الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (4)

أوضح ما يشهد بأنَّ التجمُّل باللباس كان مقصوداً منه صلى الله عليه وآله وسلم، ما ورد في دعاء لبس الثوب الجديد، إذ جاء فيه: «الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في حياتي» وهكذا أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي.

وقد عرف عنه الصحابة رضي الله عنهم ذلك، أي حُبَّه لجمال الملابس ورونقها فيمر رضي الله عنه عمر بالسوق، فيرى رجلاً يبيع حُلة تعجبه بجمالها، وتبهره بمنظرها، فيكون أول ما يتبادر إلى ذهنه أن يذهب بها إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ليشتريها قائلا: «يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك»، ولكن الحلة التي أعجبت عمر كانت من الحرير، ومن أجل ذلك رفضها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: «إنما يلبس هذه من لا خلاقَ له في الآخرة (أخرجه الستة إلا الترمذي). [من لا خلاق له: قيل: معناه من لا نصيب له في الآخرة، وقيل: من لا حرمة له. وقيل: من لا دين له. فعلى الأول يكون محمولا على الكفار، وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم والكافر. والله أعلم. اهـ (شرح مسلم للنووي:14/38 )].

والذي يعنينا هنا أنَّ عمر رضي الله عنه، في عمله هذا يدرك رغبة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم اهتمامه بحسن الهيئة، وجمال المنظر.

وقد يقال: أنَّه وردت أحاديث تدعو إلى التقشُّف، والتخشُّن والزهد، وتُنفِّر من التزيُّن والتجمُّل، وجوابنا عن ذلك سيأتي قريباً إن شاء الله، حينما نتكلم عمَّا كرهه صلى الله عليه وآله وسلم من الثياب.

ب - ألوان الملابس:

ولعلنا لا نكون قد بعدنا كثيرا عن الحديث في جمال الملابس ونحن نتحدث عن ألوانها.

لم يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على لون واحد، بل لبس أكثر من لون، وربما نقول لبس الألوان كلها. وأيضاً لم يكن ذلك اضطراراً، وإنما كان اختياراً. فهل معنى ذلك أنَّه لم يفضل لوناً على لون أو ألواناً بعينها؟ وهل معنى ذلك أنَّه لم يكره ألوانا بعينها وينهى عنها؟

والجواب: أنَّه فضَّل ألواناً، وأثنى عليها، وكره ألواناً ونهى عنها. فضَّل اللون الأخضر. وأثنى عليه، ولبسه، وفضَّل اللون الأبيض، وأثنى عليه وأوصى بلبسه، ولبسه أيضاً، فأي اللونين أفضل؟

وكره اللون الأحمر، المعصفر والمزعفر، ونهى عنه مع أنَّه ورد أنَّه لبسه فكيف هذا؟ والجواب بعد استعراض النصوص التي وردت في هذا الشأن وبدون ضرورة لذكر هذه النصوص، خوفاً من التطويل - نستطيع أن نقول:

أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أحبَّ من الألوان أصفاها، وأرقّها، وكره منها الألوان الصارخة مثل الأحمر (المزعفر والمعصفر) وأما أنَّه لبسه، فالجواب أنَّه لبس (البرود) ولم تكن حمراء خالصة، وإنما كانت مخططة بالأحمر، ثم كانت مصبوغة الخيوط قبل النسيج، أما المعصفر والمزعفر، فقد كان مصبوغاً بعد النسيج، وقبل أن يعترض معترض قائلاً: وما الفرق بين الصبغ قبل النسيج وبعده؟، نجيب قائلين: أن الصبغ للخيوط قبل النسيج يجعل الصبغة تنطفئ نوعاً ما، ويذهب بريقها، وذلك لاحتكاك الخيوط أثناء النسيج، ومن هنا لبس صلى الله عليه وآله وسلم (البرود) لأنَّها كانت مما يصبغ قبل النسيج، ولأن الحمرة لم تكن فاقعة قانية.

ويشكل أيضاً ما ورد أنَّه لبس المزعفر والمعصفر، والجواب: أنَّه لبسه بعدما حال لونه، كما ورد في الرواية التي ذكرت ذلك، ولا مانع أن يكون قد خفف من لونه بغسله عدة مرات أو تركه في الشمس أياماً قبل أن يلبسه، وربما يشهد لهذا الاستنتاج ما روي عن الإمام الشافعي أنَّه نهى الرجل عن التزعفر بأي حال، وقال: وأمره إذا تزعفر أن يغسله (شرح مسلم: 14/55 ).

فدلَّ ذلك على أنَّ الغسل يذهب باشتداد الحمرة.

أما لماذا كره الأحمر، ونهى عنه فقد صرَّحت رواية مسلم بأنَّه كرهه لأنَّه شعار الكفار، فعن جبير ابن نفير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: «إنَّ هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» [عصفر الثوب: صبغه بالعصفر، والعصفر نبات يستعمل زهره قابلا، ويستخرج منه صبغ أحمر يصيغ به (المعجم الوسيط)].

وفي رواية أخرى لمسلم أيضاً، أنَّ عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: «أأمك أمرتك بهذا؟ قلت أأغسلها؟ قال: بل احرقها».

قال الإمام النووي: معنى أأمك: أمرتك بهذا أن هذا من لباس النساء وزِيِّهن، وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقها، فقيل: هو عقوبة وتغليظ لزجره، وزجر غيره عن مثل هذا الفعل.

فهنا - على تفسير الإمام النووي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم. أأمك أمرتك بهذا؟ نجد سببا آخر للنهي عن اللون الأحمر، وهو أنَّه من لباس النساء.

ولكون هذا النهي - مع صراحته - معارض بأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لبس حُلَّة حمراء اختلف الفقهاء في حكم الثياب الحمراء (المحمرة بالعصفر)، يقول النووي رضي الله عنه: «أباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعد هم وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، ولكنه قال: غيره أفضل منه» ونقل النووي (في الموضع نفسه) عن البيهقي: أنَّ الشافعي نهى بكل حال يتزعفر الرجل (أي يحمر بالزعفران) وقال البيهقي: لو اطلع الشافعي على هذه الأحاديث لتبع السنة في المعصفر كما تبعها في المزعفر، بل في المعصفر أولى».

وقد نقل ابن مفلح في الآداب الشرعية: 3/522 «أنَّ مذهب أبي حنيفة والشافعي تحريم لبس الثوب المزعفر على الرجل»، كما نقل عن الإمام أحمد أنَّه نص على كراهية الأحمر كراهية شديدة حتى النساء، إلا أن تريد به الزينة.

وواضح من كل ما تقدم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم يكره للمسلمين زي غير المسلمين، وللرجال زي النساء.

ولندع الكلام ما يكره من الثياب إلى موضعه الآتي قريباً. إن شاء الله.

ولنعد إلى مقصود هذه الفقرة وهو ألوان ملابسه صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: إنَّ الذي يلوح لنا، ونرتاح إليه أن أحب الألوان إلى نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم كان هو اللون الأبيض، ذلك أنَّه هو اللون الوحيد الذي أوصى به، جاء عن أنس رضي الله عنه: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خير ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم، وكفِّنُوا فيها موتاكم» (حديث حسن رواه الدار قطني)، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وصححه ابن القطان، وقال ابن حجر: رواه أصحاب السنن عن أبي داود، والحاكم أيضاً من حديث سمرة، ورواه ابن ماجة والطبراني في الكبير مع اختلاف وزيادات أخر.

وفي رواية الترمذي في الشمائل عن سمرة «البسوا البياض، فإنَّها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم».

ولعل أحسن تفسير للأطهر والأطيب: أنه أنظف وأحسن أو أجمل فاللون الأبيض هو الذي لا يقبل ولا يطاق إلا إذا كان بالغ النظافة فإن أي دَرَن فيه يصرخ في وجه صاحبه مُطالباً بالنظافة، وهو أجمل الألوان لمن يرى الجمال في الصفاء والنقاء، والهدوء والوقار، واللون الأبيض للآن ما زال عنوان النظافة والطهارة والجمال، ويتمناه كثيرون لكن من يطيقه قليل.

ج - دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند لبس الثوب:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استجدَّ ثوبا سمَّاه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداءً، ثم يقول: «اللهم لك الحمد كما كسوتنيه. أسألك خيره، وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره، وشر ما صنع له» (رواه أبو داود والترمذي).

وكان يوصي أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، بنحو ذلك، فمن ذلك، ما أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه، والترمذي وحسَّنه، من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: «من لبس ثوباً جديداً، فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمَّل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في حفظ الله وفي كنفه، وفي ستر الله حيا أو ميتا». (جمع الوسائل: 1/114).

وروي أيضاً عن معاذ بن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «من لبس ثوباً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله ما تقدم من ذنبه» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن ماجة.

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما اشترى عبد ثوباً بدينار، أو نصف دينار، فحمد الله عليه، إلا لم يبلغ ركبتيه، حتى يغفر الله له». (قال الحاكم: هذا حديث لا أعلم في إسناده أحداً ذكر بجرح والله أعلم).

د - كيف يلبس ويخلع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيامن في شأنه كله، ويحثُّ عليه، ويأمر به ومن أجل ذلك كان يبدأ في لبسه باليمين، ويبدأ في خلعه باليسار. جاء في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الترمذي في الشمائل: 1/136 قالت: «كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يحبُّ التيمُّن ما استطاع، في ترجُّله، وتنعله، وطهوره».

وروى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه».

هـ - الثياب التي كرهها صلى الله عليه وآله وسلم:

أولا: هناك من اللباس ما كرهه صلى الله عليه وآله وسلم لذاته، أيَّاً كان لونه، أو شكله، ورفضه رفضاً باتاً قاطعا بمعنى حرَّمه تحريماً قاطعاً، فلم يلبسه، وأعلن أنَّه لا يحل لمسلم أن يلبسه، وذلك: ثياب الحرير، فقد رأيناه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر رضي الله عنه حين عرض عليه الحُلَّة التي أعجبته (وكانت من حرير) ليشتريها يتجمَّل بها يوم الجمعة وللوفود: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» رواه الشيخان.

وفيما رواه الشيخان أيضاً: «لا تلبسوا الحرير، فإنَّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة».

وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله. ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي» رواه أبو داود بإسناد حسن.

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عند مسلم: «نهانا صلى الله عليه وآله وسلم عن خواتيم الذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير، والاستبرق والديباج» والمياثر: جمع ميثرة، وهي فراش كان يوضع فوق السروج، ويتخذ من الحرير، والقسي: ثياب مضلعة بالحرير، وكذا الاستبرق والديباج من أنواع الحرير. [والقَسِّيُّ ثيابٌ مَصنوعةٌ من الكَتَّانِ بها أشرِطةٌ من الحَريرِ على هيئة أضْلاعٍ. "وعن المياثِرِ"، وهي فُرشٌ كانت تَصنعُها العَجمُ؛ لتوضَعَ تحتَ الراكبِ على الدَّوابِّ مثل السُّرُجِ، وكانت تُصنعُ من الحريرِ وتُحشَى بالقُطنِ].

وقد أفادت هذه الأحاديث الصحيحة، وما فيها من تفصيل لأنواع الحرير تحريمه أياً كان نوعه وشكله على الرجال، وعلى هذا أجمع العلماء.

ثانيا: هناك من اللباس ما كرهه صلى الله عليه وآله وسلم للونه وما كرهه لشكله، وما كرهه لنوعه. فقد كره اللون الأحمر (المعصفر والمزعفر) وأصح ما جاء في النهي عن المعصفر حديثا عبد الله بن عمرو بن العاص اللذان أخرجها مسلم، وقد ذكرناها آنفا.

أما المزعفر فما وقع لنا فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تلبسوا شيئاً مسَّه زعفران ولا ورس» (ذكره صاحب جمع الفوائد: 1/307 عن رزين، وسكت عنه، ومن منهجه أن ما سكت عنه يكون حديثاً مقبولاً، صحيحاً أو حسناً).

وقد أشرنا قبلاً إلى ما رواه البيهقي في كتابه معرفة السنن، من أن الشافعي قال: أنهي الرجل أن يتزعفر بحال، وقال البيهقي: تبع الشافعي السنة في المزعفر، أي: صحَّت عنده أحاديث النهي عنه.

وقد جاءت أحاديث تنهى عن الأحمر نهياً عاماً، معصفراً أو مزعفراً، أو محمراً بغيرها، فمن ذلك، ما رواه أبو داود عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فرأى على رواحلنا، وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر، فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم؟ فقمنا سراعا لقوله حتى نفر بعض إبلنا، فأخذنا الأكسية فنزعناها. (جمع الفوائد: 1/307 ).

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أنَّ الشيطان يحبُّ الحمرة، فإياكم والحمرة» وورد نحو ذلك كثير.

وقد أخرج أبو داود والبزَّار عن امرأة من بني أسد، قالت: كنت في بيت زينب أم المؤمنين، ونحن نصبغ ثيابا لها بمَغْرَةٍ [المَغْرة: الطين الأحمر يصبغ به (المعجم الوسيط)]، اذ طلع علينا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب غسلت ثيابها، ووارت كلَّ حمرة ثم رجع فاطلع، فلما لم ير شيئاً دخل» (جمع الفوائد:1/307).

فهذا الحديث الأخير يضيف حكماً آخر، هو كراهية الحمرة حتى للنساء.

وكما أشرنا من قبل، أحاديث النهي هذه معارضة بما روي في الصحيحين من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لبس حُلَّة حمراء، وكان ذلك بمكة في حجَّة الوداع على ما صرَّحت به بعض الروايات، بل قد وردت أحاديث تنص على أنَّه لبس المعصفر والمزعفر، وأنَّه كان يصبغ بالورس والزعفران.

ولا مجال للترجيح بين هذه الأحاديث النبويّة الشريفة، فإنَّ التعارض بين أحاديث الصحيحين ذاتها. وإنما الذي يلوح لنا - والله أعلم - أن الأحمر ليس لوناً واحداً، فتستطيع الآن أن ترى أمامك عشرات الألوان وكلها يمكن أن يقال له الأحمر، فالأحمر الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (قطعاً) غير الأحمر الذي لبسه، والمعصفر والمزعفر الذي نهى عنه غير المعصفر والزعفر الذي لبسه، فقد يصبغ بالعصفر والزعفران، ويأتي اللون مختلفا بعدة درجات، وكلها مزعفر ومعصفر، وكلها أحمر.

ومعلوم أن عدد مرات الصبغ، أو درجة تركيز الصبغة أو نوع النسيج المصبوغ، أو طريقة الصبغ، كل ذلك وغيره يؤثر في درجة اللون وينتج ألوانا مختلفة. (وهذا على فرض ثبوت لبسه صلى الله عليه وآله وسلم للمعصفر والمزعفر، فإن ما ورد من ذلك فيه مقال).

أما لبسه صلى الله عليه وآله وسلم للحُلَّة الحمراء، وهذا هو الذي ورد في الصحيحين فقد أشرنا من قبل إلى أن الحلة كانت من برود اليمن، وهي ليست حمراء خالصة بل مخططة بالأسود والأحمر.

قال: العلامة ابن القيم: «كان بعض العلماء يلبس ثوباً مصبغاً بالحمرة، ويزعم أنَّه يتبع السنة، وهو غلط، فإن الحُلة الحمراء من برود اليمن، والبرد لا يصبغ أحمر صرفاً» (حكى هذا صاحب جمع الوسائل).

وعلى ضوء ما رأينا من هدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في آداب اللباس ونحوه من الآداب الاجتماعيَّة، نستطيع أن نقول: أنَّه كره اللون الأحمر الذي لا يليق بالمسلم، بل والمسلمة، أما تحديد درجة هذا اللون، فقد يرى أن العرف السليم لذوي المروءة والدين هو الذي يحدده.

ومن هنا، من حيث صعوبة تحديد درجة الحمرة المنهي عنها، كان حمل النهي على الكراهة فقط، لا للتحريم.

ثالثاً:

هناك من اللباس ما كرهه صلى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه لشكله وهيئته، وقد يد خل اللون أيضاً في هيئة الملابس. وما كرهه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الجانب أصناف ثلاثة:

ما يشبه زي غير المسلمين.

ما يشبه زي النساء للرجال، وزي الرجال للنساء.

ما يوحي بالكبر والخيلاء، ويؤدي إلى الإسراف.

١ - ويشهد لكراهية النوع الأول ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه مسلم، وذكرناه قبلاً، إذ قال عليه الصلاة والسلام: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» ويؤكِّد هذه الأحاديث الكثيرة التي تحثُّ على مخالفة غير المسلمين في أكثر من مجال، مما يدلُّ على أنَّ من ديننا التمايز والتباين عن غيرنا وقد ورد: «من تشبَّه بقوم فهو منهم»، وذلك أنَّ التشابه في الظاهر يوحِي بالتآلف ويقود إلى التقارُب في الباطن.

۲ - وأما ما يشبه زيَّ النساء للرجال، وزي الرجال للنساء، فقد ورد فيه وعيد شديد، فقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل» (أخرجه أبو داود والحاكم، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي في التلخيص، وقال في كتاب الكبائر: إسناده صحيح - انظر فيض القدير).

ولنا أن نفهم من هذا الحديث أنَّ النهي عن التشبه في الكلام والمشية والحركات أولى من التشبُّه في الملابس.

وقد جاء في هذا المعنى أيضاً حديث أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله الرَّجُلَةَ من النساء)، قال السيوطي في الجامع الصغير، وقال الذهبي في (الكبائر): إسناده حسن.

وهذا الحديث يؤكد ما أشرنا إليه من أنَّ التشبُّه في غير الثياب أولى بالنهي من التشبه في الثياب. حيث جاء لفظه عاما، بلعن (الرجلة) أي: المتشبِّهة بالرجال في أي شيء ما هو من خصائصهم بمُقتضى الفطرة والطبيعة، والدين والأخلاق.

3 - وأما ملابس الكبر والخيلاء، والشهرة والمباهاة، فقد كرهها صلى الله عليه وآله وسلم، وعلَّمنا ذلك بفعله وعمله، فلم يكن يختار أو يتحرى الملابس التي تميزه أو تفضله عن أمته، بل كانت ملابسه من نحو ما يلبس الناس، ومن مثل مما يلبس عامتهم.

رأى عبيد بن خالد المحاربي يجرُّ إزاره، فقال له: «ارفع إزارك، فإنَّه أتقى وأبقى... أمالك فيَّ أسوة؟ قال عبيد: فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وآله وسلم.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنَّه كان يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت أزرة صاحبي، يعني: النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. (شمائل الترمذي1/172-175).

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضلة ساقي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبيت، فلا حق للإزار في الكعبين. (رواه الترمذي والنسائي - جمع الفوائد 1/305 ).

وكراهية الإزار المسيل هنا لما يوحي به من كبر وخيلاء، حيث كانت البيئة لا تعرف هذا النمط من اللباس إلا لذوي العجب والمباهاة والكبرياء.

ومما يشهد بأنَّ الكراهية لهذه المعاني لا للإسبال في ذاته، ولا لجر الثوب في عينه - ما رواه الشيخان عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «من جرَّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة» ويسمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان رجلاً نحيفاً لا يستمسك الإزار بوسطه، فيقول: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعهد؟ فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك لست ممن يفعله خيلاء».

وقد ثبت النهي عن الإسراف والمخيلة بأثر من حديث صحيح. وليس العجب والخيلاء في جرِّ الثياب وإسبالها فقط، بل قد يكون في جنسها ونوعها، وشكلها ولونها، فكل ما كان كذلك، فهو داخل في النهي والوعيد، ولو لم يكن أسفل الكعبين بل قد يكون أسفل الكعبين ولا خيلاء ولا كبرياء فيه، أي: أن المدار في ذلك على العرف والاعتياد، وما تواضع عليه أهل المروءة والدين.

قال الحافظ الزين العراقي: «حدث للناس اصطلاح، وصار لكل صنف من الخلائق شعار يُعرفون به، فمهما كان ذلك بطريق الخيلاء، فلا شك في تحريمه، وما كان على سبيل العادة، فلا يجرى النهي فيه ما لم يصل إلى حد الإسراف المذموم» (شمائل الترمذي: 1/175 ).

والواقع أنَّ المدار في المنهي عنه من الثياب - فيما عدا الحرير - على العرف والاعتياد، والمراد العرف السليم المستقيم لذوي المروءة والدين.

مكروه الثياب وعلاقته بالجمال:

وأراني غير مبعد إذا قلت: إنَّ كل ما كرهه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه من الثياب هو ما يُنافي الجمال، فيفقد الثوب هدفاً من أهدافه، والجمال دائماً هو التوسُّط والملاءمة والمناسبة، أي: يكون الثوب على قامة صاحبه وقيمته فعلى هذا ليس في الحرير جمال، ولا هو لائق برجولة الرجال، وليس في المكروه من المزعفر والمعصفر أي جمال، وليس في الألوان الصارخة والفاقعة إلا الشذوذ والقبح وليس في اتخاذ ملابس غير المسلمين إلا القبح الذي يجرح المشاعر ويؤذي الناظرين، وليس في خروج الإنسان عن رجولته بلبس ملابس النساء إلا السخف الذي يمجه كل ذوق سليم.

وأما التباهي والعُجب والخيلاء، بملابس الشهرة والكبرياء، في أقبحها إذ توحي بتفاهة لابسها الذي يحاول أن يكمل بها، أو يعوض بها عجزه عن أن يكون له من المكارم والمحامد ما يعطف إليه الناس. ثم هو لن ينال بهذا العجب والخيلاء إلا مزيداً من الاستهانة والاحتقار.

فكل ما هو مكروه من الثياب هو ما لا يحقق الجمال في مَعْنييه الجمال الحسي في الألوان والأشكال، والجمال المعنوي في الرجولة والتواضع والتوافق مع البيئة والأمة.

للمقالة تتمة في الجزء التالي

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين