الثياب بين الجمال والبذاذة:
وردت أحاديث تدعو إلى التقشُّف والتخشُّن والزهد، كما وردت الأحاديث التي تدعو إلى نظافة الثياب والتجمُّل بها. ونستطيع أن نقول: إنَّه لا مُنافاة بين هذه الأحاديث بعضها وبعض، فالتقشُّف المأمور به يمنع من ثوب الخيلاء والشهرة والسرف ويمنع من أن يجعل المسلم همَّه واهتمامَه بثيابه، يملأ منها عينيه ويجعل لها مكانا في نفسه وقلبه، ذاك هو المنهي عنه، ولكنه لا يمنع من الثوب النظيف اللطيف ذي البهاء والرونق.
والتجمُّل والتزيُّن المأمور به، يعني النهي عن الإمساك بخلاً وشحاً وتقتيراً ويعني النهي عن الفحش والتفحُّش، أي: القبح وعدم النظافة. والأمر في الواقع دقيق، ومداره على تصحيح النيَّة، فالمطلوب ألا يلبس عجباً وافتخاراً وإسرافاً، ولا يمسك بخلاً وشحاً وتقتيراً. وبين هذين الطرفين مجال للتزين والتجمُّل وللزهد والتقشف في نفس الوقت، وعلى الله قصد السبيل.
النعال:
مما يتصل باللباس، ما يلبس في القدم، فكيف كان يلبس صلى الله عليه وآله وسلم في قدميه؟
كان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس الخفَّ والنعلَ، ولا يلتزم بنوع معين، وجاءت الأخبار بوصف مفصَّل لنعل رسول الله، وكيف كان شكله، ولكن الذي يظهر من مجموع ما جاء في هذا الشأن أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يخص شيئاً من ذلك لذاته أو لشكله أو للونه، وإنما كان يعنيه من الخف أو النعل وظيفته وفائدته، ولعل البيئة العربية آنذاك لم تر مُنتعِلاً دائماً حريصاً على ذلك قبله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد كان يوصي أصحابه بالانتعال، بل بالاستكثار من النعال، ويُبيِّن لهم فائدة ذلك وقيمته.
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «استكثروا من النعال فإنَّ الرجل لا يزال راكباً ما انتعل» والمعنى: أنَّ النعل يسهل المشي والحركة، ويحمي القدمين فكأن المنتعل قريب من الراكب في ذلك.
ومعنى الاستكثار الاستظهار والاحتياط حينما يكون الإنسان في سفر ونحوه، وكانت النعال حينذاك ساذجة الصنع خفيفة المؤنة، عرضة للانقطاع والتلف، فجاء الأمر بالاستكثار من هنا.
وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في الانتعال أن يبدأ باليمين، حيث كان شأنه دائماً حبُّ التيامن في كل ما يفعل.
وكره للرجل إذا انقطع أحد نعليه أن يَمْشيَ بنعلٍ واحدة. ومن باب أَوْلى لا يمشيَ في نعل واحدة بدءا من غير عذر.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا انتعل احدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولينعلها جميعا أو ليخلعها جميعا» (رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عند مسلم:.. ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا انقطع شِسْعُ أحدكم، فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها» ولجابر نحوه عند مسلم والترمذي وأبي داود.
وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يوصي أصحابه بألا يلبسوا الخف إلا بعد نفضه، وذلك خشية أن يكون فيه ما يؤذي، ويشهد لذلك المناسبة التي جاء الأمر بذلك فيها، فعن أبي أمامة رضي الله عنه: دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخفين يلبسها، فلبس أحدهم، ثم جاء غراب، فاحتمل الآخر، فرمى به، فخرجت منه حية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس خفيه حتى ينفضها» رواه الطبراني في معجمه الكبير (جمع الفوائد:1/306).
ولا يقولن قائل: أنَّ هذا غير وارد الآن، فالبيوت المحكمة المكيفة الهواء من أين يأتيها الحشرات؟ لا مجال لمثل هذا القول، فإن هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس لبيئة دون بيئة، ولا لزمان دون زمان، وإذا كان هذا الأمر لا يتوجه إلى ساكن البيوت المحصَّنة هذه، فكم عددهم بالنسبة لغيرهم من المسلمين، ثم ساكن المساكن المحكمة هذه هل هو دائماً في داخلها؟ ألا يخلع خفيه خارجها في حديقة أو رحلة؟ أو حتى في مجال العمل، بل أكثر من هذا ألا يمكن في داخل البيت المحكم هذا أن يبتلى بشيء في داخل خفه أخطر من الحية، كأن يسقط في الخف (شفرة) أو نحوها من يد طفل عابث؟ وأياً كان الأمر فهو أمر آداب واستحباب، ومن يرد الله به خيراً يشرح صدره لسنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان لنا من كلمة حول لبس النعال، هو سؤال، ولكني لست أدري إلى من أتوجه به، نريد أن نسأل: كم مليوناً من أمتنا الإسلامية (للآن بغير نعال؟ كم مليونا من أمتنا (للآن) لم يسمع لحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «استكثروا من النعال».
مجرد سؤال، إلى من أتوجه به لست أدري؟
ثم إذا كنا بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام نرى الحفاء مُنتشراً في أمتنا، فكم فرَّطنا في سنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم.
تنظُّفه صلى الله عليه وآله وسلم وزينته:
ولعل الحديث عن التنظُّف والتزيُّن قريب من الحديث عن اللباس، فلم يكن من سنَّتِه صلى الله عليه وآله وسلم نظافة الملابس وجمالها فقط، بل كان يعنيه أمر النظافة في كل شيء في البيوت والأفنية والطرق والرحال، مثلاً اهتم بنظافة الملابس وجمالها.
ومن قبل كل ذلك نظافة الجسم وطهارته والتجمُّل والتزيُّن. وحديثنا هنا سيكون عن هذا الجانب الأخير من النظافة، وسنتناول فيه النواحي الآتية:
1- نظافة الأطراف.
۲- نظافة الجسد.
3 - نظافة الفم والأسنان.
4 - نظافة الرأس والشعر.
5- الطيب والعطر.
1- أما من حيث نظافة الأطراف
فنجد العناية بها كاملة، ويكفيها الوضوء المفروض للصلوات الخمس المفروضة، ولكنا نرى عناية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من ذلك، فنجده صلى الله عليه وآله وسلم يحثُّ على إحسان الوضوء وإسباغه، فقد روى الشيخان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنَّ أمتي يُدعون يوم القيامة غُرا محجَّلين من آثارِ الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيلَ غُرَّته، فليفعل».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». رواه مسلم.
ويحرص صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلِّم أصحابه كيف يكون الوضوء الكامل، فقد روى مسلم أنَّ عثمان رضي الله عنه توضَّأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضَّأ مثل وضوئي هذا ثم قال: «من توضأ هكذا غفر له ما تقدَّم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة».. والأحاديث في هذا الباب لا تقع تحت حصر.
وكذلك دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوضوء، وضوءًا مندوباً مأجوراً في ذاته، من غير أن يكون لصلاة أو وسيلة لعبادة أخرى.
عن عُقْبةَ بنِ عامرٍ قال: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي أرعاها، فروحتها لعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما يحدث الناس، وأدركت من قوله «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، يُقبل عليها بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة»، فقلت: ما أجود هذا، إني رأيتك جئت آنفا. قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول: أشهد إلا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم والنسائي والترمذي ولأبي داود وفيه: فقلت بخ بخ ما أجود هذا. وزاد الترمذي بعد عبده ورسوله: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» (جمع الفوائد: 1/34 ).
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من أظفاره» رواه مسلم.
ففي هذه الأحاديث - ومثلها كثير - نجد الوضوء مندوبا لذاته، مطلوباً لذاته مأجوراً لذاته.
فإذا أعدنا إلى الأذهان أن الوضوء مطلوب فرضاً وشرطاً لصحة الصلوات الخمس المكتوبات وشرطاً لصحة الصلاة النافلة كصلاة الضحى وصلاة الليل، وشرطاً لقراءة القرآن، ومسّ المصحف وحمله - أدركنا كم كان يتوضأ صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم والليلة.
بل إنه كان يتوضأ على الوضوء من غير أن ينتقض وضوءه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «من توضَّأ على ظهر فله عشر حسنات» أخرجه أبو داود وابن ماجه.
ويبقى في شأن نظافة الأطراف ما كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم في غسل الأيدي والأطراف قبل الأكل وبعده، فقد روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والحاكم: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده» [ومع أن هذا الحديث يتردَّد بين الضعف والحسن إلا أنَّه بهديه صلى الله عليه وآله وسلم أشبه، وقد رمز السيوطي في الجامع الصغير له بالحسن، وقال الحافظ المنذري: لا يخرج إسناده عن حدِّ الحُسْن].
والمراد بالوضوء هنا الوضوء اللغوي، أي: الغسل والتنظيف.
وقال الزين العراقي: «أراد ببركة الطعام نفع البدن به وكونه يمري فيه لما فيه من النظافة، فإنَّ الأكل معها بنهمة وشهوة بخلافه مع عدمها فربما يقذر الطعام، فلا ينفعه بل يضره»، وتتأكد سنة غسل الأيدي وتنظيفها عند النوم بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «من بات وفي يده غمر فأصابه شيء، فلا يلومنَّ إلا نفسه» رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي والحاكم، ورواه أبو داود مع زيادة: غمر (لم يغسله). وقال ابن حجر: بسند صحيح على شرط مسلم، وكلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كما كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم غسله الأيدي عند القيام من النوم، فقد ورد الأمر بذلك في الحديث الصحيح المتفق عليه..
2 - نظافة الجسد:
أما نظافة البدن، فيجعلها صلى الله عليه وآله وسلم حقاً على كل مسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، إذ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «حقٌّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، حتى روي عن بعض الصحابة وفقهاء السلف القول بوجوب غسل الجمعة.
كذلك كان من هديه وسنته صلى الله عليه وآله وسلم الغُسل للعيدين، وللإحرام وعند الاحتجام، روى أحمد والدار قطني وأبو داود واللفظ له: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل من أربع: من الجمعة والجنابة، والحجامة وغسل الميت» وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح، ويغتسل ويحدث: «إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك، (نيل الأوطار:1/302).
وهكذا كانت عنايته صلى الله عليه وآله وسلم بنظافة البدن، حيث سنَّ لأمته هذه الأغسال، وجعلها مرتَّبة موظَّفة مرتبطة بمواقيت لا تتغير ولا تتبدَّل، كالجمعة والعيدين ومناسبات دينية كالإحرام، والوقوف، والطواف، وبمناسبات جبلية كالحجامة والجنابة).
وما يستحقُّ التنبيه إليه أنَّ الطهارة في الأغسال الشرعية المسنونة منها والمفروضة وفي الوضوء تكون بالماء وحده. وهذا فيه من التيسير ما فيه، وفيه حمل الخلق على وسيلة واحدة للتطهير حتى لا يكون هناك مجال للتنافس والتباهي والتفاخر في استخدام عطور أو نحوها في هذا التطهُّر.
ثم أشير إلى ما سبق أن قرأته في إحدى المجلات التي تُعنى ببعض التطبيقات العلمية - قرأت في هذه المجلة أنَّ الماء هو الأقدر على إزالة رائحة الجسد. بل أذكر أن مما قالته المجلة: أنَّ الماء البارد بدرجة حرارته الطبيعية يكون أقدر من الماء الذي تكلف الإنسان تسخينه، فإن صحَّ هذا فهو إحدى المعجزات.
3- نظافة الفم والأسنان:
لعل البشرية لم ترَ عناية بهذه الناحية، واهتماماً بها مثلما رأته في هدي نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم وسُنَّتِه، لا من المعنيين بشؤون الصِّحَّة والوقاية والعلاج ولا من المعنيين بالآداب والسلوك. وإنَّ ما يتحدَّث به رجالُ الطب والعلم الآن من خطورة إهمال نظافة الفم والأسنان. وما ترتَّب على ذلك من دعوة وتوجيه إلى الاهتمام بنظافتها إن هذا الذي نراه الآن، ويظن البعض أنَّه من ثمار الاكتشافات الطبية الحديثة، وأثر من آثار النهضة الوافدة الواردة، كل هذا لا يبلغ شيئاً من عناية نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وتوجيهه أمته، فقد كان لا يدع السواك ليلاً أو نهاراً صائماً أو مفطراً، ويجعل السواك قربة لله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها إن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب» رواه أحمد والنسائي وهو للبخاري تعليق (نيل الاوطار: 1/125).
ويؤكد الأمر بالسواك بقوله عليه الصلاة والسلام: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (رواه الجماعة). ويكون أول فعله عندما يعود إلى بيته.
فعن المقدام بن شريح عن أبيه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يبدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» (رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي).
ويجعله أول فعله عندما يستيقظ: روى البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل يَشُوص فاه بالسواك» والشوص: الغسل والتنظيف، وقيل: التنقية، وقيل: الدلك، وقيل: الإمرار على الأسنان عرضاً. ولعل كل ذلك كان.
ولم يكن عند اليقظة من الليل فقط، فعن عائشة رضي الله عنها أن «النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرقدُ ليلاً ولا نهاراً، فيستيقظ إلا تسوَّك» (رواه أحمد وأبو داود).
وكذلك لم يترك السواك وهو صائم، فعن عامرِ بنِ ربيعة رضي الله عنه قال: «رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أحصى يتسوَّك وهو صائم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من خير خصال الصائم السواك».
ونحن نرى الآن من لا يحلو لهم الاقتداء والاستنان إلا بما يَفِد من الغرب فإذا نظَّفوا أسنانهم قالوا: قد اكتشف الطب حديثاً أنَّ معظم الأدواء وأخطرها يمكن اتقاؤه بنظافة الفم والأسنان، وأنَّ الرجل (العصري) هو الذي تلمع أسنانه ولا يؤذي من حوله برائحة فمه، كذا يقولون. ونسوا أنَّها سنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أن يكون لأصنام الغرب وجود.
ومما يستحق التسجيل هنا ما نشرته إحدى المجلات الإسلامية: (هي مجلة الاعتصام القاهرية): من أنَّ أحد مراكز البحث العلمي في انجلترا أجرى تحليلات وتجارب على (قضيب الأراك) الذي يُتخذ منه السواك، وثبت أنَّه يحوي مواد كيميائية ذات خواص فعالة في حماية الأسنان واللثة، وعلاج أمراض الفم، وتطييب رائحته. هذه مجرد ملاحظة نهديها لمن لا يعرفون قيمة الشيء إلا إذا جاءهم من الغرب.
5 - نظافة الرأس والشعر:
لعل من أجلى وأوضح مظاهر التنظف والتجمل ما يكون من رعاية الشعر والعناية به، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم الاهتمام بهذه الناحية كل الاهتمام، فقد كان يدني رأسه وهو مُعتكف في المسجد للسيدة عائشة رضي الله عنها تغسله له وترجله. (أخرجه الدار قطني من حديث عائشة رضي الله عنها).
وجاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته». (أخرجه الترمذي في الشمائل).
وذكر ابن الجوزي في كتاب الوفا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ وَمُشْطَهُ، فَإِذَا نَبَّهَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ اللَّيْلِ استاك وتوضَّأ وتمشط».
وأخرج الخطيب البغدادي في الكفاية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خمس لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعهن في سفر ولا حضر: المرآة، والمكحلة، والمشط، والمدراء والسواك» وفي رواية: وقارورة دهن بدل المدراء.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواكه ومشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرح لحيته».
وكدأبه صلى الله عليه وآله وسلم كان يشغله ويهمه أن يقتدي به أصحابه، ويكونوا في مثل تنظفه وتجمله، أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «من كان له شعر فليكرمه»، ورأى صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً ثائر شعر الرأس، فأشار إليه بإصلاح حاله، فلما فعل قال: صلى الله عليه وآله وسلم «أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنَّه شيطان؟».
ونحبُّ أن نؤكِّد هنا أنَّ شأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان دائماً التوسط والاعتدال، فلا يتوهمنَّ أحد أنَّه كان في شغل شاغل بالمشط والمرآة والدهن، حتى يبرر لهؤلاء الفارغين التافهين الذين لا يحملون في جيوبهم إلا المشط والمرآة والعطور، لا يقولن واحد من هؤلاء: هذه سنة نبيّنا، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم قد عناهم وأمثالهم بما رواه عنه الترمذي في الشمائل «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الترجل إلا غِبَّاً».
وكذلك أخرج الترمذي في الشمائل: «أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يترجل إلا غِبّاً» وأحسن ما قيل في تفسير (غِبّاً): عدم المواظبة عليه والاهتمام به والمبالغة فيه، بدون تحديد لذكر عدد من المرات، أو تحديد أوقات. المهم ألا يخالف المترجل سنة الاعتدال والقصد إلى الإسراف والخيلاء والإعجاب بالنفس والانشغال بها.
6 - التعطر والتزين:
لعل فيما مضى إشارات إلى هذه الناحية، وبيان لها، فنظافة الملابس ونظافة البدن هي أساس كل تعطر وكل تجمل وتزين. وقد صار معلوماً مشهوراً حُبُّه صلى الله عليه وآله وسلم للطِيب وحرصه عليه، ونفوره من الرائحة الكريهة.
قال أنس رضي الله عنه: «ما شممت ريحاً قط، ولا مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» رواه أحمد والبخاري.
وروى النسائي والبخاري في تاريخه عن محمد بن علي قال: سألت عائشة رضي الله عنها أكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتطيب؟ قالت: نعم، بذكارة الطيب المسك والعنبر، أي ما يصلح للرجال من المسك والعنبر.
وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «كان يستجمر بأَلْوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الألوة» (الألوة: بفتح الهمزة وضمها نوع من العود، وقيل نوع من خياره).
وكان لا يرد الطيب إذا أهديَ إليه، ويوصي أصحابه بذلك، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: «ثلاث لا تُردُّ الوسائد والدهن واللبن» والمعنى: يكرم الضيف بالطيب والوسادة، واللبن ولا يردها، فإنها هدية قليلة المنة، فلا ينبغي ردها (وهذا الحديث إسناده حسن، وقال ابن حبان: إسناده حسن ولكنه ليس على شرط البخاري... المناوي في الفيض).
وفي مسلم: «إذا عُرِض على أحدكم الريحان فلا يرده» وكان أنس بن مالك رضي الله عنه لا يرد الطيب، ويقول: «إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يردُّ الطيب» أخرجه أحمد والبخاري، والترمذي والنسائي.
وكذلك كان له صلى الله عليه وآله وسلم مرآة تسمى المدلة، ينظر فيها، وهو يرجِّل لحيته وشعره. وكان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم إذا نظر في المرأة أن يقول: «اللهم كما حَسَّنت خَلقي، فحسن خُلقي» ( الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية).
وهكذا كان هديه صلى الله عليه وآله وسلم، في كل شأنه ذكر وحمد وشكر، حتى في تنظفه وتعطره وتزينه وتجمله.
التتمة في الجزء التالي..
المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ
الحلقة السابقة هـــنا
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول