إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاءٌ، أو بقرةً لها خُوارٌ أو شاةً تَيْعَرُ - أي تصوِّت وتصرخ- ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه حتى رأينا عُفْرَتي إبطيه - أي بياضَهما - وجعل يقول: ألا هل بلَّغت؟ ألا هل بلغت؟) فأفاد هذا الحديث الشريف أن الهدية التي تأتي بسبب الوظيفة هي مِنْ أكلِ المال بالباطل الذي حرَّمه الله تعالى ونَهَى عنه.

وأنت أيها المُهدي أو الراشي، حذارِ أن تظن إذا قَضَى لك القاضي وكنت مُبطِلاً متلاعباً فاقتطعتَ بقضائه مالَ إنسان بغير حق، حذار أن تظن أنك تأكل ذلك المال حلالاً طيباً، فإن الحرام لا يصير حلالاً بقضاء القاضي، روى البخاري ومسلم والإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دُرِسَت ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعلَّ بعضَكم أن يكون أَلْـحَنَ بحُجَّته - أي أفطن وأفصح بحجته - من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحوِ ما أسمع، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إِسطاماً في عنقه يوم القيامة، فليأخذها أو ليدعها).

هذا ما يتعلق بحكم الرشوة وتحريمها، وأما أثرها في المجتمع فواضحٌ ضرره، إنها تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وتُفْقِد الثقة بسلامة القضاء وترفع الطمأنينة بين الناس على حقوقهم، وتولد بينهم العداوة والبغضاء، وليس بعد هذا تفكك أو انقسام.

نسأل الله تعالى أن يجنبنا الرشوة الظاهرة والخفية، ويأخذ بأيدينا إلى الحلال الطيب فإنه كما قيل: إذا أكلتَ الحلال؛ أطعتَ الله شئتَ أو أبيت، وإذا أكلتَ الحرام؛ عصيتَ الله شئت أو أبيت. سلَّمنا الله وإياك من كل سوء، والسلام عليكم ورحمة الله.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين